لكن قبل السينما كانت السياسة. تأتي الدورة الـ79 لمهرجان البندقية في وقتٍ محتدم أوروبياً مع دخول العدوان الروسي على أوكرانيا شهره السابع بلا أي بوادر على اقتراب نهايته. ظلال الحرب ستحضر بالطبع في المهرجان، لكن ليس بالضرورة كما حدث قبل أشهر في مهرجان “كانّ” حين خاطب الرئيس الأوكراني الحضورَ بلباسه العسكري واعداً ومتمنياً بأن “الديكتاتور سيُهزم”. قبل شهر، خلال المؤتمر الصحافي لإعلان تفاصيل الدورة الجديدة، قال المدير العام للمهرجان ألبرتو باربيرا إن “الديم,قراطية الأوروبية مهددة من قِبل الإمبريالية البوتينية”.
(ملصق المهرجان)
المسألة الإيرانية أيضاً ستحضر، ففي حديثه للصحافة ذاك اليوم أكّد باربيرا وقوف إدارة المهرجان إلى جانب المخرجين الإيرانيين الثلاثة الذين اعتقلتهم السلطات الإيرانية “لأنهم فقط استخدموا حقّهم في التعبير”. ينشط المهرجان للفت الانتباه والتعبير عن تضامنه مع صانعي الأفلام الذين يتعرضون للهجوم، في إيران وسواها، وسيفعل ذلك عبر مبادرتين مقررتين ضمن أيام الفعالية، بهدف زيادة الوعي في وسائل الإعلام والحكومات ومنظمات العمل الإنساني بشأن أوضاعهم. لا يعني هذا طغيان السياسة على المهرجان، بقدر ما هو إثبات موقف في وقتٍ عصيب يمرّ به العالم، خصوصاً بالنظر لتنوع أقسام المهرجان واختلاف أنواع الأفلام المشاركة.
المسابقة الأميركية؟
يظهر هذا أكثر ما يظهر في المسابقة الرسمية التي تدشّن اختياراتها في السنوات الأخيرة ملامح أكيدة لبدء موسم الجوائز الأميركية. نصف الأفلام المختارة في القسم الرسمي تقريباً (10 من أصل 23) أميركي أو إنتاج أميركي مشترك، فضلاً عن وفرة الأسماء المشهورة المشاركة في دورة هذا العام.
البداية مع فيلم افتتاح المسابقة، “ضوضاء بيضاء” للمخرج الأميركي نواه بومباك، عن رواية بالعنوان ذاته للكاتب دون ديليلو (نُشرت سنة 1985 وفازت بجائزة “الكتاب الوطني للرواية”، وترجمها إلى العربية يزن الحاج)، تتخذ من هاجس الخوف من الموت موضوعاً تترجم عبره سلوك أبطالها المتعدد والمتكامل، وفرصةً لتقديم رؤية مغايرة للحضارة في القرن العشرين. في أولى تجاربه الإخراجية استناداً إلى أصلٍ أدبي (هذا هو فيلمه الـ11)، يحوّل بومباك الموضوع الكئيب مساحة لخلق فيلم رعب بنبرة كوميدية سوداء. الفيلم من بطولة آدم درايفر وغريتا غيرويغ ورافي كاسيدي وأندريه بنيامين، ومن المقرر عرضه أواخر أيلول/سبتمبر على “نتفليكس”.
من أميركا ومن إنتاج نتفليكس أيضاً يأتي الفيلم المنتظر “شقراء” لأندرو دومينيك، عن سيرة مارلين مونرو (تؤدي دورها الكوبية آنا دي أرماس). يستند الفيلم الممتد لـ166 دقيقة إلى رواية بالعنوان ذاته للكاتبة الأميركية جويس كارول أوتس صدرت في العام 2000، ويأتي ظهوره بعد نزاعات قانونية طويلة مع الورثة.
