لا يتوقف الاحتقان بين قطبين من الطائفة الشيعية بعد نحو عشرة أشهر من الانتخابات التشريعية التي أجريت في أكتوبر 2021. وهما الزعيم الديني مقتدى الصدر من جهة، ومن جهة أخرى تحالف الإطار التنسيقي، المكون من أحزاب وفصائل مقربة من إيران، ومنها بالخصوص قائد ميليشيا الحشد الشعبي هادي العامري ورئيس الوزراء السابق نوري المالكي. ويبدو أنّ كلا منهم، خاصة رجال الدين المعمّمين، يعتبرون أنفسهم متحكمين بجمهور عقائدي، يمتثل لأوامر الاحتجاج، ثم لمهلة الانسحاب المحددة بوقت. وما حدث في ساحات بغداد، خلال الأيام الماضية يعكس مثل هذا المنطق في التحكم بالناس وفق عقلية طائفية، ما هي إلاّ إمعان في تقسيم المجتمع إلى هويات فرعية غير متجانسة، ومزيد تأهيلها للصدام والتناحر في كل مناسبة.
يفتقد العراق لحكومة جديدة منذ أكثر من تسعة أشهر، في الأثناء، تندلع احتجاجات بين فترة وأخرى، على نحو يعكس بوضوح الفشل السياسي الذريع لكل من تصدّروا المشهد السياسي في بلد كان له تأثيره الإقليمي والدولي قبل التدخل الأمريكي. هذا الفشل ذاته يغذي المواجهات التي تدور بين رجل الدين الشيعي مقتدى الصدر وخصومه من الشيعة المدعومين من إيران، أنصار الزعيم الشيعي، يعتصمون أمام مبنى مجلس القضاء الأعلى في بغداد، وسط انتقادات ودعوات للتهدئة. والإطار التنسيقي المناهض له، يرد ويعلن عن رفضه لأي حوار مع التيار الصدري، وما آلت إليه الأحداث ضمن معركة كسر العظم بين الصدريين والإطار، ليست سوى مصادرة على المطلوب، واحتراب على الوهم، من إعلان الزعيم الشيعي (مرة أخرى) اعتزال العمل السياسي نهائيا، واقتحام أتباعه المنطقة الخضراء الحكومية وسط بغداد ومحاصرة القصر الجمهوري، في ظل إجراءات أمنية مشددة، بموازاتها تمّ إعلان حظر التجول في جميع المحافظات العراقية، وسقوط ضحايا نتيجة انتشار السلاح الخارج عن سيطرة الدولة.
العراق إلى الآن أسير للميليشيات والعنف وانعدام الأمن، بسبب دستور المحتل الأمريكي برايمر الذي رسّخ المحاصصة الطائفية بدل الهوية الوطنية الجامعة
الواضح أنّ موقف رجل الدين الشيعي مقتدى الصدر، شهد تغيرا ملحوظا خلال الاحتجاجات السابقة، فمن داعم لحكومة عادل عبد المهدي إلى مطالب باستقالته، ومحذرا من أن عدم استقالة عبد المهدي قد يحوّل الوضع في العراق إلى ما يشبه سوريا واليمن. وفي ظل حكومة تصريف الأعمال التي يقودها رئيس الحكومة مصطفى الكاظمي المنتهية ولايته، يتفاقم الوضع أيضا، ويطالب التيار برحيل البرلمان، وبالتوقيع على اتفاقية تتضمن عدم إشراك جميع الأحزاب والشخصيات التي قادت العملية السياسية منذ 2003 وحتى الآن في الانتخابات البرلمانية المقبلة. في المحصلة، العراق إلى الآن أسير للميليشيات والعنف وانعدام الأمن. وكل ذلك بسبب دستور المحتل الأمريكي برايمر الذي رسّخ المحاصصة الطائفية عنوانا سياسيا للعراقيين، بدل الهوية الوطنية الجامعة، وتوزيع السلطة بما هي عملية سياسية وليست قانونية، أدّى بالنتيجة، إلى تشتت السلطة، والفوضى الناجمة عنها في المجتمع، أعاقت حركة وتنظيمات الدولة. حالة مرضية سياسية ومجتمعية، أنتجت في تقدير الباحث، حكمت السيد صاحب البخاتي، ما يعرف بالدولة العميقة، التي هي عبارة عن دويلات مستقرة في قاع المجتمع العراقي، وفي مؤسساته ودوائره كافة، فتوزيع السلطة على الطريقة العراقية، أباح تجاوز القانون من أجل تحقيق هذا التوزيع، الذي يقضي بأن يكون رئيس الجمهورية كرديا، ورئيس مجلس النواب سنيا، ورئيس مجلس الوزراء شيعيا. واقع شبيه بلبنان، ولا يمكن توصيفه بالعادل، لأنه لا يستند إلى قيم قانونية أو معايير عادلة بالمفهوم العام للعدل السياسي والقانوني.. تشتّت على جميع المستويات قد لا ينهي حالة المواجهات، فالإصلاح ومحاربة الفساد، فعل جريء يحتاج إلى رؤية معمقة. وإلى قوانين واضحة تُطبّق على الجميع. وتنعكس إيجابا على الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية للعراقيين. وليس لفئة دون أخرى، على النحو الذي يجعل كثيرين ينظرون إلى المحتجين، بأنهم متظاهرو التيار الصدري حصرا، وليسوا جمهورا عراقيا ثائرا على تأزم أوضاع العراق، أو على الأقل يحمل الوشائج ذاتها. وبموازاة ما يجري اليوم في الشارع، يرى البعض بأن المبادرات قد تفاقم الانسداد، في غياب طرف أعلن انسحابه من الحياة السياسية، وطالما كل فريق يرى نفسه صاحب وجهة النظر الصحيحة، فإنهم يحكمون على العراق، بأن يبقى حبيس الأزمات المتكرّرة، حتى إن تم تشكيل حكومة وبرلمان، فالنتائج ستعيد المشهد الذي أوصل البلد إلى ما هو عليه اليوم من انقسام وفوضى، تنتظر تدخل
مرجعية معينة لتخفيف حدة الاحتقان في الشارع، فهل هكذا تُدار الدول؟ مؤسف فعلا أن يظل العراق في كل مرة رهين انزلاق الأوضاع إلى متاهات مجهولة النتائج سببها فساد الطبقة السياسية، التي جاء معظمها على ظهر الدبابة الأمريكية إثر غزو العراق، وإسقاط دولة وطنية ذات سيادة، وبعضهم رهين تدخلات إقليمية، وينقاد لأوامرها على حساب واقع العراق والعراقيين.
