تعد الحرب مجالا أساسيا للبحث والتحليل الفلسفي عبر التاريخ، من حيث أنها تسمح لنا بالتشكيك في طبيعة الإنسان أمام مفاهيم متخيلة تطرح بقوة أمام تاريخه بين الحرب والسلم. فكل البشر يعيشون داخل مجتمعات، ويخضعون لقواعد سلوك وقانون، وهذه «الحالة الطبيعية» للإنسان ليست أكثر من قصة خيالية، لأن الكائن البشري عنيف بطبعه وذو نزعة تدميرية، ودينامية التاريخ تثبت التشكلات الكبرى للجغرافيا بعد الحروب، والعلاقات بين البشر تسير أحيانا نحو الهاوية.
نتذكر أن المجال المعجمي المرتبط بالحرب ظهر مرة أخرى في الفضاء العام مع ظهور فيروس كورونا 19، وعبارة «نحن في حالة حرب» لإيمانويل ماكرون. في الأسابيع الأخيرة، أصبح سيناريو الحرب حقيقة ملموسة مع وجود الصراع المسلح والتفجيرات في قلب أوكرانيا، تقف شاهدة على التحقيق في أصوله وديناميته على نطاق واسع.
يبدو أن خطاب الحرب بالأسلحة يسود الآن على خطاب التفاوض، وخطاب السلام يعيش حالة شديدة من الهشاشة. في الوقت نفسه مع احتمال نشوب صراع ذي أبعاد عالمية يشوبه القلق الدائم والأحاديث التشاؤمية بعيدا عن الطمأنينة التي يفرضها السلام. اعتدنا على إحياء ذكرى مآسي القرن العشرين، وما خلفته من تاريخ العنف وكمية هائلة من الصراعات والحروب والإبادات الجماعية والمجازر، ابتداء من العصور القديمة، وصولا إلى العصر الحالي، وبعد فترة طويلة من السلام، لم نتخيل نحن الأوروبيين أبدا أنه بعد وباء كورونا، كان يلوح في الأفق نوع من الحرب العالمية الثالثة، إن لم تتراجع البشرية عن مسارها العنفي والدموي الحالي. ومع ذلك، لم تختف الحرب أبدا من الوجود البشري: فقد كان عدد القتلى بسبب الحرب في العالم بين عامي 1945 و2000 أكثر مما حدث خلال الحرب العالمية الثانية.
بالنسبة لهوميروس، الحرب «شر ضروري»
في الثقافة اليونانية القديمة، كان مفهوم الحرب مرتبط ارتباط وثيقا بآراء المفكرين والمحدِّد لنظرتهم وفلسفتهم، فانطلاقا منه كانت تجري صياغة مفاهيم التفكير في قضية السلام. يعرّف هوميروس (الشاعر اليوناني الأعمى) الحرب في الإلياذة (ملحمة شعرية تحكي قصة حرب طروادة، وتعتبر مع الأوديسا أهم ملحمة شعرية إغريقية). تعود إلى القرن التاسع أو الثامن قبل الميلاد. وهي عبارة عن نص شعري. ويقال إنه كتبها مع ملحمته الأوديسا. وقد جمعت أشعارها عام 700 ق.م. بعد مئة عام من وفاته. وتروي قصة حصار مدينة طروادة. يسميها (Pòlemos kakòs)، وبعبارة أخرى «الحرب الشريرة»، لكنه يضيف على الفور، «الشر ضروري». تلعب الحرب دورا أساسيا في حياة الأبطال الذين تصورهم قصائده. القديمة، يعرف هوميروس الحرب في الإلياذة، ويسميها «بوليموس كاكوس»، بعبارة أخرى «الحرب الشر »، لكنه يضيف على الفور أنها «شر ضروري». تلعب الحرب دورا أساسيا في حياة الأبطال المذكورين في قصائده. فقط فكر في أن أبطال الإلياذة والأوديسة هما ملكان محاربين: المسيني أخيل (ابن بيليوس ملك ميرميدونس، وهم شعبٌ يتميز بالشجاعة العالية وعدم الخوف والمهارات القتالية الكبيرة) وأوديسيوس (ملك إيثاكا الأسطوري ملك إيثاكا الأسطوري صاحب فكرة الحصان الذي بواسطته انهزم الطرواديون).
