انتظرت الولايات المتحدة أكثر من أسبوع قبل أن تقرر الردّ على هجوم بطائرات مسيّرة استهدف في 15 آب الجاري قاعدة التنف الأميركية بالقرب من المثلث الحدودي بين سوريا والأردن والعراق، وتبنّى المسؤولية عنه فصيل عراقي أطلق على نفسه اسم “المقاومة العراقية”.
التريث الأميركي استغرق من الوقت ما أتاح تمرير الرد الأميركي على المقترح الأوروبي حول المفاوضات الجارية لإحياء الاتفاق النووي مع إيران، كما أتاحت هذه الفسحة الزمنية أن تتضح معالم خريطة التقارب التي ترسمها الدبلوماسية الروسية بين أنقرة ودمشق، لا سيما بعد لقاء وزير الخارجية السوري وزير الخارجية الروسي قبل أيام، حيث شهد المؤتمر الصحافي بينهما تصويباً مزدوجاً على الوجود الأميركي في سوريا واتهام الولايات المتحدة بدعم الإرهاب.
لم تكن واشنطن متحمسة دوماً للردّ على هجمات سابقة طالت قواعدها العسكرية في سوريا، كانت تقوم بها مجموعات مختلفة لا تتبع بالضرورة لإيران، وقد تجسد ذلك عملياً، في الفترة الأخيرة، عندما امتنعت الطائرات الأميركية عن الرد على الهجوم الذي نفذته طائرات روسية على مواقع تابعة لجيش مغاوير الثورة المدعوم أميركياً، والذي ينتشر في محيط قاعدة التنف، بما بات يُعرف باسم منطقة 55 كم باعتبارها حرماً عسكرياً لتحصين القاعدة الأميركية وحمايتها.
وجاء الانتقام الأميركي هذه المرة واسعاً وموجعاً، إذ استهدف سلسلة من المستودعات والمعسكرات التي تستخدمها قوات تابعة لإيران في منطقة عياش غرب دير الزور. وأشار تقرير إعلامي إلى أن الغارات الأميركية تزامنت مع دخول شحنة أسلحة إلى مستودع عياش، حيث تخزن القوات الإيرانية ترسانة صاروخية متقدمة نوعاً ما. وضمّت الشحنة، وفق موقع “فرات بوست” المحلي المعارض، عدداً من الشاحنات المحملة بالذخيرة وصواريخ من نوع “غراد”، حيث قامت مجموعة تابعة لميليشيا “حزب الله” اللبناني بإنزال الصواريخ ضمن مستودعات خاصة بإشراف ضباط أفغان من لواء “الفاطميون”، وفي مقدمتهم مسؤول التسليح في دير الزور.
وشمل الاستهداف الأميركي مواقع عديدة مثل “معسكر القاسم” و”معسكر عياش” وعدداً آخر من المخازن والمستودعات في منطقة تعتبر مغلقة عسكرياً، نظراً إلى استخدامها في تخزين الأسلحة والاستفادة من تضاريسها الجغرافية التي تساعد على الإخفاء والتمويه.
هذا الرد الأميركي الواسع لم يكن متناسباً مع محدودية الهجوم الذي شهدته قاعدة التنف في 15 آب ولم يسفر عن إصابات بشرية، وكانت الخسائر المادية الناجمة عنه طفيفة للغاية. ولعل ذلك ما دفع طهران إلى التعليق على الغارات الأميركية بعدما اكتشفت فداحة الخسائر التي لحقت بمستودعاتها ومخازنها في المنطقة، بالإضافة إلى بعض الخسائر البشرية، ونفت طهران أن تكون المواقع المستهدَفة تابعة لها، وذلك في تصريح نادر حول علاقتها بالميليشيات العسكرية التي تقاتل إلى جانب الجيش السوري في شرق سوريا.
