سيؤدي الهجوم التركي على شمال سورية إلى موجات جديدة من النزوح الداخلي وزيادة المعاناة الإنسانية، وإضعاف قوات سورية الديمقراطية والإدارة الذاتية، وتقويض ثقة هاتين المؤسستين بالولايات المتحدة.
* * *
بعد التهديدات التي أطلقها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان باجتياح جديد للشمال السوري، يخشى قادة المنطقة المحلية والأحزاب السياسية والنشطاء المدنيون من تحويل أردوغان تهديداته باجتياح جديد لشمال سورية، واحتلال منبج وتل رفعت بحجة مكافحة الإرهاب، إلى حقيقة. هذا القلق، الذي لا يبدو أنها ستبدده مجرد تصريحات خجولة رافضة لتلك العمليات التركية قد يطلقها المسؤولون الأميركيون، بل إنها ستكون سبباً في ازدياد التداعي في الثقة بصورة غير رسمية بين الإدارة الذاتية وقوات سورية الديمقراطية على الأرض من جهة، وبين قوات التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأميركية من جهة ثانية.
تزداد مع الوقت ملامح القيام بهجوم تركي على شمال حلب في أي لحظة، والمنطقة المستهدفة، بحسب تصريح أردوغان نفسه، هي تل رفعت المحاصرة أصلاً ومنبج التي ترتبط بمناطق شرق الفرات من خلال طريق “إم 4” الذي يقطع نهر الفرات. وتعاني المنطقتان اللتان تحكمهما “قسد” أصلاً ومنذ سنوات من تكدس كبير للنازحين الهاربين من الغزوتين التركيتين السابقتين (درع الفرات وغصن الزيتون)، سواء كانوا من سكان بلدات الباب وجرابلس أولاً أو من عفرين ثانياً.
وهكذا، سيؤدي الغزو التركي لفتح باب جديد لحركة نزوح ستضر بتلك الفئات النازحة الهشة أصلاً، يُضاف إليهم السكان الأصليون للمنطقتين المستهدفتين الذين ما يزالون يتذكرون الانتهاكات الى ارتكبها المقاتلون المتشددون حين استباحوا البيوت الكردية في عفرين وراس العين وتل أبيض بحماية تركية سابقاً. وسيؤدي مشهد الدمار هذا إلى اتساع فجوة عدم الثقة بين الأكراد والعرب السنة في شرق الفرات نفسها. وستكون عملية نزوح كبيرة جديدة في اتجاه مناطق شرق الفرات نتيجة حتمية للهجوم المقبل. وهذا بحدّ ذاته حمل ثقيل على كاهل الإدارة المحلية التي تعاني أصلاً من الإرهاق، وسوء الخدمات، وضعف القدرات، والفساد، وازدياد التباعد بينها وبين القاعدة الاجتماعية.
قد يتسبب الهجوم التركي بالكثير من التوترات والتصدعات في بيئة اجتماعية متنوعة تتميز بكونها حتى هذه اللحظة الأقل تصادماً وحرارة بين المكونات التي تتشكل منها. وقد يدفع هذا الكثير من المناطق المحسوبة على العرب السنة، وخاصة نصف الدائرة الذي يمتد من جنوب الحسكة إلى غرب مدينة الرقة، مروراً بمحاذاة نهر الفرات حتى الحدود العراقية، على التفكير بمستقبل خاص بها بعيداً عن التشاركية الحالية التي تشكلّت بجهد الإدارة الذاتية. وهذا إضعاف لهيكل الإدارة وتماسك “قسد” الذي يتشكل من تلك التكوينات العربية. وقد يحفز ذلك إردوعان على استهداف مناطق جديدة من المنطقة الآمنة ذات الأغلبية الكردية، مما يؤدي بدوره إلى هجرة السكان الكُرد أو اتجاههم نحو التشدد والمزيد من التسلح، في حين سيختفي المسيحيون واليزيديون والشركس بشكل شبه كلي من تلك المنطقة المتنوعة مع الوقت، وستتحول المنطقة عند عدم حصولها على ضمانات موثوقة بأنها لن تخسر المزيد في المستقبل إلى منطقة ذات لون واحد تديرها جماعات سنية متشددة مُسلحة لا تحترم حقوق الإنسان وتكون في خدمة القرار التركي على حساب السوريين.