تقدم لنا الإلياذة شخصيات أخرى من الأبطال المحاربين، من بينهم أياكس وهيكتور. لكل من هذين البطلين دلالة مختلفة في نهجها للحرب: يمثل هيكتور وأياكس الحرب التي جرت بشكل أخلاقي، أي التي أجريت على أساس القواعد وصراحة مع الخصم. من ناحية أخرى، يمثل «أخيل» حربا عنيفة، تضرب بغدر ولا تهتم بالقواعد الاخلاقية. يمثل يوليسيس الحرب الماكرة، التي تتحرك بذكاء لمفاجأة الخصم، إنها حرب خلاقة لا يمكن التنبؤ بها تتكيف مع جميع المواقف على ساحة المعركة. كما أن أوديسيوس أجاممنون (في الميثولوجيا الإغريقية، هو ابن أتْربوس وإيروبي، وشقيق الملك مينلاوس ملك أسبرطة، وهو الذي قاد الحملة التي ذهبت إلى طروادة لاستعادة هيلين زوجة الملك مينلاوس، التي هربت إلى طروادة مع بارس). يذكر أنه: «منذ شبابه حتى شيخوخته، أيد الحروب الرهيبة، حتى مات الجميع» (Il. الفصل الرابع عشر، 84-87). يوليسيس هو الناجي الوحيد من حرب طروادة. بحار ماهر ومدقق يقظ للمواقف المحيطة به، كان أعظم بحار منتصر في أكبر حرب في العصور القديمة، انتصر لأنه استخدم الحيلة بدلا من العنف في الحرب.
على مدى قرون من التأمل، تم طرح مفهوم «الحرب العادلة» في كثير من الأحيان. يجب أن نتذكر أن الفيلسوف الأول الذي تحدث عن «الحرب العادلة» كان أرسطو في كتابه السياسة (الكتاب السابع، الفصل 14). بالنسبة له، يجب أن يكون للحرب دائما هدف للسلام، ولا يمكن أبدا أن يقصد بها إذلال الشعوب الأخرى أو استعبادها.
الحرب الكاشفة
بالنسبة إلى هيراقليطس، (فيلسوف يوناني ولد في أفسوس في آسيا الصغرى حوالي 540 – 475 ق.م)، فاليونانيون عاشوا الحروب الطاحنة وخبروا الحرب، لذلك اعتبرها هيراقليطس «ربة الأشياء»، فهو فيلسوف الصيرورة والنار، ولذلك يرى الحرب هي أصل لجميع الأشياء والمحرك الأساسي للتقلبات البشرية، حيث يقول: «إن الحرب مَلِك وأب لكل الأشياء، وكل الملوك، إنها تحدد مصيرهم كآلهة حرب أو كرجال أبطال، وتجعل البعض منهم إما عبيدا أو أحرارا». (لأن الآلهة في الميثولوجيا الإغريقية سلالة مولعة بالحرب، وصلت إلى السلطة بعد صراع وحشي ضد الجبابرة. «إريس»، إلهة الحرب والانتقام، كانت واحدة من الآلهة المبجلة، فيما كانت «إيرين»، إلهة السلام، مجرد تابعة للآلهة الأخرى). لذا كانت الحرب، حسب قوله جزءا من النظام الطبيعي للأمور، وتتحكم في عقليات الكون اليوناني. الصراع والمواجهة تحدث في الطبيعة وفي العالم البشري وفي كلتا الحالتين يسود منطق الفتح وهزيمة الخصم من أجل الانتصار. إنه يؤثر في الفيزياء والميتافيزيقيا ونظرية المعرفة والأخلاق. إن الحياة البشرية بحد ذاتها حرب دائمة، ولكن يجب ألا تقوم على العنف غير الضروري. هذا هو العنصر الذي يجب أن يمنحنا القوة لفهم أشياء العالم بوضوح، وهذا، وفقا للفيلسوف، هو تمرين صعب، لأن معظم الرجال جبناء وسلبيون بطبيعتهم.
تأثير هيراقليطس على هيغل
من المعروف جيدا للمتخصصين في الفلسفة أن رؤية هيراقليطس أثرت بشكل كبير في الانعكاس الضخم لفلسفة هيغل، فيلسوف العصر الرومانسي الذي يعلم كل الواقع من خلال عملية جدلية يتم فيها التوفيق بين الأطروحة والتوليف في لحظة عليا تسمى «التوليف». عزا هيغل للحرب مهمة الحفاظ على الصحة الأخلاقية للشعوب، بمعنى أن الحرب مسألة طبيعية وأنّها قضية جوهرية ذات أهداف معينة وحالة نفسية باعثة على التجديد الدائم، وحث الهمم على الفكر والفعل، مثلما تحافظ حركة الرياح على البحر من الانحلال. ويؤكد ذلك قائلا: «فالحرب ذلك المغزى الرفيع إذ بفاعليتها كما قلت في مكان آخر تحافظ الشعوب على صحتها الأخلاقية حيث تقف موقف لا مبالاة من المؤسسة المتناهية، تماما مثلما أنّ هبوب الرياح يحفظ البحر من التلوث الذي يوجد نتيجة لفترة طويلة من السكون، كذلك فإنّ فساد الأمم قد يوجد نتيجة لفترة طويلة من السكون، كذلك فإنّ فساد الأمم قد يوجد نتيجة لفترة طويلة من السلام دع عنك السلام الدائم، ولقد قيل إنّ تلك ليست سوى فكرة فلسفية، أو إذا شئنا استخدام تعبير آخر شائع، هي تبرير للعناية الإلهية كما قيل إنّ الحروب التي حدثت بالفعل ما زالت بحاجة إلى مبرر» (مبادئ فلسفة القانون، 1821).
