أحسست، مثل نسبة كبيرة من سكان الأرض، بقيود الجسد والروح، وقد ازدادت واستفحلت، مع عبوري المرحلة الوسطى من العمر وازدياد وزني وضيق نفسي، وخصوصا بعد محنة كورونا، التي ضربت البشرية، وأصابتني مرتين، خلال فترة انتشارها الكبير.
أثناء تفتيشي عن مخرج من حالتي، مؤخرا، هبطت عليّ فكرة «انقلابية» ذكرتني بقصيدة شهيرة منسوبة لابن سينا، الذي كان مرجعا معرفيا هائلا في القرون الوسطى، عن «الورقاء» (الحمامة الممشحة بلون رمادي) أو الروح التي تهبط إلى الجسد «من المحل الأرفع» ليصل فيها إلى بيت يقول: علقت بها ثاء الثقيل فأصبحت بين المعالم والطلول الخضّع. هاء الثقيل، حسب شروح القصيدة، هي «القيود الجسمية».
للخروج من هذا المأزق اتصلت بمجموعة تدريب رياضيّ تقوم فكرتها على إعادة أمثالي من سكّان العالم الافتراضيّ إلى العالم الحقيقي عبر تدريب صعب ثلاث مرات في الأسبوع، والتزام المنتسبين إليها بنظام غذائي يبتعدون فيه عن السكريات والدهون، ويعوّضونها بالبقول واللحم والماء والخضرة… والوجه الحسن.
إضافة إلى هبوط الوزن الذي حصل سريعا (قرابة كيلوغرامين خلال الأسبوع الأول) بدأ ذهني يصفو، وصارت المحاكمات العقلية تصبح أسهل. انتابني أيضا سرور طبيعي مثل المتصوفة كأنني اكتشفت سر الخيمياء. جعلني هذا الافتراق السريع جدا عن ماضيّ أعيد تقييم دورة أخرى سلكتها قبل سنوات وكانت لتدريب الدماغ.
انتكاسة الخبز والشاي وصعود التوت البرّي!
علّمني المدرّس حينها كيف أزيد قوة ومرونة «المادة الرمادية» بتمارين مثل تعلم لغة جديدة (بدأت حينها بتعلم الفرنسية) واستخدام اليد الأخرى للكتابة، والذهاب إلى البيت أو العمل من طرق غير معتادة، والانخراط في دعم قضايا عامة تستلزم الاجتماع بأشخاص عديدين، والكتابة الإبداعية وأشياء من هذا القبيل. توقف التعلم فجأة حين دخلت تمارين تطوير القدرات الاجتماعية العفوية. من ذلك، مثلا، المبادرة للحديث مع بشر لا أعرفهم في الشارع، كان هذا أمرا صعبا عليّ لأسباب قد تكون لها علاقة بطباعي أو بظروفي حينها.
الاكتشاف الكبير هو أن الأمر لم يكن يتعلّق بالأكل وطقوسه وأنواعه فحسب بل بمغادرة ثقافة حياة كاملة، وهو أمر لا يخلو من أهوال (ومكافآت)
غير أنه مع الدورة الرياضية ـ الغذائية الجديدة صار القول الإنشائيّ الشهير عن «العقل السليم في الجسم السليم» محسوسا وذا معنى مختلف تماما. لم يكن الأمر يتعلّق بنمو العضلات وتراجع الدهون فقط، بل انجرّ ذلك على تغييرات ذهنية ترافقت مع التغير الحاصل على جسدي، تبدأ بالانتباه لأشياء بسيطة (مثل سهولة تذكر كيس الخضار الذي أوصتني زوجتي بإخراجه من البراد، أو الرد على طلب من هيئة الضرائب، أو الانتباه إلى كثافة لحيتي وحلقها!) وصولا إلى القضايا الأدبية والفلسفية والسياسية. احتاج الأمر هجر طقوس، شبه مقدسة في الحياة، مثل الفطور التقليدي الذي ورثته من أهلي، والذي يضم، مثل جوائز الرواية، قائمة طويلة وقصيرة، بينها الفول والحمّص بطحينة والتسقيّة (فتّة الخبز مع مكوّنات مختلفة) وأطباق المكدوس والزيتون والزعتر واللبنة والأجبان، والمعقود (المربيات) والدبس بطحينة والحلاوة، ومعها، وقبل كل شيء طبعا، طقسا الشاي والخبز، وكلّها مآكل تحفل بالدهون والسكريات. طرأ، بفعل التدريب، ابتعاد شبه تام عن الخبز، ثم بدأت أواصر العلاقة تتكسر مع كأس الشاي، الذي كان في مبتدأ ظهوره، في الصين، مرتبطا بالعبادة، فصرت لا أكترث كثيرا بهذا الطقس الذي مارسته عشرات آلاف المرات في حياتي، وبدلا من تجاهل الماء، الذي لا أستسيغه، صار عليّ أن أشرب عدة ليترات يوميا.