بالنتيجة، عقدة التمسك بالسلطة المسنودة بتدخلات خارجية، هي أساس خراب البلد، فالعراق أسير واشنطن وطهران، والتدخل الإيراني فيه واضح منذ سقوط النظام البعثي، ولا يحتاج إلى تقرير إعلامي تنشره صحيفة «نيوريورك تايمز» أو موقع «ذي انترسبت» الأمريكيين، في مسعى لمزيد صب الزيت على النار. يبدو أنّه لا معنى في قواميسهم لمواطن حرّ في دولة مدنية ديمقراطية تحترم القانون وإرادة الشعب، ولا تتجاوب مع ثقافات ما قبل الدولة مؤشّر التقوقع الطائفي والمذهبي والعشائري. في أكتوبر 2019 وصلت الاحتجاجات لمرحلة المطالبة بتغيير النظام السياسي بهويته الطائفية وشوائبه المذهبية، وليس فقط الطعن في بعض سلوكه والضغط لتعديلها، وبدا حينها أنّه لم يعد بإمكان المرجعية الدينية، أو دعاة المذهب، أن يستروا عورة السلطة، أو يقفوا حاجزا أمام مطالب الناس وغضبهم المتزايد، لكن من يتمسكون بتقسيم الشعب العراقي على أساس طائفي، أعادوها إلى مربع عقائدي، لا يخرج عن دائرة الإرشاد وتعليمات الزعيم، فهل تستبطن المظاهرات العراقية الأخيرة تغيير المعادلات السياسية؟ أم هي مجرد تعميق للفوضى بعناوين طائفية؟ وهل أنّ التيار الصدري الذي يقود الاحتجاجات، يدفعها نحو عناوين وطنية متجانسة، عابرة للتناقضات السياسية والحزبية، واللون الطائفي ولجميع الأيديولوجيات، التي أخذت بسببها الدولة مبادئ العطب، وتضعضعت أحوالها، وأصيبت بأمراض مزمنة؟ ويبدو أن الحراك لا يخلو من مضامين طائفية معتادة، تزيد في تعميق جراح المواطن العراقي البسيط، خاصة عندما يهتف المتظاهرون بشعارات لدعم مواقف الزعيم الشيعي مقتدى الصدر، فيما يحمل كثيرون صورا له، ويردد آخرون شعارات «ثورة الشعب وليس التيار الصدري» و»الشعب يريد إسقاط النظام». بلد غني مثل العراق، يمتلك ثروات نفطية وموارد مهمة، يصل إلى أسوأ حالات التدهور على جميع المستويات الاجتماعية والاقتصادية، وإلى مربع الخطر ولغة العنف، قد تكون المسارات ومآلاتها، بديهية عندما تكون نِتاج ذهنية طائفية جعلوا منها دستورية، وليس هوية وطنية عراقية جامعة. ومؤسف فعلا، أنّ المواطن العراقي أصبح ينشد حياة كريمة بعيدة المنال، تحُولُ بينه وبينها عقلية سياسية تزيد في تأزيم الأوضاع، وتدين بوجودها واستمرارها إلى قوى خارجية، وتمنع تعبير المواطن العراقي عن انشغالاته وهموم بلده، ومن السهل أن تواجهه بالرصاص، وتفعل كل شيء لأجل البقاء في السلطة، والاستئثار بها لمزيد تحصيل أطماع فئوية، والبحث عن مكاسب ضيقة بعيدة عن مصلحة البلد ومشروع الإصلاح المطلوب، الذي يبقى رهين إعادة هيكلة الدولة العراقية وعقلها السياسي.
كاتب تونسي
“القدس العربي”