ثالث الأفلام الأميركية المنتظرة يأتي بتوقيع دارين أرنوفسكي الفائز بجائزة “الأسد الذهبي” قبل 14 عاماً. جديده بعنوان “الحوت“، من بطولة بريندان فريزر، حول مدرس لغة إنكليزية منعزل يعاني من السمنة المفرطة يحاول إعادة الاتصال بابنته المراهقة المنفصلة عنه للحصول على فرصة أخيرة في الخلاص. أما الرابع فصاحبه المعلّم التسجيلي فريدريك وايزمان، الذي لا يزال نشطاً بعدما تجاوز التسعين. “ثنائي” هو أول أفلامه الروائية الطويلة، بعد 44 فيلم تسجيلي سابق، يروي في 64 دقيقة علاقة طويلة الأمد بين رجل وامرأة. الرجل هو ليو تولستوي. والمرأة هي زوجته صوفيا. تزوجا لمدة 36 عاماً، وأنجبا 13 طفلاً، عاش منهم تسعة. احتفظ كل منهما بمذكراته. على الرغم من عيشهما معاً في المنزل نفسه، إلا أنهما واظبا على كتابة الرسائل لبعضهما البعض. صوَّر وايزمان الفيلم في غضون 23 يوماً منتصف العام الماضي في حديقة تقع بإحدى الجزر الفرنسية.
اهتمام خاص سيحظى به الفيلم الجديد للمخرج الإيراني جعفر بناهي، المعتقل منذ الشهر الماضي، والذي أنجزه في إيران دون تصريح تصوير للمرة الخامسة، لكن كما يخشى كثيرون، من المحتمل أن يكون هذا هو فيلمه الأخير لفترة طويلة. “لا دببة” هو عنوان الفيلم، ويصفه مدير المهرجان بأنه أكثر أفلام بناهي غرابة منذ اضطراره للتصوير في ظل قيود مشددة. فيلم إيراني آخر يشارك في المسابقة، هو “وراء الجدار” لوحيد جليلوند، ويدور حول رجل كفيف يحاول الانتحار ثم يتقاطع مساره مع امرأة هاربة من الشرطة.
في بقية عناوين المسابقة، تشارك من إيطاليا ثلاثة أفلام، هي “كيارا” لسوزانا نيكياريللي، و”الوهلة” لإيمانويل كرياليزي، من بطولة بينلوبي كروز، و”سيد النمل” لجياني أميليو، بالإضافة إلى فيلمين ناطقين بالإنكليزية لمخرجين إيطاليين من إنتاج أميركي، هما “عظام وكل شيء” للوكا غوادانينو، و”مونيكا” لأندريا بالاورو. من فرنسا، “سانت عُمر” لأليس ديوب، و”أطفال الآخرين” لريبيكا زلوتوفسكي، و”مِلكي” لرشدي زم (جزائري الأصل)، من بطولته بالاشتراك مع سامي بوعجيلة ورشيد بوشارب، بالإضافة إلى “أثينا” لرومان غافراس. المكسيكي أليخاندرو غونزاليث إينياريتو يعود إلى بلده بفيلمه “باردو: سجل كاذب لبعض الحقائق”. الياباني كوجي توكادا يشارك بفيلمه الجديد “حياة/ حبّ”، كما يعود الفرنسي فلوريان زيلر بدراما عائلية جديدة بعنوان “الابن” (إنتاج بريطاني)، فيلم الختام هو “الشمس المعلّقة” للإيطالي فرانشسكو كاروتزيني. حكاية ابن هارب بعد عصيانه أوامر سيّده/ والده رجل العصابات، يلجأ إلى قرية منعزلة لا تغرب عنها الشمس ليراجع أفعاله ويلتمس الأمان، وسط مجتمع صغير من المتطرفين الدينيين.
كل هذا الأفلام وغيرها ستتنافس في ما بينها للظفر بجوائز لجنة تحكيم تقودها الممثلة الأميركية البارزة جوليان مور، وتضم في عضويتها كلاً من المخرجة الفرنسية أودري ديوان، الممثلة الإيرانية ليلى حاتمي، المخرج والكاتب الإيطالي ليوناردو دي كوستانزو، الروائي والكاتب الياباني البريطاني الفائز بجائزة نوبل للأداب كازو إيشيغورو، المخرج وكاتب السيناريو الإسباني رودريجو سوروجوين، المخرج والمنتج الأرجنتيني ماريانو كوهِن.
خارج المسابقة أكثر إثارة
لم يتمكن مدير المهرجان ألبرتو باربيرا، الذي ستنتهي فترته في العام 2024، من تكرار ما فعله في دورة العام الماضي عندما أحضر فيلم “كثيب” الضخم إنتاجياً والمدجج بالنجوم. لكن بالرغم من هذا، تُظهر اختيارات وعناوين المسابقة الرسمية أن مهرجان البندقية لا يمكنه مواكبة مهرجان كانّ من حيث قوة النجوم فحسب، وإنما أيضاً يظل قادراً على المنافسة كمنصة مرموقة لعرض أفضل إنتاجات السينما المنزلية.
