في الرابع والعشرين من ديسمبر/كانون الأول عام 1982 توفي الشاعر الفرنسي لوي أراغون بعد نَزَعٍ دام ثلاثة شهور، واليوم وبعد مضي أربعين عاماً، ما زالت كلماته ترن في ضمير العصر الحديث، الشاعر الذي كَرّمَهُ الرئيس الفرنسي فرانسوا ميتران، بأن أمر بقطع إرسال التلفزيون الفرنسي ليقول: «أيها الفرنسيون، اليوم غرَبَتْ شمسُ فرنسا، لقد مات أراغون!» فيما كانت طائرة تجوب الجو وتقلِّد توقيعه بالدخان الأبيض الذي تنثره.
ولد لوي أراغون، وليس في سِجِلّ ميلاده ما يشير إلى أن له أباً يعترف به كأنه وُلد من ضبابة عبرَتْ العالم ثم اختفت. كان مجيئه إلى هذا العالم رزءاً على عائلته، وخصوصاً أمه التي جهدت طيلة حياتها كي تدرأ عنه وعنها (تهمة الحقيقة) فابتدعت له ما يشبه النسب وكانت تصارح بعض القريبين منها فتقول إن أباه وأمه توفيا ثم احتضَنَتْه، بل وقدَّمتْهُ أحياناً كأخٍ لها! لقد وُلِدَ في حقبة العودة للدين والتراث والمآثر الماضية والتمسك بالعائلة والأرض وكان آنذاك من الصعب قبول ابن غير شرعي ومساواته بحقوق المواطنين الفرنسيين. هكذا بدأت حياته التي امتزجت بالمرارة منذ أن فتح عينيه على هذا العالم:
«أخذتُ نصيبي من المرارة وحملتُ حظي من الشقاء/ بالنسبة لي لم تنتهِ هذه الحرب أبداً/ ما زالت أطرافي ممزقة/ ألصق الأُذن بالأرض/ تصل إليَّ تنهُّدات بعيدة مخيفة/ تخترق لحم عالم أصَم/لا أعرف النوم، وإذا أغمضتُ العين يوماً فإلى الأبد».
تقول الكاتبة جوزين عثمان: «كان أسلوب أراغون متميزاً، تمتزج فيه التجربة التلقائية بالعنف الملحوظ في الخطاب الشعري». وهو ما كان قريباً من الحقيقة، فمنذ قصيدته الأولى «لَستُ أحدهم» اعتُبِرَت تلك القصيدة ريح تغيير قوية عكست ما شهده النصف الثاني من القرن التاسع عشر من حركات رفض كبرى تناولت نقد القيم السالفة، وخطَّت للإنسان طُرقاً جديدةً، حيث فتح الشعر لنفسه صفحات أخرى في قدر القصيدة، فاعتلى خشبة المسرح بأوزان جديدة وغنّى حزنه وفرحه بكلمات من غيب آخر:
«لستُ منهم/ لأن لحمي الآدمي ليس فطيرةً حتى يُقطَع بالسكين/ لأن النهر يبحث فَيَجِد البحر/ لأن حياتي تحتاج إلى أختٍ لها».
إلزا تريولي في (أغاني المجنون)
«ELSA: تلك إشارات قلبٍ يرى…» بهذه الكلمات يبدأ لوي أراغون أغاني المجنون في كتابه الشهير «مجنون إلزا» وكيف له ألا يكتب ذلك، وقلبُ إلزا كان بحقْ كل عشق الشاعر الفرنسي، قلب إلزا تريولي التي كتبت «طاب مساؤكِ يا تيريزا، الصنم، الحصان الأبيض» هو قلب الزوجة والمعبودة والحدث الذي غيَّر حياته لدرجة اختلاط ملامحها بملامح فرنسا، حيث غفت كلماته بين صفحات دفاتر الفرنسيات وكانت عباراته الحالمة ضوءاً أبيضَ تحلَّق حوله العاشقون:
«سيأتي يومٌ يا إلزا/ تتجمَّلين فيه بتاج أشعاري التي ستخلد من بعدي /عندما ستتحَلَّين بها سيفهمها الناس أكثر وأفضل على الرغم من تنوُّعها/ بفضل ذاك المذاق الذي يسبغه عليها شَعرُك المسترسل».
في مقهى باريسي في مونبارناس، سنة 1928 التقى أراغون بإلزا تريولي (إيللا كاغان) – الروسية المنحدرة من عائلة مثقفة وشقيقة ليلي كاغان الحب الأول الكبير للشاعر الروسي الشهير فلاديمير ماياكوفسكي- لتتزوج أراغون بعد ذلك بإحدى عشرة سنة ويعيشا كحبيبين وزوجين 42 عاماً، هامَ خلالها أراغون بهذه المرأة وجعل من قصائده أناشيد صنعت منه «صوتاً عظيماً غنّى للحياة بِلغة بسيطة ومُحكَمَة» كما يصفه الفيلسوف الفرنسي بيير موروا.
