يعد الغالبية العظمى من سكان الجزيرة السورية أبناء عشائر، ويعرفّون أنفسهم على هذا الأساس. أما النظام الأسدي فقد نظر إلى عشائركم على أنها رمز من رموز التخلف والرجعية، على الرغم من أنه استمال كثيراً منكم وقدمكم على غيركم. ولكن كيف يمكن تفسير هذه العلاقة المعقدة بينكم وبين النظام، وهل “قسد” اليوم بعيدة عن النظام الأسدي في تعاملها مع عشائركم.
لا توجد مجموعة اجتماعية تعرضت لتغيير كبير في أوضاعها وثوابت وجودها مثلما تعرضت له العشائر في الجزيرة السورية. وقد زادت التعقيدات بعد أن تركت العشائر وأبناؤها وحدهم يواجهون تداعيات الثورة، بحلوها ومرها. لا سيما وأن منطقة الجزيرة تعد أكبر منطقة خرجت من سيطرة النظام ولأطول مدة. وتتابعت عليها عدة سلطات من مختلف الأيديولوجيات والمنابت.
حتى منتصف القرن العشرين وخروج المستعمر الفرنسي كان لكم صولة وجولة وكنتم “شركاء” في الحكم، وتحسب لكم السلطات العثمانية والفرنسية ألف حساب. وكان لآباكم وأجدادكم من زعماء العشائر مواقف سياسية يجب أن تؤخذ بالحسبان، كما كانوا وكلاء للمنطقة ووجهاء لها، وكانت السلطات المركزية والغزاة يتعاملون معهم على هذا الأساس. وكسائر سوريا وقف بعضهم ضد العثمانيين أو معهم، ضد الملك فيصل أو معه، ضد الفرنسيين أو معهم. مثلما كانت لكبرى عشائركم “ميليشيات” تدافع بها عن نفسها وتحمي أرزاقها وتغيِّر بها على من يعاديها.
بعد دخول تنظيمات الدولة الحديثة من شرطة وقضاء وأمن ومدارس ووظائف وبلديات وأحزاب وغيرها تراجع دور العشائر، وقل ارتباط الفرد بعشيرته. فتحولت العلاقة بينكم وبين أبناء عشائركم من علاقة سياسية حقيقية تقوم على تبادل الحماية والمصالح إلى علاقة معنوية تقوم على احترام الفرد لعشيرته بوصفها الرمز الذي يحمل أصله ومكانته وعزوته، غير أن دورها السياسي عنده تراجع. وقد ذهب هذا الدور إلى الأحزاب في فترة ما قبل البعث، ثم للأجهزة الأمنية في عهد النظام الأسدي، الذي فرض عليكم ثلاث معادلات تختارون من بينها ما تشاؤون: الأولى الجلوس في البيت والتزام الحياد الكامل. الثانية التعاون معه من منطلق التابع المطيع وليس من منطلق الشريك، وهنا يجازى الزعيم على تعاونه. أما الخيار الثالث فهو السجن لمن يقف في وجه النظام.
بعد دخول تنظيمات الدولة الحديثة من شرطة وقضاء وأمن ومدارس ووظائف وبلديات وأحزاب وغيرها تراجع دور العشائر، وقل ارتباط الفرد بعشيرته
هكذا آثر القسم الأكبر منكم الجلوس في بيوتهم لأن قوتهم وميليشياتهم، التي لم يعد لها وجود يذكر، لم تكن تقارن بقوة النظام، وذهب بعضهم الآخر إلى التعاون مع النظام الأسدي وأجهزته الأمنية، والتنعم بمكانة ووجاهة زائفتين (لأنها تمثل الشخص وليس العشيرة) كانتا في أغلب الأحيان بلا أهمية تذكر، وعلى حساب مكانتهم بين أبناء عشائرهم.
اليوم تواجه عشائر الجزيرة نفس المعادلات مع ” قسد”. الفرق الوحيد بين ” قسد” والنظام أن قسد أضعف من النظام، على الرغم من الضعف الذي يعانيه النظام أيضا. وهذا ما يفسر أن قسد تعطي مكانة أكبر لشيوخ العشائر. ولكن المعادلة هي هي، لأن قسد في النهاية (من طينة النظام) تبحث عن تابعين وموالين وليس شركاء. ولذلك فإن المتعاونين معها من الشيوخ والوجهاء ليس لهم أي مكانة لا عند قسد ولا عند أبناء عشائرهم. هم يقبلون بما تعطيهم إياه قسد دون التفكير في خيارات أخرى.
