أعاد خبر مقتل أيمن الظواهري، تنظيم القاعدة، إلى المشهد الإعلامي الدولي، بعدما طغت على صورته لسنوات طويلة تنظيمات جهادية أخرى استطاعت أن تختطف النجومية من خلال حركيتها وفاعليتها، بينما تراجعت أنشطة “القاعدة”، وخملت دعايته، ويبدو أن ذلك على صلة بتراجع شعبية الرؤية التي أسسه عليها أسامة بن لادن، والمعروفة باسم “محاربة العدو البعيد”.
تقوم استراتيجية “القاعدة”، كما يوحي اسمها، بأنها تسعى لتكون قاعدة يتجمع وينطلق منها الجهاديون، بهدف مقارعة واستنزاف العدو البعيد المتمثل بشكل أساسي في الولايات المتحدة الأميركية، حتى الوصول به إلى لحظة الانهيار، والتخلي عن الأنظمة المحلية في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. وقد نجحت الخطة من خلال ذراع طويلة ومعقدة هي الطيران المدني الذي مكّن التنظيم بقيادة بن لادن من توجيه صفعة مؤثرة للولايات المتحدة في 11 أيلول 2001، لكنها كانت ضربة وحيدة ومتفردة، عجز التنظيم بعدها، كما تثبت وثائق أبوت أباد(باكستان)، عن توجيه أي ضربة جديدة. فقد ثبت أن صِلة “القاعدة” بتفجيرات مدريد 2004، وتفجيرات لندن 2005، كانت صِلة غير مباشرة، وأن العملية الوحيدة بعد 11 أيلول في مومباسا-كينيا العام 2002 ، قد تم التخطيط لها قبل هجمات 11 أيلول.
لقد أثبتت الحرب الأميركية في أفغانستان، أن فكرة مواجهة الولايات المتحدة، وفق خطة بن لادن، أي تدميرها ودحرها عن المنطقة، ثم التفرغ للأنظمة المحلية المدعومة من قبلها، غير قابلة للتطبيق. فمن يعجز عن مواجهة هذه الأنظمة المحلية، لن يكون في إمكانه أن يهزم تلك القوة العالمية. ومن جهة أخرى، إن افتقار أي تنظيم جهادي لمجتمع محلي يتجذر فيه ويرتكز إليه، سيجعله ضعيفاً ومكشوفاً، كحال “القاعدة” بعد طردها من أفغانستان، إذ كان من السهولة بمكان مطاردة وقتل قادتها وأعضائها، والذين سيتوجب على من تبقى منهم تخصيص الشطر الأعظم من جهوده للتواري وإخفاء أنشطة وشبكات التنظيم، مع ما يمثله ذلك من هدر للإمكانات والوقت وانعدام الفاعلية. من ناحية أخرى، تفقد حالة التشتت، تنظيماً مثل “القاعدة”، سمة المركزية التي كان يتمتع بها، عبر تمحوره حول قائد كاريزمي مثل بن لادن الذي فقد سيطرته بشكل كبير على المنظمات التابعة المنتشرة في أماكن متباعدة، ووصل خلفه الظواهري إلى مستوى التناقض والعداء مع هذه التنظيمات، كما حدث بينه وبين البغدادي زعيم تنظيم العراق، الذي لم يتردد في إعلان تمرده، بعدما استشعر ضعف ورخاوة التنظيم العالمي، وعدم فعاليته أيديولوجياً وتنظيمياً.
يعود فشل تنظيم “القاعدة” بالدرجة الأولى، إلى لا واقعية أهدافه، رغم أنها مغطاة جيداً من الناحية العقائدية. لكن، بوجود القوة الأميركية المتفوقة، وتطوير قدراتها في مكافحة التنظيمات الجهادية طول العقود الثلاثة الماضية، فإن الجماعة الجهادية تمضي نحو التحلل والاضمحلال، لا سيما مع عدم تصحيح الخلل الكائن بين استراتيجيتها كـ”قاعدة” من الناحية التنظيمية، أي كونها مرتكزاً مكانياً وتنظيمياً للجهاديين، وهدفها كجهاد عالمي واسع النطاق ينطلق من تلك القاعدة ليستنزف القوى العظمى. فغزو أفغانستان، وما بعده، كشف أن هذه القوى الكبرى هي الأقدر على إنزال الضربات بالتنظيم، واستنزافه، وإفراغه من الرجالات والقادة عبر ملاحقتهم وقتلهم أو اعتقالهم، والتضييق المالي واللوجستي عليهم، وإفشال مخططاتهم في المهد بسبب الانكشاف الهائل تقنياً. وذلك كله سيدفع أعضاء الجماعة وقادتها إلى التفكير في مكمن الخلل والبحث عن حلول، ولأن المرء من هذه الجماعات يؤمن دائماً بأن النجاح يكون بما “نجح فيه الأوائل”، فإن أفكار منظري التنظيم لا بد أن تقودهم إلى أفغانستان مرة أخرى، وإلى أحضان الحليف القديم “طالبان”، بعد استعادة إمارته، وهو ما يوحي بأنه قد حدث فعلاً مع تواجد زعيم التنظيم في كابول، وفي واحد من أخص الأحياء التي تسيطر عليها طالبان، وبعلم قادة شبكة حقاني الأمنية، الأكثر نفوذاً في الحركة.
