كان فرديناند دي سوسير غالباً ما يشكو من نقصان وفقر المبادئ الأساسية والمنهجية التي تميز علم اللغة أو اللسانيات في مراحل نموها الأولى. تشير إلى ذلك مقدمة الطبعة الأولى لكتابه «فصل في علم اللغة العام» الذي يشكّل علامة ليس في علم اللغة حسب، بل في جميع مجالات الدراسات الإنسانية.
ظلّ دي سوسير يبحث بإصرار طوال حياته عن القواعد والقوانين التي يمكن أن تنتظم أفكاره في لجة تلك الفوضى من الدراسات اللغوية. وظلّت تلك الأفكار التي أنفق سنوات عمره في تشذيبها وتطويرها تنمو في الظل ولم يتح له الإفصاح عنها بطريقة علمية، إلى أن تولّى منصبه التدريسي في جامعة جنيف عام 1906. محاضراته بالغة الأهمية وذات القيمة الكبرى التي ألقاها بين عامي 1906 و1911 كانت ستظل محصورة في نطاق الدرس، لولا طلابه الذين وضعوا أيديهم بمساعدة أرملته على مخطوطات محاضراته ومسودات الخطوط العامة لأفكاره، ليصدروا بعد وفاته الكتاب الذي يحمل اسمه والذي، كما أسلفنا، يشكل علامة عملاقة في اللسانيات والعلوم الإنسانية الأخرى.
الأسئلة اللغوية
تصدّى دي سوسير في تلك المحاضرات إلى السؤال عن موضوع اهتمام علم اللغة وما يترتب على هذا العلم القيام به من أجل فحص الأسئلة الحقة عن اللغة وإلى السؤال عن ماهية العلامة اللغوية (Linguistic Sign) ثم قام بتقسيمها إلى جزئين: المدلول -المعنى (Signified) والدلالة- الصوت أو الصورة- (Signifier).
في مبحث تعريفه للغة ينطلق دي سوسير من السؤال الآتي: ما هو الموضوع الكامل والصلد بالنسبة إلى علم اللغة؟ ويشير إلى أن سؤالا كهذا ينطوي على صعوبة، خاصة من ناحية أن العلوم الأخرى تتعامل مع موضوعات محددة مسبقاً وفي الإمكان تناولها من وجهات نظر مختلفة. لكن هذا الأمر لا يبدو ممكنا بالنسبة إلى علم اللغة. فالكلمات بحد ذاتها وبتمحيصٍ متأنٍ ستكشف لنا عن وجوه عدة تعتمد على ما إذا كنا نتفحّصها بالنظر إليها باعتبارها صوتا، أو تعبيرا عن مفهومٍ أو فكرةٍ، أو بالنظر إلى تكوينها الصرفي أو تاريخها الفيلولوجي، إذ رغما عن كونها تتقدم على وجهة النظر إلا أن وجهة النظر تبدو وكأنها هي التي سوف تخلق منها موضوعا. أضف إلى ذلك حقيقة أن أي وجهة من وجهات النظر تلك لا يمكن أن تتقدم أو تتفوق على أخواتها.
إنَّ الاعتقاد بكون اللغة عملية خلع أسماء على الأشياء، أو أنها قائمة من الأسماء يشير كلُّ واحدٍ منها إلى شيءٍ بعينه، هو اعتقادٌ قابل للطعن من وجوهٍ عديدةٍ، لأنه يفترض أنَّ ثمّة أفكاراً معدّة قبلاً تسبق وجود الكلمات.
ومهما تكن وجهة النظر التي نتبناها يبقى للظاهرة اللغوية أو لموضوع البحث بالنسبة إلى اللسانيات جانبان متآصران يشتق كلاهما قيمته من الآخر. فالمفردة المنطوقة، أي مفردة؛ هي صوت يشكلّه جهاز النطق وانطباع سمعي تستلمه الأذن. لكن الصوت لا يوجد أساسا دون جهاز نطق ولذا فالأصح القول إن اللفظ يتكوّن من نطق وسماع، إذ لا يمكن عزل النطق عن سماعه. فهل يعني هذا أن الألفاظ هي ما يكوّن الكلام؟ كلا قطعا فهي في النهاية وسيلة للتعبير عن فكرة ولا معنى لها في ذاتها. ليس هناك في اجتماع القاف والميم والراء معنى في حد ذاته لكن معناه ينبجس من العلاقة المثيرة بين المكوّن اللفظي – السمعي (قمر) واقترانه بمكوّن موضوعي- ذاتي (الكوكب الشقيق للأرض). إنَّ الكلام يتكوّن من جانبين أحدهما فردي أو ذاتي والآخر جمعي أو اجتماعي، وليس في الإمكان فهم أحد الوجهين دون الآخر. كما يتضمّن الكلام على الدوام نظاماً قائماً ونموا وتطويرا فيه وعليه، ففي كلّ لحظة من ممارسته يكون الكلام مؤسسةً قائمةً ونتاجاً ماضوياً. لذا فالإجابة على سؤال ماهيّة الموضوع الكامل والصلد للسانيات من أيّما وجهة نظر من التي ذكرناها، يقودنا إلى الالتباس فالتركيز على أي وجه من الوجوه التي ذكرناها كما يقول دي سوسير يقودنا إلى الخطأ وتجاهل تلك التضمينات المعقّدة.