سوف يتسبب الهجوم في حال السماح بحصوله في كارثة كبيرة لمكانة واشنطن في عموم الشرق الأوسط، وسيرسل رسالة جديدة لحلفائها مفادها بأن التحالف مع واشنطن غير مؤمن، وسيدفع “قسد” والجماعات المعارضة في التنف إلى التفكير في حلول بديلة عن اعتمادهم الرئيسي على التحالف مع واشنطن. وقد يعزز الرد الأميركي المخفف تجاه تركيا الرواية السلبية التي تتبناها بعض الجهات المتشددة داخل “قسد” ووحدات حماية الشعب ضد دور واشنطن.
في الوقت الحالي، يرى الكثيرون أن الولايات المتحدة لم تعد تملك مفاتيح الحلول للأزمات في الشرق الأوسط أو أن واشنطن ستضحي بحلفائها الصغار مقابل تحقيق مكاسب من حلفائها الأكبر. وبالتأكيد، سيصبّ هذا الخطاب في صالح من بدأ الترويج في الشرق الأوسط لضرورة بناء الجسور مع موسكو وبكين عوضا عن واشنطن، خاصة بعد ما يشيع من حديث عن أفول نجم واشنطن في المشهد السياسي الدولي، وهو ما يتجلى أيضا في فشل الولايات المتحدة في حماية المناطق الواقعة خارج حدود العاصمة الصومالية مقديشو التي أصبحت مرتعا للجماعات المتطرفة والميليشيات، إضافة إلى عدم قدرتها على حسم الصراع بصورة إيجابية في حوض الدونباس لصالح حكومة زيلنيسكي.
كما لن تسمح الجماهير المحلية للإدارة الذاتية ولا لـ”قسد” بالتمسك بعلاقاتها مع واشنطن التي تركتهم مجدداً وحيدين أمام الغزو التركي. وسيزيد هذا بالتالي من سطوة التيارات المرتابة من مواقف واشنطن داخل الحراك الكردي الذي يُشكّل الإدارة الذاتية ويدعوها إلى التراجع عن علاقاتها مع واشنطن. وقد بدأت هذه الأصوات في الظهور منذ الآن، وتصاعد الحديث عن طعنة أميركية جديدة في الظهر لحلفائها في سورية.
إذا وقع الهجوم التركي، فسيعني ازدياد خسائر “قسد” وتراجع وزنهما في المشهد السياسي السوري. وسيكون لذلك تداعيات كبيرة مرتبطة بازدياد التغلغل الإيراني في مناطق “قسد”، وانصياع “قسد” والإدارة الذاتية أكثر لمطالب موسكو ودمشق، وتعزيز التمركزات العسكرية الروسية بحجة ظاهرية مرتبطة بحماية المنطقة. سيكون ذلك مدعاة لطلاق أسرع في العلاقة مع التحالف الدولي. وبالطبع، سيزيد هذا الوضع من قوة الخلايا الإرهابية التي يتكون أغلبها من بقايا “داعش” و”القاعدة” ويسهم في انبعاثهما من جديد.
من المتوقع أن تبدأ الدعاية الإيرانية والروسية في الترويج لضرورة عودة حكومة الأسد للسيطرة على كامل شمال وشرق سورية لحماية السكان من أخطار تركيا مجدداً، ولتخوين واشنطن في علاقاتها مع شركائها على الأرض. وستجد الدعاية الروسية التي تروج لفكرة أن الولايات المتحدة لا تعير اهتماماً لحلفائها مثالًا آخر لتسليط الضوء عليه. وستتسبب تلك الدعاية في زعزعة الثقة بالمستقبل لدى “قسد” التي ستبحث عن طوق نجاة من خلال روسيا مع دمشق -أو حتى التقرب من إيران من خلال العناصر العربية في تلك القوات.