وأعقب الردّ الأميركي تبادل لإطلاق الصواريخ على قاعدتي حقل العمر وكونيكو من قبل مجموعات محلية يعتقد أنها تابعة لإيران، وأخرى على مواقع إيرانية في حويجة صكر والميادين من قبل طائرات التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة، وقد تدخلت المروحيات العسكرية الأميركية في اشتباكات ليلة أمس، في خطوة تشير إلى خطورة التصعيد الذي شهدته المنطقة، لا سيما بعد ورود معلومات عن وقوع إصابات في صفوف الجنود الأميركيين، وهو الأمر الذي لا تستطيع الإدارة الأميركية أن تتساهل فيه، بخاصة مع قرب الانتخابات النصفية للكونغرس.
وحاول بعض المسؤولين الأميركيين رسم مسافة بين التصعيد الذي يشهده الشرق السوري بين القوات الأميركية والميليشيات الإيرانية، من خلال تذكيرهم بأن واشنطن لا تربط بين تطورات الملف النووي والمخاطر التي تهدد الوجود العسكري الأميركي في سوريا، وأنها مستعدة دوماً لاتخاذ الإجراءات اللازمة لحماية جنودها.
في المقابل، رأى مراقبون سوريون للمشهد العسكري في منطقة شرق الفرات أن ما يجري هو عبارة عن معركة تهدف إلى تغيير قواعد الاشتباك التي تحكم المنطقة منذ تأسيس قاعدة التنف عام 2016 واتخاذها معقلاً للنفوذ الأميركي في سوريا. وثمة اعتقاد بأن الهجوم على قاعدة التنف كان بمثابة البداية لترجمة التفاهمات التي توصل إليها رؤساء إيران وروسيا وتركيا في القمة الثلاثية التي انعقدت في طهران الشهر الماضي، وشهدت إجماعاً على اتهام القوات الأميركية بدعم الإرهاب في سوريا، وأن وجودها بات يعرقل مسار الحل السياسي للأزمة السورية.
وقد تكون الولايات المتحدة استشعرت معالم الخطر الذي عبر عنه توافق الرؤساء الثلاثة، لا سيما أنه جاء بعد فترة قصيرة من استهداف الطائرات الروسية مواقع تابعة لجيش مغاوير الثورة في محيط قاعدة التنف، ما يعني أن استهداف الحضور الأميركي في سوريا لن يكون بتوقيع إيراني حصراً بل قد يجد له مظلة إقليمية واسعة نوعاً ما.
ولعل واشنطن التي لا ترغب في التصعيد العسكري ضد القوات الروسية في سوريا قد اتخذت من الهجوم على التنف ذريعة للقيام برد عسكري قاس ضد القوات المحسوبة على إيران، وفي نيتها أن تصل رسالة هذا التصعيد إلى موسكو قبل طهران لردعها عن المشاركة في أي مغامرات عسكرية أو أمنية تستهدف الوجود الأميركي في سوريا.
ولا يلغي بالضرورة تأكيدُ واشنطن عدم تشكيل الملف النووي أي عقبة تمنعها من الرد على الهجمات التي تستهدف قواتها في سوريا، الحديث عن دور التطورات التي تحيط بملف الاتفاق النووي في التصعيد العسكري في منطقة شرق الفرات. وقد يكون لإسرائيل علاقة ما بخفايا هذا الدور.
فقد تكون واشنطن معنية بتوجيه رسائل إلى كل من طهران وموسكو بأنها ستقابل التصعيد بتصعيد أقوى منه، ولكنها قد تكون معنية أيضاً باحتواء مخاوف إسرائيل جراء قرب التوقيع على الصفقة النووية مع طهران، من خلال التأكيد لتل أبيب أن الطائرات الأميركية ستبقى تراقب الانتشار الإيراني في سوريا، ولن يمنعها الاتفاق النووي من توجيه ضربات قاسية إذا قررت طهران أن تخرق الخطوط الحمر التي وضعتها لحماية أمن إسرائيل.