سوريا التي نعرفها اليوم لها تاريخ قصير جداً، تاريخ يعود إلى تسع سنوات فقط، أي إلى اليوم الذي استخدم فيه الأسد غاز السارين في قصف الغوطة. نحن هنا لا نقيس المجزرة بعدد ضحاياها، إذ يمكن ببساطة “وقلة إحساس” التقليل من وقع العدد بالقياس إلى التاريخ العام للمجازر، أو بالقياس إلى عدد ضحايا المقتلة السورية ككل. هناك مجازر صغرى مؤسِّسة لبلدان، أو لحروب طويلة جداً. على سبيل المثال، لا تُقاس المجازر التي ارتكبتها المنظمات الصهيونية أثناء تأسيس إسرائيل بعدد الضحايا، وإنما بالعائد المجزي الذي أتت به لمشروع التأسيس.
في كانون الأول2012 روّج موالو الأسد بابتهاجٍ روايةً عن قيام قواته بقصف فصيل معارض بالطحين، موهمةً عناصر الفصيل بأنها تستخدم السلاح الكيماوي، ما أدى إلى سهولة استهدافهم أثناء فرارهم. المطالبة باستخدام الكيماوي تواترت آنذاك، قبل شهور من استخدام السارين في مجزرة الغوطة، تخللتها شكوك حول استخدام الفوسفور الأبيض في بعض المناطق، ورسائل من خارجية الأسد إلى الأمم المتحدة تتهم المعارضة بتجهيز عبوات من الكيماوي في تركيا لاستخدامها في سوريا.
في الغضون، كانت أوساط الإدارة الأمريكية تذكّر بأن استخدام الكيماوي خط أحمر لن تتهاون إزاءه، وكان لإعلان خط أوباما الأحمر الشهير أسبقية على تداول مؤيدي الأسد أخبار الكيماوي، وفُهم منه آنذاك وجود معلومات استخباراتية في هذا الخصوص لدى البيت الأبيض. هكذا لم تكن المسألة أيامها ما إذا كان الأسد راغباً أو غير راغب في اتخاذ الخطوة، السؤال الذي بقي متداولاً حتى استخدام السارين: هل يجرؤ على تحدي الرئيس الأمريكي؟
الذين “أوحوا” إليه باستخدام السارين كانوا عارفين أنه سيفلت من العقاب، وأن أوباما لن ينفذ تهديده. كان الهدف هنا تحديداً؛ الانتهاء من الخط الأحمر، ومن أي خط أحمر آخر، أي إطلاق يد الأسد بلا رادع. عملياً، عنى ذلك الإبقاء على الأسد بلا شروط تتعلق بمنسوب العنف تجاه السوريين، وحتى شرط تسليم مخزونه من الكيماوي سيتبين عدم جديته لاحقاً وأنه كان لذرّ الطحين في العيون.
عقب صفقة الكيماوي، وغير بعيد كما نظن عن الحسابات والتوقعات الأمريكية، اشتدّ التطرف، واكتسب داعش والنصرة أنصاراً على أرضية الخطاب الجهادي المعادي للغرب. عبّر أوباما بصراحة عن رضاه بوجود متطرفي الشيعة والسُنّة على الساحة السورية، فوق ما هو معروف لجهة أن وجود التنظيمات المتطرفة يخدم المقارنة القسرية التي يجب أن يفوز بها الأسد. وفيما يجوز اعتباره تشجيعاً بلغة الديبلوماسية، قال غداة توقيع الاتفاق النووي مع إيران أنه يعود لحكامها ما إذا كانوا سينفقون مليارات الدولارات على شعبهم أو على ميليشياتهم في سوريا.
بدأت موجات اللجوء السوري الكبرى منذ صفقة الكيماوي، لأن مخاطرة البقاء أضحت أكبر من قبل بعد الترخيص الفعلي الذي ناله الأسد باستخدام ما يشاء من أسلحة، بما في ذلك الكيماوي الذي عاد لاستخدامه على نطاق أضيق. العامل الذي قد لا يقل تأثيراً في دفع الملايين إلى اللجوء هو اليأس، اليأس من الغرب بقيادة واشنطن، والذي صار واضحاً أنه لن يتدخل لإنقاذ السوريين على أية حال.