في الواقع، لن يقتصر أثر الهجوم التركي على سورية فقط. فبعد الانسحاب الأولي لواشنطن من سورية، سيعزز أي فشل آخر للولايات المتحدة في التعامل مع الصراع النفوذ الإيراني في أجزاء من العراق بينما يقوض قوة حلفاء واشنطن هناك. كما ستزيد مثل هذه التطورات من نفوذ إيران في العراق، وستضعف مواقع حلفاء واشنطن هناك. ويتهم الأكراد واشنطن بأنها تركتهم وحيدين رغم العلاقات التاريخية بينهم، وسمحت للميليشيات الحليفة لإيران بالحصول على كركوك المهمة لهم.
في الآونة الأخيرة، أصبحت التيارات اليسارية ذات الميول الراديكالية المتنامية في الساحة السياسية في شمال شرق سورية تنظر إلى الولايات المتحدة كخصم. وبذلك، فإن ترويج تلك الرواية، إضافة الى الانتهاكات المحتملة التي قد تنتج عن الغزو التركي المحتمل، سيؤثران على علاقات واشنطن مع باقي الأكراد، سواء في الإقليم أو في تركيا أو إيران. وإضافة الى ذلك، أدت الهجمات التي شنتها تركيا على إقليم كردستان العراق، بما في ذلك الهجوم الذي استهدف موقعاً سياحياً في 20 تموز (يوليو) وأسفر عن مقتل ثمانية أشخاص على الأقل وإصابة العشرات من السياح الزائرين، إلى تنامي الغضب تجاه تركيا.
كان الهجوم التركي المحتمل على شمال شرق سورية في طور الإعداد منذ فترة طويلة، وهو بالكاد تحول غير متوقع للأحداث، كما ورد في مقال عن هذا الموضوع لهذا الكاتب قبل سنوات. وفي حال بقيت واشنطن صامتة وفشلت في التحرك لمنع حدوث هذا الهجوم، فلن تتمكن من إدعاء الصدمة من النتائج لاحقا. لذلك، فإن السكوت وعدم فعالية واشنطن في ردع الهجوم التركي المحتمل سيكون بمثابة إعطاء ضوء أخضر لتركيا للشروع في بدء الهجوم.
لن ينفع تنديد واشنطن أو قيام بعض من القادة السياسيين في واشنطن من أمثال السيد ليندسي غراهام بزيارة المنطقة لتخفيف احتقان سكان تلك المنطقة تجاه مواقف التحالف الدولي من عدوانية أنقرة. وتتطلع الإدارة الذاتية إلى واشنطن للعمل المكثف لتخفيف تلك العدوانية، وبناء جسور بين الأطراف المعنية بالتصادم، والتدخل لمنع كارثة إنسانية جديدة قد تولد شرخاً اجتماعياً بين مكونات المنطقة الآمنة القائمة على الأرض، وليس المنطقة الآمنة التي يتحدث عنها أردوغان.
تبقى الخيارات البديلة مطروحة على الطاولة، حيث قد يدفع العمل على بناء روابط سياسية واقتصادية حقيقية بين شمال شرق سورية وتركيا بعض العداء التركي لتلك المنطقة. كما يمكن في حال إيجاد صعوبة في بناء تلك العلاقات السماح لقادة شرق الفرات إما الانخراط السياسي ضمن العملية الدستورية في جنيف، أو دفع الإدارة الذاتية إلى التحاور المباشر مع دمشق للتوصل إلى صيغة دستورية نهائية لتلك المنطقة، تحميها من الأخطار الخارجية وتحافظ على هويتها المحلية. والرابط الأساسي بين هذه الخيارات هو أن الإدارة الذاتية لا تستطيع إنجازها بمفردها. فإذا كانت واشنطن تأمل في دعم حلفائها، فعليها أن تسعى إلى دفع خيارات بديلة عن الاحتلال ومرفقة باستمرار بالدعم العسكري والاقتصادي لهذه المنطقة الهشة.
*براء صبري: كاتب وباحث من سورية، مقيم في إقليم كردستان العراق، ويعمل مع المنظمات الدولية الإنسانية غير الحكومية، ويكتب في العديد من الصحف والمراكز البحثية المختصة عن شؤون الشرق الأوسط السياسية والاجتماعية.
“الغد”