يعود دي سوسير ليقول في ما بعد إنَّ طريقة تفادي هذه المشاكل في السؤال عن اللغة وموضوع البحث بالنسبة للسانيات، تكمن في أن نجمع بين اللغة واستخدام اللغة باعتبارها ظواهر تجليات الكلام كلّها. وهنا ينبغي الحرص على عدم اللبس بين اللغة (Langue) واللسان (Languge) . تنبغي الإشارة هنا إلى أن الكلمتين الفرنسيتين اللتين يستخدمهما دي سوسير هنا تشيران إلى معنيين منفصلين فالأولى (Langue) تشير إلى اللغة باعتبارها ظاهرة وملكة بشرية تنتج اللسان. أمّا الثانية (Languge) فتشير إلى اللسان أو واحد بعينه من الألسن البشرية كاللسان العربي أو الفارسي أو الفرنسي أو الإنكليزي، الذي هو جزء معين من اللغة، رغم كونه الجزء الأهم يقينا لكنه النتاج الاجتماعي لمَلَكَة اللغة وهو مجموعة الأعراف اللازبة التي تتبناها المؤسسة الاجتماعية لتجيز للأفراد وفق معايير معينة، القيام بممارسة مَلَكَة اللغة. وبهذا المعنى فاللسان حسب دي سوسير متعدد الأوجه متنوّع الخواص يشتمل في الآن ذاته على مستويات عدة؛ فيزيولوجية وفسلجيّة وسايكولوجية وهو فردي ـ ذاتي وجمعي-اجتماعي. وليس في الإمكان جمعه تحت أيٍّ من تلك العناوين فلسنا قادرين بعد على إيجاد المبدأ الذي يوحد أوجهه العديدة. أمّا اللغة فهي على النقيض من ذلك كلٌّ متكاملٌ ومبدأ للقياس والتصنيف. وما أن نضع اللغة في المنزلة الأولى بين حقائق اللسان، فإنَّنا نعرض نظاماً طبيعيا إلى اختلاط يشذُّ عن أي محاولة للتصنيف. يقول دي سوسير لعل هنالك من يعترض على مبدأ القياس والتصنيف من باب أنَّ اللسان (Languge) نتاج قدرات بايولوجية طبيعية، في حين أنَّ اللغة (Langue) شيءٌ مكتسب وعرفي! لكن تفنيد هذا الاعتراض حسب دي سوسير، أمرٌ في غاية السهولة إذ لم يثبت لنا أحدٌ أن اللسان الذي نتحدث به ذو طبيعة بايولوجية عضوية محضة، أو أن جهاز النطق مصمّم للكلام كما هي أرجلنا مصمّمة للمشي.
أشار دي سوسير إلى أن اكتشاف الطبيب الفرنسي بول بروكا (1824-1880) لجزء المخ الخاص بالكلام يستخدم للبرهنة على أن القابلية على الكلام كامنة في التكوين البايولوجي للبشر، لكنّنا نعلم أن الجزء المعني هو مركز لكلّ ما يتعلّق بالتخاطب بما في ذلك الكتابة، ولذلك يمكن القول إن وراء العمل العضوي للحنجرة والأذن والدماغ – أو بقول آخر للنطق والسماع والإدراك – توجد مَلَكَة تحكم عمل هذه الأعضاء وهذه المَلَكَة هي اللغة.
إنَّ الاعتقاد بكون اللغة عملية خلع أسماء على الأشياء، أو أنها قائمة من الأسماء يشير كلُّ واحدٍ منها إلى شيءٍ بعينه، هو اعتقادٌ قابل للطعن من وجوهٍ عديدةٍ، لأنه يفترض أنَّ ثمّة أفكاراً معدّة قبلاً تسبق وجود الكلمات. كما يعجز اعتقاد كهذا عن إخبارنا عمّا إذا كانت الاسم ذا طبيعة صوتية أو سايكولوجية، وفي النهاية يفترض أن وصل اسمٍ بشيءٍ عمليةٌ بسيطةٌ وهذا أبعد ما يكون عن الحقيقة. لكن دي سوسير يرى من ناحيةٍ أخرى أنَّ هذا الاعتقاد الساذج يفيدنا بحقيقةٍ واحدةٍ هيّ أنَّ العلامة اللغوية (الاسم) كيانٌ مزدوجٌ أو وحدةٌ مكوّنةٌ من شقين؛ الصورة الصوتية (Sound-Image) والمفهوم.