غالباً، يُردّ التغير في الموقف الأوروبي من معاناة السوريين إلى موجات اللجوء التي تصاعدت؛ غياب التعاطف الأوروبي السابق سيجد أعذاراً في ثقل أعداد اللاجئين، وأحياناً في التذمر من عاداتهم المختلفة عن المجتمعات المضيفة…إلخ. الأهم مما سبق، والذي لا يُذكر، أن الأوربيين قرأوا الموقف الأمريكي جيداً، وفهموا أن الأسد باقٍ، وأن الاستنزاف في “الساحة” السورية سيرتدّ بملايين اللاجئين على الجوار الأوروبي، فضلاً عن الإرهاب الجهادي الذي له سوابق كثيرة في الغضب من سياسات واشنطن واستهداف المدن الأوروبية.
ثم إن لدى الأوروبيين خبرة كافية بأن انعدام فرص التغيير في سوريا، وطول أمد اللجوء تالياً، سيقللان من فرص عودة اللاجئين، حتى إذا حصل متأخراً التغيير المنشود في بلادهم. للأوروبيين خبرة لا تقل عن تلك بسياسات الحليف الأمريكي التي لا يجدون مناصاً من دفع أثمانها، لذا التقطوا الإشارات وتكيّفوا معها سريعاً، بعدما كانوا متحمسين لمعاقبة الأسد أو إطاحته.
يُذكر أن إدارة أوباما كانت سباقة جداً في التأكيد على عدم وجود حل سوى الحل السياسي في سوريا، وهي إشارة كان يُفهم منها عدم موافقتها على إسقاط الأسد بالقوة، مع هامش من استخدام الأخيرة لإجباره على تقديم التنازلات. هذه أيضاً صفحة أخرى طُويت مع صفقة الكيماوي، ليتأكد ذلك مع الموقف الأمريكي المواكب للتدخل العسكري الروسي. ما حدث هو أن واشنطن لم تعد مكترثة بالحل السياسي الذي كانت تنادي به، فساهمت في القضاء على مسار جنيف رغم كل مساوئه وعدم جديته، وكان المسار قد انطلق عقب الصفقة وكأنه جزء من تفاهماتها، ليتضح لاحقاً أنه غير مدعوم بالثقل الأمريكي، ما سهّل على موسكو دفنه في أستانة.
في واحد من أقواله الصريحة، أعلن ترامب يوماً أن سلفه لم يترك لإدارته ما تفعله في سوريا، بمعنى أنه أهدر أوراق الضغط والتأثير التي تتيح لمن يخلفه انتهاج سياسة مغايرة. ومن دون أخذ هذا الكلام على محمل الإطلاق، يصدق فيه الجانب الذي يتوافق مع أن أوباما أسس بصفقة الكيماوي لسياسة أمريكية ذات نطاق ضيق جداً في سوريا، سياسة فقيرة بالاحتمالات، وبحيث أن تغييرها يتطلب انقلاباً دراماتيكياً في الشأن السوري وفي ملفات متصلة به، الأمر الذي يصعّب من فرصة حدوثه.
بوضعه الخط الأحمر، من دون أن يطالب أحد به، ثم التراجع عنه، فعل أوباما أسوأ ما يمكن ارتكابه؛ هو كمن ارتكب المجزرة، وأعطى الضوء الأخضر للمجازر التالية عليها. من الاستسهال الردّ على ما سبق بأن أوباما يراعي مصالح بلده، وهو غير مسؤول عن مصالح السوريين، إذ نستطيع القول أن هتلر أباد الملايين ضمن ما يراه مصلحة لبلده!
لم تتقادم مجزرة الكيماوي بعد مرور تسع سنوات عليها، لأن ما أسستْ له ماثلٌ حتى الآن. لقد تأسست سوريا الحالية بغاز السارين، ولا مجاز إذا قلنا أن مجزرة الكيماوي لم تتوقف بعد.
“المدن”