إلزا تريولي وذاكرة الأندلس
إبان الحرب العالمية الثانية اهتم أراغون بدراسة الثقافة العربية الأندلسية، فأبدع ديوانه «مجنون إلزا» الذي جاء على غرار «مجنون ليلى» أما في مجموعته Les Yeux d’Elsa «عينا إلزا» المؤلفة من 21 قصيدة، فقد كتبها لوي أراغون ونُشرت عام 1942 حيث شملت القصائد التي نُشرت في المجلات بين حزيران/ يونيو 1941 وشباط/ فبراير 1942 – التي صرح بأنه نشرها «بالترتيب الذي كُتِبَت به- ستتناثر الأسماء العربية الأندلسية (غرناطة، أبو عبد الله، زبيدة، رثاء الأندلس، أبو القاسم، عائشة، الخوارج، المعتزلة، قيس). تركز المجموعة الشعرية في مجملها على محورين رئيسيين: عِشقه الجنوني لإلزا وسقوط غرناطة الأندلسية العربية، ليستبدل اسم إلزا باسم ليلى ويكون مجنونها:
«إذا ذَكرَ أحدٌ ذات يوم أنّي قلت هذا الاسم الذي لها وتضطرب له روحي / فافعلوا ما يريده القلب: أن أبقى بلا اسم جوارها وعلى دربها/ ولتقولوا إني مجنونها». كما تُصوّر تلك القصائد سقوط غرناطة بيد الإسبان، حيث عاش أراغون حالة السقوط تلك، لينسحب ذلك الحدث على خوفه من فَقْدِ يدي إلزا تريولي الحريريتين ـ التي توفيت قبله باثني عشر عاماً- محاولاً ربط فقد العرب الأندلسيين لغرناطة وتعلُّقِهم بها بيدي إلزا وتعلُّقِه بها. يقول في قصيدته (يدا إلزا):
«أعطني يديكِ من أجل القلق / أعطني يديكِ اللتين بهما حلمتُ طويلاً في وحدتي/ أعطني يديكِ /فيهما سلامتي/ أعطني يديكِ علَّ قلبي يتكوَّن فيهما / ويصمت العالم فيه ولو للحظة / أعطني يديكِ لعل روحي فيهما تنام».
في «مجنون إلزا» يبكي أراغون مجد غرناطة الذي أَفَل، والذي طالما حلم أن يبقى مستمراً ليقول للعالم، كل العالم، بأن شعب الأندلس كان شعباً متمدِّناً وسليل حضارة عريقة، وصل إلى إسبانيا ليجعل منها تحفةً شرقيةً تشهد على الرقي الأخلاقي والفن الأبدي والذي كان يحاكيه من خلال عينيها في قصيدته (الليلَك):
«لذَّتي أن تعيشي/ اللذة ما لي من عينيكِ /اللذة هي ما تفعل السماوات بالنظر/ حيث ينفصل الجسد عن الروح».
وفي «مجنون إلزا» أيضاً يبكي أراغون نهاية غرناطة ويتمنى أن تكون نهايتها حُلماً لا حقيقة، إنه يتحسس المؤامرات التي تنتظرها مشيراً إلى حالة الفوضى التي ستصيبها، وإلى مئات العائلات التي سيتم طردها. يقول مخاطباً شعب غرناطة في قصيدته «رثاء آخر»:
«يا رَملاً قسّمته يد الملوك/ قاسٍ أنتَ على نفسكَ إذا واجهتَ نفسكَ/ أيها الشعب يا من لستَ غير دمٍ يهرقون/ أيها الشعب يا من لستَ غير أحشاء خيولٍ يَجُرّونها في الحَلبة».
يتابع أراغون رثاءه للأندلس لتصف كلماته أنَّ ما جري كان يوم كسوفٍ لا يوم ظلماتٍ خالدة، محتفياً بأشرعة السفن العربية، التي رست على ساحل الأندلس مجسدةً حلم الملوك، الحوار الدائم بين الأشجار الأندلسية والغيوم، حلمَ مياه النوافير التي بقيت تغني على تلك الأرض:
«أحقيقة يا الله.. أحقيقة؟ / ينتهي جمال الأيام/ ويمحو من الذاكرة ما كان مدينة/ حُلمَ الملوك والأشجار/ حوار الغيوم / والمياه التي غنَّتْ على المَرمَر».
أراغون الذي انكبَّ على دراسة اللغة العربية وتعرَّفَ على جماليات وفضاءات معانيها، جَمَع عناصر من السيرة الذاتية للشرق وسحر حضارة شمسه، لتوثق قصائده ما لم يكن خرافةً، فربط حب الشرق العذري بحبه لإلزا تريولي. إلزا الموشاة بخريطة الأندلس، ليبقى شَعْرُها البوهيمي ويداها الحريريتان رافعةً تنتشلها من برادوكس جمال باريس وغموض بطونها الضيقة، فيمحو حدود الشرق مع الغرب ويرسم لوحته الحقيقية للإنسان خارج الصناديق المبسترة وهو ما دفع الشاعر الفرنسي سان جون بيرس للقول: «إنّ من يروم التغني بقصيدة شعب لا يكون وحده، بل يكون مع الجموع وتدفعه الجموع» يقترب إبداع أراغون في كل مرة من خيال القارئ العربي، ليوضح الأفكار الملتبسة ويرى بديانة الشاعر ما لم يكن احتمالاً فردياً ولا جواباً نهائيا لأن حالات الحب والكشف والدهشة التي عَبَّرتْ عنها كلماته، ما هي إلا نتاج إنساني خفقَ جناحاه واخترق السكون ليفتعل – حتى اليوم – كل هذا الضجيج.
كاتب سوري
“القدس العربي”