إن اللغة بالنسبة إلى باختين ليست الوسيلة المحايدة، بل كان يراها مأهولة بالآخرين متواشجة مع المستمع أو المتلقي. يقول إننا موجودون بقدر علاقتنا بالآخرين، فكما يتكوّن جسم الإنسان في رحم الأم يتكوّن وعي الفرد في رحم وعي المجتمع.
العلامة اللغوية
ولعل القارئ يلاحظ هنا أني في الواقع أسعى إلى تبسيط القواعد الأساسية للمنهج السوسيري. أراد فرديناند دي سوسير وبرؤية واضحة أن يجد طريقا لفهم اللغة ودراستها، وقد فعل بعد التحوّل من الدراسة الفيلولوجية والتاريخية للغة إلى رؤيةٍ مخلصةٍ في فترةٍ علمية لامعة أخضعت المفاهيم الإنسانية كلّها إلى تمحيصٍ دقيقٍ ودراسة جريئة عميقة تطمح لا إلى التقليد، بل إلى الاستكشاف، ولا إلى الإخلاص للفكرة، بل إلى الإخلاص في التفكير. وهكذا فإنًّ عقله الفذ وبحثه المخلص وأصول تعليمه العلمي ومنهج بحثه الشامل الذي شغله عن التفكير بإصدار كتاب يحمل اسمه أو بإبراز إنجازه الشخصي، أنتج في النهاية منهجا في تبويب وتصنيف وهيكلة دراسة الظواهر الإنسانيّة الأخرى، منهجاً مؤثرا كان سيسود المجتمع الأكاديمي في النصف الثاني من القرن العشرين ويقود إلى ثورة منهجية كبرى تبدأ بالمنهج البنيوي.
إنَّ فكرة العلامة اللغوية التي أحدثت ثورة في دراسة اللغة والأدب والثقافة كانت تأكيدا على أن المعنى ليس في صلب العالم الموضوعي، بل في الصلة المعقودة حسب التقاليد اللغوية بين الدالة ومدلولها أو المفهوم (Concept) الذي تدل عليه. نحن في العربية على سبيل المثال نوظف العلامة اللغوية «قمر» ليس للدلالة الحرفيّة أو الإشارة إلى الكوكب بالضرورة وإنما لدلالة مرتبطة بمفهوم معين.
كان للإقرار بطريقة ما بعرفيّة اللغة وطبيعتها الذاتية المنفصلة عن العالم الموضوعي تداعيات كبرى على الأفكار التقليدية عن معنى اللغة ووظائفها. فإذا كانت الرؤية التقليدية للغة تقدم لنا شخصا قادرا على ترتيب المعاني المكنونة في الكلمات التي يختارها، فإن سوسير تقدّم برؤية مغايرة يكون فيها فعل التواصل اللغوي مجرد انتقاء من نظام لغوي موجود أصلا قبل وجود المتحدث
غير أن ميخائيل باختين (1895-1975) أخذ على سوسير إهماله الحقيقة الكبرى وهي أن اللغة موجودة وفاعلة في المواقف الاجتماعية ولذا فهي مرتبطة بدرجة من التقييم الاجتماعي. يعترف باختين بالإنجاز الذي حقّقه البنيويون في حقل دراسة اللغة لكنه يرى أنها يجب ألا تُدرَس بوصفها مجموعة من القواعد المُتبعة مستقلة عن الناطقين بها، بل يجب أن تدرس باعتبارها تعابير واقعة في الزمان والمكان يحاول المتحدثون من خلالها وأثناء حوار مع آخرين أن يصوغوا المعاني باشتراك مع المستمعين وعلى أساس التفاعل في موقف اجتماعي معين، سواء كان ذلك الموقف واقعا أم خيالا.
إن اللغة بالنسبة إلى باختين ليست الوسيلة المحايدة، بل كان يراها مأهولة بالآخرين متواشجة مع المستمع أو المتلقي. يقول إننا موجودون بقدر علاقتنا بالآخرين، فكما يتكوّن جسم الإنسان في رحم الأم يتكوّن وعي الفرد في رحم وعي المجتمع. إن وجودنا اجتماعي- لغوي وهو عملية صياغة صوتنا الفردي من خليط الأصوات في بيئتنا اللغوية وهذه العملية مستمرة على مدى حياة الفرد ومتجلية في إنتاجنا أو بقول أدق توليفنا الكلام، أو كما يقول رولان بارت (إنقاذ الكلام من شرك الكلمات الأخرى).
كاتب عراقي
“القدس العربي”