اللافت أن قرار تركيز معظم السينمائيين المشهورين و”التاريخيين” خارج المسابقة يجعل هذا القسم يظهر للوهلة الأولى باعتباره الأكثر إثارة. والتر هيل، لاف دياز، بول شرايدر، تي ويست، باولو فيرزي، أوليفر ستون (المتهم بالدعاية لبوتين)، سيرغي لوزنيتسا، جيانفرانكو روزي، إنريكو غيتسي، وحتى مسلسلي نيكولاس فيندينغ ريفن ولارس فون تريير، وفيلم الكوري الجنوبي كيم كي دوك الراحل. تعزّز المقارنة بين المسابقة الرسمية وقسم “آفاق” الانطباع بوجود نظرة مركزية عميقة فيما يتعلق بالسباق على الأسد الذهبي: ستة عشر دولة ممثلة في “آفاق”، مقابل ثمانية فقط تتنافس على جوائز المسابقة الرسمية.
أيام البندقية
واحد من أصغر وأميز الأقسام الموازية في المهرجان هو “أيام البندقية”، الذي يدخل عامه الـ13 ببرنامج مكثّف وانتقائي يواصل الاتجاه القائم منذ تولّي المنتجة غايا فورير مسؤوليته الفنية قبل ثلاثة أعوام: اتجاه صوب السينما باعتبارها عنصراً أساسياً لطرح الأسئلة اليوم، وهوية سياسية واجتماعية وحميمة في المقام الأول. هوية تشبه صناعة الأفلام ورواية القصص.
القسم الجانبي، الذي يضم أسماء لافتة غير معروفة بعد على نطاق واسع، يحتوي بعض الأحداث السينمائية المثيرة للاهتمام هذا العام. يبدأ بالفيلم الوثائقي “المسيرة في روما” للأيرلندي مارك كوزين، الذي يضمّ مجموعة من الصور الأرشيفية عن صعود الفاشية في إيطاليا، وربما يعمل كمرآة للأوروبيين في هذا المناخ السياسي والاجتماعي الحالي. ويختتم القسم عروضه بفيلم “المستمع” للممثل والمخرج الأميركي ستيف بوشيمي، من بطولة تيسا طومسون في سيناريو للكاتب والمنتج أليساندرو كامون.
وأعلن رئيس الجمعية الثقافية المسؤولة عن القسم أندريه بورغاتوري أنه “من البديهي أن تركيزنا سيكون في المقام الأول على مجموعة جريئة من العروض التي تستجيب بشكل خاص للقضايا الاجتماعية الرئيسية والمشاعر السياسية في الماضي والحاضر، وننظر إلى أفق يمتد إلى ثقافات مختلفة للغاية ويحتضن، خاصة هذا العام، رياح التغيير التي تهب باتجاه أوروبا من البحر الأبيض المتوسط. يمكن لإيطاليا نفسها أن تتباهى بأربعة أفلام في التشكيلة، بما في ذلك فيلم “Padre Pio” المرتقب بشدة للمخرج آبيل فيريرا؛ والأهم من ذلك، هذه الطبعة غنية بشكل ملحوظ بالأحداث والمحادثات والحوارات مع صانعي الأفلام، تقريباً بعدد الأفلام التي سيتم عرضها”.
فيلم فيريرا الجديد، يقود طاقم تمثيله شيا لابوف، الممثل الذي اختفى في أوائل عام 2000 وظهر مرة أخرى في العام 2019 بفيلم “هاني بوي” المستند إلى سيرته الذاتية. يعيد فيريرا النظر في حدث مأسوي في أوائل القرن العشرين في التاريخ الإيطالي، مذبحة سان جيوفاني روتوندو في أكتوبر 1920.
(حديد نحاس بطّاريّات)
في ما يتعلق بالعروض المقدمة من منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، يشارك فيلم “حديد، نحاس، بطّاريّات” للمخرج اللبناني الفرنسي وسام شرف، والذي يتناول فيه قصة حبّ مستحيلة في لبنان المنهار بطلاها لاجئ سوري وعاملة إريترية. الفيلم من تأليف المخرج بالمشاركة مع هالة دباجي ومارييت ديسير، وبطولة كلارا كوتور وزياد جلاد ورفعت طربيه ودارينا الجندي. كما يشارك فيلم الدراما التاريخية “الملكة الأخيرة” للجزائريين الفرنسيين عديلة بن ديمراد وداميان أونوري، بقصة تعود بالوراء إلى القرن السادس عشر، لتروي الحكاية الملحمية، الأسطورية حيناً والتاريخية حيناً، عن آخر ملكات الجزائر. ومن المغرب يشارك فيلم “الملعونون لا يبكون” لفيصل بوليفة، الذي تابع حكاية أم وابنها، متحدان، ولكن بعيداً عن بعضهما البعض في نفس الوقت، يسافران عبر المغرب الذي تمزقه الاختلالات الاجتماعية والاقتصادية.
