كنت قد أشرت في صفحتي على فيسبوك، بمناسبة قصة الفتاة الأمريكية التي تمنح الأحضان للمحتاجين إليها، مقابل مبلغ كبير في الساعة، بحجة أن الأحضان تهدئ الانفعالات وتمنح شيئا من الاسترخاء، وتجعل الشخص المحتضَن جديدا في تذوقه للحياة. أشرت في هذا الصدد إلى شخصية خيري، الذي كنت أعرفه قديما، والذي كان يمنح الأحضان بشكل أكثر عنفا وشراسة، وقبل أن يطلبها أي شخص منه، مقابل سيجارة فقط.
كان خيري شابا في أواسط الثلاثينيات، طويلا وعريضا، وله شعر كثيف، غالبا ينكشه بأمشاط الخشب، ليعقد كثيرا من مظهره، لم أكن أعرف أين يعمل، وكيف يقضي وقته بعيدا عن الأحضان، وإن كنت سمعت أنه يكتب شعرا بدائيا خاليا من العواطف، وبعض الخواطر التي يلوم فيها الزمن وغدره، أسوة بكثيرين من جيله، كانت تستهويهم تلك الكتابات، التي غالبا لن تتطور، وستنتهي في مرحلة ما من العمر.
وكنت أيام المدرسة الثانوية، محاطا بأكثر من عشر طلاب زملاء، يملكون دفاتر ملونة، يكتبون فيها بخطوط مفتعلة، مثل تلك الخواطر، ويعرضونها على زملائهم، وهم ينظرون إليهم بغطرسة، وعظمة، ولا أذكر الآن منهم أي اسم، ذلك أن خواطرهم ماتت، وأسماءهم استمرت أسماء عادية في خضم الحياة.
قلت إن الشاب خيري، كان يحب احتضان الناس، يبتسم ويباغت الشخص الذي ينوي احتضانه، ولا يتركه حتى يسمع أنين ظهره وكتفيه، ثم يطلب سيجارة بحجة أنه خلصه من(الرطوبة) التي تمسك بعظامه، وكان ثمة اعتقاد سائد أن مثل تلك الخشونة تخلص الجسم من الآلام الروماتيزمية، مثل الاعتقاد أن التعرض لصدمة كهربائية بسيطة، يساعد على إنهاء آلام الجسم، مهما كانت أسبابها، وكنت صغيرا أشاهد أشخاصا غير متزنين في رأيي، يطاردون أعمدة الكهرباء بعد سقوط المطر، حيث يمكن أن تكون مختبئة شحنات قليلة، تمنحهم ذلك العلاج الوهمي. لا أكتب لأضيء أحضان خيري الذي يطالب بسيجارة فقط، إن كان من احتضنه مدخنا، وبثمن سيجارة إن كان غير مدخن، لكن وددت الحديث قليلا عن مواصفات الشخصية الروائية التي قد تدخل نصا ما، وذلك حديث يعشقه الروائيون، ودائما ما تجد عند كل واحد منهم، شخصا أو أشخاصا عرفهم في حياته، يمثلون نماذج لشخصيات لا بد أن تكتب في نصوصهم، وقد يحدث هذا أو لا يحدث على الإطلاق.
كان خيري إذن شخصية روائية، يمكن إن منحت شيئا من الإيحاء، وإن أعيد رسمها من جديد، أن تكتب في نص، لكن ما قيمة النص الذي يقوم ببطولته شاب يحتضن الناس مقابل سيجارة؟ خاصة أن الزمن تغير كثيرا، وأحاطت الفواجع بكثير من البلاد، خاصة في منطقتنا العربية، وأيضا في الغرب بسبب الهجرة، وضمور الاقتصاد وفيروس كورونا، وحرب روسيا- أوكرانيا، وتغير المناخ الذي جلب الصيف بكل فتوته وعنفوانه الذي نعرفه في بلادنا، إلى البلاد الغربية هذا العام، ما أدى لاشتعال الحرائق، وموت الكثيرين جراء درجات الحرارة المرتفعة.
الشخصية الروائية إذن ليست مشكلة أبدا، فالعثور عليها سهل للغاية، وممكن جدا أن تلتقي بشخص لعدة دقائق، وتكتبه في مئات الصفحات، التي يهبها لك الخيال.
ماذا سيقول الكاتب حين يوظف شخصية محتضن إذن؟ ليس شيئا كثيرا بلا شك، لأن كتابة الرواية هذه الأيام في رأيي، بعيدا عن الحزن والأسى، وإضاءة ما يحدث هنا وهناك، لن تمنح عملا جليلا. سيدخل هذا المحتضن نصا عاديا، يفرغ فيه طاقة العنف تلك، ويحصل على سجائره، وقد ينتبه إليه» في النص طبعا» ناد رياضي، فيوظفه مدلكا للاعبين، أو تنتبه إليه فتاة يائسة، فتحبه، وتسعى إلى أحضانه، وربما دخل السجن بتهمة ممارسة هواية بشعة، ولو كتبت أنا مثل هذه الشخصية، سأضيف أشياء أخرى غريبة، لكن في النهاية، لن يكون النص جليلا كما ذكرت.
لا أنسى بالطبع موضوع الكتابة من أجل الاستمتاع بالكتابة، أو حتى لمجرد الكتابة، وهذا موضوع مشروع، وكلنا كتبنا في ما مضى نصوصا، قد لا تقترب من قضايانا الملحة، لكن فيها شيء قد يحبه القارئ، لكن هذا حين كانت الحياة أفضل، وأهدأ، والعالم فيه استقرار ما، حتى لو لم تكن ثمة رفاهية.
وأذكر حين كتبت روايتي الأولى التي سميتها: «كرمكول» على اسم قريتي التي ولدت فيها في شمال السودان، وقبل الشاعر الراحل كمال عبد الحليم، صاحب دار الغد في القاهرة آنذاك، أن ينشرها، بعد أن رهنت ساعتي لتمويل النشر، أن سألني:
عباراتك قوية وفيها شعر كثيف، لكن ماذا تقصد بهذه الرواية، لماذا كتبتها؟
كان سؤالا مهما بلا شك، والحقيقة أنني لم أكن أعرف ماذا أقصد، إنه نص خطر ببالي وكتبته، وتحدثت فيه عن مجتمع قرية ريفية صغيرة في فترة ما، عن الشهوات ربما، عن حادث اغتصاب وقع، لكن لم يكن واضحا في النص، وهكذا أجبت الشاعر بأنني لا أعرف، ولم يكن ذلك عائقا لينشر النص الذي نجح إلى حد ما آنذاك، وشجعني على الاستمرار..
الشخصية الروائية إذن ليست مشكلة أبدا، فالعثور عليها سهل للغاية، وممكن جدا أن تلتقي بشخص لعدة دقائق، وتكتبه في مئات الصفحات، التي يهبها لك الخيال، وفي رحلة أخيرة للسودان، التقيت بأشخاص مثل هؤلاء، كلهم نصوص حية، قد تضيف إن أجاد أحد استخدامها، لكن يظل الموضوع، هو المهم في الفترة الحالية، كما ذكرت، أي أن تكتب موضوعا مستوحى مما يحدث. ولو نظرنا فقط للصراعات القبلية التي تحدث في السودان هذه الأيام، وبحثنا في تاريخ القبائل، وكتبنا عن التعايش السلمي وكيف يمكن استعادته بعد أن قام البعض بتمزيقه، مع سبق الإصرار والترصد، لربما حصلنا على أعمال تستحق القراءة.
كاتب سوداني
“القدس العربي”