أما بالنسبة للعشائر عموما فقد كشفت الثورة قوة أبنائها وضعف شيوخهم، بعد أن تبين أن الشيوخ لا يمونون على أبناء عشائرهم ولا يستطيعون أن يفرضوا عليهم أي موقف سياسي. وهذا يعود إلى قبول زعماء العشائر الانضمام إلى عالم السلطة ومكاسبها وتركهم لأبناء عشائرهم يواجهون الفساد والظلم والعوز بمفردهم. هكذا انقسمت العشائر، وحتى العائلة الواحدة عموديا بين مؤيد ومعارض. حتى أن السوريين تعاموا مع الثورة بوصفهم سوريين أولا وليس بوصفهم أبناء عشائر.
إذا أردتم اليوم، بوصفكم زعماء عشائر الجزيرة، القيام بدور أكبر في الوضع السوري الحالي المفتوح على احتمالات عديدة، واسترجاع مكانتكم السابقة بوصفكم رعاة لمصالح أبناء عشائركم ومدافعين عن منطقتكم وكرامة أهلها، واستغلال حاجة قسد (وحتى النظام) لكم أكثر من حاجتكم لقسد، فعليكم القيام بثلاث خطوات، من دونها ستتحولون إلى مجرد أرقام لا قيمة لها في المعادلات الحالية، وهذا يعني أنه ليس لديكم ما تخسرونه حتى لا تقوموا بهذه الخطوات، (إذا غضضنا الطرف عن الفتات الذي يترك لبعضكم) وهذه الخطوات هي: الأولى أن تعودوا إلى أبناء عشائركم لتستمعوا إلى خياراتهم ومواقفهم. فقوتكم يجب أن تستمد من أبناء عشائركم، وكل قوة لا تستمد من هؤلاء الأبناء هي في النهاية قوة وهمية لا قيمة لها. وهذا يعني أيضا أنكم يجب أن تمثلوا مصالح وحقوق أبناء عشائركم أيضا بوصفكم ممثلين لها ومؤتمنين عليها، وهذا هو أصل المشيخة بالأساس.
الخطوة الثانية أن تبادروا إلى التحالف مع العشائر الأخرى بأنفسكم، وليس أن يفرض عليكم تحالفات لصالح هذا الطرف أو برعاية ذاك الطرف. فاليوم لا بد من أن ينظر زعيم العشيرة لنفسه على أنه شخصية سياسية ووطنية، وعارفة بشؤون المنطقة ومسؤول عنها، على شاكلة شيوخ العشائر الذين كانوا يقودون الثورات في الثلاثينيات والأربعينيات من تاريخ سوريا الحديث، حتى أن بعض الحكومات لم تكن لتتشكل من دون رضاكم. أما دوركم الحالي في المصالحات بين بعض الأفراد المقتتلين، على أهميته، فليست من مهامكم، ولا من السياسة في شيء.
الخطوة الثالثة عليكم أن تدركوا أن قسد بحاجتكم أكثر مما أنتم بحاجتها، وأن النظام بحاجتكم أيضا. وهذا يتطلب أن تتقدموا خطوة إلى الأمام وتطالبوا بأن تكونوا شركاء بالسلطة (وخاصة في الجانب الأمني والعسكري، لأنه الجانب الأهم والوجه الحقيقي للشراكة) وأنه يجب ألا يُعين الموظفون في المناصب العليا إلا بموافقتهم ومشورتهم. كما يجب أن تشاركوا في التخطيط للسياسات العامة ورسم الرؤى المستقبلية لوضع المنطقة برمتها. وليس لوجودكم أي معنى في صفوف قسد إذا تجاهلتم مثل تلك القضايا.
وغني عن القول إنه لن يقدم على مثل تلك الخطوات إلا من يشعر أنه شيخ بكل ما تحمل الكلمة من معنى، وأن يتمتع بمحبة عالية للناس وشعور بالمسؤولية تجاههم، أما من يريد البقاء في أحضان قسد (والنظام) ويتنعم بالمزايا والمكاسب فعليه أن يعلم أن ذلك على حساب كرامته، وأن أبناء عشيرته هم أكثر من يدرك ذلك.
بقي أن نقول إنه كلما كانت قيم الزعيم الأخلاقية عالية، وترفَّع عن المكاسب الشخصية الضيقة، ونأى بنفسه عن العلاقات الزبانية، علا في عيون أبناء عشيرته من جهة، وحسبت له قسد والنظام حسابا أعلى. والعكس صحيح أيضا. ولكم الخيار.
“تلفزيون سوريا”