لكن هذه الفرضية تواجه تساؤلات مهمة، على رأسها: هل قادة طالبان اليوم، هم أنفسهم الذين عرفهم “القاعدة” وتعامل معهم منذ تسعينيات القرن الماضي؟ وهل استراتيجية هؤلاء المنتصرين الذين يبدو أنهم براغماتيون من خلال تحولات خطابهم وسلوكهم بُعيد انسحاب الولايات المتحدة، تسمح لهم بإيواء “القاعدة” وأنشطته مجدداً، وتهديد “الإمارة” المستعادة بعد عقدين من الكفاح، وتعريضها لخطر الزوال مجدداً؟
الإجابة المنطقية تقول إن ذلك ليس ممكناً. فمن ناحية، تصقل التجارب السياسية الأجيال المتعاقبة وتجعلها أكثر واقعية، بل إن التجارب قد تغير في الجيل الواحد من الحماس الأيديولوجي إلى المنفعية السياسية، خصوصاً عندما تكون بين أيديهم حصيلة يُخشى زوالها. وفي حالة أفغانستان، نحن نتحدث عن دولة كاملة، وليس عن مكاسب جزئية هنا أو هناك. من ناحية أخرى، لدى طالبان الذكريات المؤلمة لتبعات وويلات جرّها عليها تحالفها مع “القاعدة” التي تصرفت بطريقة “غير مسؤولة” على الصعيد الدولي، وبطريقة مناقضة لمصلحة طالبان، مع أن بن لادن، كما هو معروف، مُبايعٌ للملا عمر الذي التزم مع تنظيمه بتحالفه مع “القاعدة” ورفض تسليم بن لادن، لأسباب أخلاقية بالدرجة الأولى. وطالبان اليوم تستطيع أن تضبط هذه العلاقة، بحيث لا توضع مرة أخرى في موضع المتورط المغفل.
إن التفسير الممكن لوجود الظواهري في كابول، وبالتالي عودة “القاعدة” إلى أفغانستان، لا يندرج في اطار استراتيجية دولية لحركة طالبان، فهذا مستبعد، خصوصاً في هذه المرحلة التي تسعى فيها للاستحواذ على الاعتراف بالشرعية الدولية بكافة السبل. وإنما قد يكمن التفسير في احتياج محلي بالدرجة الأولى، يتمثل في مواجهة تحديَين خطيرَين: الأول، هو تنظيم الدولة الإسلامية في خراسان، الآخذ في التوسع، والذي لم يتردد في وصم حركة طالبان بأنها مرتدة وعميلة لواشنطن بسبب عقدها اتفاق الدوحة، كما يناصب تنظيم “القاعدة” العداء من جهة أخرى. والتهديد الثاني، يتمثل في حركة الاستقطاب للجهاديين العالميين الذين يقال أنهم بدأوا بالتدفق إلى أفغانستان مجدداً، باعتبارها أرض الجهاد وموطنه، وما يمكن أن يجره ذلك على الأوضاع داخل أفغانستان من تطورات غير معروفة اليوم، مثل نشوء تنظيم متطرف جديد خارج عن سيطرة طالبان، وربما يواجهها أو يجرها إلى موقع لا ترغب فيه في هذه المرحلة، لتصير مجدداً دريئة لجهود “مكافحة الإرهاب”. والحال أن جماعة “القاعدة”، بخبراتها الواسعة وجاذبيتها، هي الأقدر على احتواء وتنظيم هذه الكتلة الغامضة التي ستتوجه منها موجات متعاقبة إلى أفغانستان على وقع هزائم التنظيمات الجهادية في مناطق مختلفة من العالم.
إن “عودة” القاعدة إلى أفغانستان، إذن، والتي يبدو أنها حدثت، ليست على قاعدة تنشيطها مجدداً بالأهداف الاستراتيجية الدولية ذاتها، والتي يمكنها المحافظة عليها دعائياً في كل حال، وهو بُعد يبقى مفيداً لصورة طالبان داخل الحركة الجهادية العالمية. لكن، من الناحية الفعلية، فإن الدور الذي يمكن “للقاعدة” لعبه هو وظيفي إقليمي بحت، وتحت الإشراف الدقيق لطالبان والمخابرات الباكستانية، وهذا تكتيك قد تُشكر عليه حركة طالبان في مرحلة لاحقة، لأنه سيعني في ما سيعني، جمع الجهاديين متناقضي الاتجاهات والمشارب في أفغانستان، ليتناحروا في ما بينهم، على النحو الذي حدث ويحدث في سوريا، وليقصر “القاعدة” استراتيجيته العالمية، ويقزم نفسه رمزياً وتنظيمياً، فيتحول إلى لاعب آخر يصارع للاستحواذ على المكان “المحلي” والمكانة “الإقليمية” بين لاعبين آخرين، لا أكثر.
“المدن”