من إيران يشارك الفيلم الوثائقي “وحدي” لجعفر نجفي، حول صبي يحاول منع تزويج أخواته الصغيرات، محاولاً قلب القاعدة الاجتماعية، ومن ورائها العالم بأسره. كما سيجري تكريم السينمائي الأرميني أرتافازد بيليشيان بعرض مجموعة من أفلامه.
حضور عربي
بالإضافة إلى ما سبق ذكره من أفلام وأسماء عربية، تتوزّع مشاركات عربية أخرى في بقية أقسام المهرجان. يشارك” الفرنسي الجزائري رشيد حامي بفيلمه الروائي الطويل الثاني “من أجل فرنسا” في مسابقة “آفاق”، التي تتضمن 21 فيلماً داخل المسابقة الرسمية، إلى جانب 19 فيلماً خارجها. تدور أحداث الفيلم المقتبسة من قصة حقيقية حول ضابط شاب من اصل جزائري يفقد حياته بشكل مأسوي أثناء تدريبات داخل أكاديمية عسكرية فرنسية مرموقة، ثم يتنصل الجيش الفرنسي من المسؤولية عن وفاته. كما تشارك المصرية كوثر يونس بفيلمها القصير “صاحبتي” في مسابقة آفاق للأفلام القصيرة.
وفي قسم “آفاق إضافية” تشارك السورية سؤدد كعدان بفيلمها “نزوح“، بعد مشاركتها سابقاً في المهرجان عام 2019 بفيلم “يوم أضعت ظلّي” وحصولها على جائزة “أسد المستقبل” لأفضل عمل أول. فيلمها الجديد من بطولة سامر المصري وكندة علوش وهالة الزين، حكاية مجازية عن تحرر المرأة تدور أحداثها في خضم الصراع السوري في دمشق ، حول عائلة قررت البقاء في المنطقة المحاصرة. وضمن مسابقة “آفاق إضافية” أيضاً يشارك فيلم “جنائن معلّقة” للعراقي أحمد دراجي في أولى تجاربه الروائية الطويلة، وتدور أحداثه حول صبي يعمل جامعاً للقمامة في بغداد، يعثر على دمية جنسية أميركية في مكبّ للنفايات، ما سيفتح أمامه أبواب الاكتشافات والصراعات.
وفي قسم “أسبوع النقاد”، وقع الاختيار على فيلم المخرجة المغربية ياسمين بنكيران “ملكات“، لاختتام فعالياته، وهو التجربة الإخراجية الأولى في عالم الأفلام الروائية الطويلة للمخرجة بعد أن قدمت فيلمها القصير “ساعة الشتاء” عام 2018. تدور قصة الفيلم حول 3 شابّات تلاحقهن الشرطة عبر مسيرة طويلة سيعبرن فيها منطقة جبال الأطلس وصخوره الحمراء ووديانه المزهرة، ليصلن في المرحلة الأخيرة إلى جنوب المغرب.
كما تنافس 8 أفلام من بينها 6 أفلام لمخرجين من العالم العربي، من لبنان ومصر وفلسطين والجزائر والأردن والسعودية، منها 3 أفلام روائية طويلة، و4 أفلام تسجيلية طويلة، في جوائز ورشة “فاينال كات” بمهرجان فينيسيا المقبل، المخصصة لدعم الافلام من منطقة الشرق الاوسط وشمال إفريقيا في مرحلة ما بعد التصوير، والتي تبلغ قيمة جوائزها 100 ألف دولار.
وتشهد دورة هذا العام تتويج أيقونة السينما الفرنسية كاترين دينوف بجائزة “الأسد الذهبي” تكريماً لمسيرتها المهنية الممتدة لأكثر من خمسة عقود، كما سيحصل على نفس الجائزة الكاتب والمخرج الأميركي بول شرايدر. كما سيمنح المهرجان جائزة خاصة للمخرج الأميركي والتر هيل، الذي سيعرض فيلمه الجديد “الموت لأجل دولار” خارج المسابقة.
“المدن”