غير أن الاكتشاف الكبير هو أن الأمر لم يكن يتعلّق بالأكل وطقوسه وأنواعه حسب، بل بمغادرة ثقافة حياة كاملة، وهو أمر لا يخلو من أهوال (ومكافآت).
إحدى المكافآت الأخرى، الجديرة بالذكر، أن طريقي لمشي العشرة آلاف خطوة المطلوبة يوميا، يمر في غابة شهيرة في التاريخ الإنكليزي، حيث تم فيها توقيع «الماغنا كارتا» عام 1215، وهي أول دستور تقيّد فيه الرعيّة سلطات الملك المطلقة (وليس العكس كما يحصل في بلداننا حاليا) وأن الطريق البرّي ذاك محاط بأشجار التوت البري المسموح بأكلها في النظام الغذائي الجديد!
ضمن تفاصيل مغادرة الثقافة القديمة أن اللقاءات مع المجموعة تلك كانت المرة الأولى التي أكون فيها بصحبة «رفاقية» مع عدد كبير من الإنكليز، دون أن أكون ضيفا أو مشاركا في «فعالية ثقافية» وهو ما فرض عليّ تحسين قدراتي على التواصل الشفاهي السريع مع اللهجات المختلفة، والاندماج في نوع من الزمالة اللطيفة التي كانت صعبة للقادم من الجغرافيا العربية، حيث كانت الاجتماعات العامة محفوفة بالمخاطر الأمنية والتنميطات المحلية، وكنّا، مع الندامى في جلّق بالزمان الأول (على قولة حسان بن ثابت) نتندّر بالقول إن الجمعية الوحيدة التي يمكن للسلطات العربية التغاضي عنها هي جمعية مكافحة القوارض!
كيف يمكن تغيير ثقافات راسخة؟
أحد الأسئلة المهمة التي خطرت لي من هذه التجربة هو: إذا كان تغيير نمط الأكل واتباع نظام حياة صحي يحتاج كل هذه المشقة والإرهاق فكيف يمكن تغيير ثقافات راسخة تحيط بكل تفاصيل حيواتنا السياسية والاجتماعية؟ ماذا نفعل بالاستبداد، الذي طاردنا في بلداننا، ثم انتقل معنا، ليحضر في تنشئتنا لعائلاتنا، وفي المؤسسات التي نعمل فيها، وفي النظرة إلى جيراننا والبلاد التي نعيش فيها؟ ماذا نفعل بهذه الثقافة القارّة التي لا يبدو أنها قابلة للتغيّر؟ مفيد، في سياق فكرة التغيّر الثقافي هذه، أن نعود لابن سينا وقصيدته لنقارنها بقصيدة أحمد شوقي، التي عارضها بها.
ولد الشيخ الرئيس (وسماه الغربيون في العصور الوسطى بأمير الأطباء) في قرية قريبة من بخارى (أوزبكستان الحالية) عام 980 ميلادية (370 هجرية) واكتنفت قصيدته أجواء كئيبة وحزينة، اتصفت الروح فيها بأوصاف التعزز والتمنع والحجب، وألفة «الخراب البلقع» واعتبر الشاعر ارتباطها بالإنسان هبوطا «إلى قعر الحضيض الأوضع». وولد شوقي في القاهرة عام 1870 (أي قرابة 980 سنة بعد ابن سينا) الذي لقّب بأمير شعراء اللغة العربية، لأب شركسي (ويقال كردي) وأم يونانية، وقد نحى أمير الشعراء في موضوع الروح منحى مختلفا عن أمير الأطباء، فمطلع قصيدته، «ضمّي قناعك يا سعاد أو ارفعي/ هذي المحاسن ما خلقن لبرقع» شديد الإفصاح عن تأثره بمنطق العصر الذي عاش فيه، وفي القصيدة مرافعة واضحة عن الجمال ومناهضة للحجاب (ليس الحجاب لمن يعز مناله إن الحجاب لهيّن لم يمنع) كما أن فيها آراء فكرية جريئة عديدة.
المراجع لكلا الشخصيتين، مع ذلك، رغم البعد التاريخي بينهما، سيجد الكثير للتمتع به في مسائل اشتباك الروح بالجسد (عالج ابن سينا أميرا من الميلانخوليا وفرّق بين أمراض الجسد والنفس) و»خلب ألباب اللاهوتيين بمحاولة التوفيق بين العلم والإيمان» كما سيجد آثار «التغيّر الثقافي» الشاقّة التي خاضاها (لابن سينا أيضا آراء مهمة في حرية المرأة) بحيث أن شوقي اختتم قصيدته باعتبار «الشيخ الرئيس» نموذجا، لو بلغه أي كاتب أو طبيب، لـ»ذهب الكمال سدى، وضاع محله في العالم المتفاوت المتنوع»!
«القدس العربي»