إن المسافة الفلكية مع الفيلسوف كانط، الذي يدعو على العكس من ذلك إلى السلام الدائم، واضحة، بالنسبة لهيغل، الحرب هي حالة طبيعية وحتمية، لأنها منطقية في حسم العلاقات بين الدول لكي يتم تجاوز الإرادة الجزئية في فرض سيادة الدولة على الدول الأخرى، باعتبارها هي أيضا غايات، وبالتالي فإن الدخول في صراع بينها هو ضرورة ولازمة لكي يتم السلب والرجوع إلى العقل الكلي، ما ينتج منه قانون يحكم العالم بأسره ولهذا السبب، يعتبر فكرة كانط السلمية طوباوية ومجردة بالنسبة لهيغل، حيث توجد الحياة، يوجد الصراع، لذلك، فإن الحرب مفيدة أيضا في بعض الجوانب، لأنها تسمح بالتقدم المدني والأخلاقي للشعوب.
الحرب والسياسة
يدرس الفيلسوف الأثيني أفلاطون العلاقة بين الحرب والسياسة في ثلاثة أعمال على الأقل: بروتاغوراس (حول الفضيلة)، الجمهورية، القوانين (يعرض فيه إضافات لنظريته حول الدولة المثالية).
يكشف بروتاغوراس أسطورة بروميثيوس الشهيرة (كان بروميثيوس واحدا من حكماء التايتن، من عرق الآلهة الأقوياء الجبابرة الذين حكموا الأرض خلال العصر الأسطوري الذهبي، بحسب الميثولوجيا الإغريقية)، الذي كان يسرق النار، لقد آمن بروميثيوس بحسب الأسطورة بقدرة البشر على الإبداع والإنتاج، وكان متأكدا أنهم عندما يكتشفون النار سيحسنون استخدامها ويصنعون بها العجائب. لكن الهبتين مع الأسف لم تخدم إلا في إنشاء عدد قليل من المساكن، وليس بعد الدويلات -المدن اليونانية القديمة (pòlis)، مثل أثينا الكلاسيكية ومعاصريها، أي المدينة التي تأسست على الاحترام والعدالة المتبادلة. دون الدويلات – المدن، لا توجد سياسة، وبالتالي لا توجد الحرب التي مَلِك وأب لكل الأشياء، أي إن الصراع والتنازع هو المحرك للتاريخ والحالة السليمة للوجود. ودون حرب، لا يمكن للإنسان هزيمة هجوم الوحوش الشرسة وبالتالي محكوم عليه بالاستسلام.
بالنسبة لأفلاطون، تنبع الحرب من السياسة وبالتالي فهي الأداة التي يمكن من خلالها للرجال أن يظلوا آمنين وسالمين. لسببين:
ليس الإبداع والإنتاج، بل السياسة هي التي تنقذ ؛2) الحرب جزء من السياسة، والسياسة هي منقذ الحالة الإنسانية.
في كتابه «القوانين»، الذي يعد بمثابة نوع من الوصية الروحية، يميز أفلاطون نوعين من الحروب هما: الحروب الخارجية(pòlemos) والحروب الأهلية stàsis. لقد وصف هيراقليطس بوليموس بأنه «ملك وأب للجميع»، مع القدرة على جلب كل شيء إلى الوجود والإبادة. يترك الجزء غير الواضح ما إذا كان هيراقليطس قد فكر في بوليموس على أنه تجريد أو إله أو تعميم للحرب فالحرب الخارجية، مثل الحرب ضد الوحوش البرية، فهي ليست مدمرة وتخدم تطور الدولة. أما «الحروب الأهلية»، على سبيل المثال لا الحصر. باختصار، ما يحظى باهتمام اليونانيين ليس المواجهة المحاربة بين الأعداء الذين ينتمون إلى المدينة نفسها ويتحدثون اللغة نفسها ويتشاركون الثقافة نفسها، ولكن وجود فصيل منظم، والذي يمكن أن يذهب إلى حد الأعمال السرية والوحشية، خيانة المدينة وتسليمها للعدو. يجب التغلب على هذين المنظورين من أجل تجنب (الحرب الداخلية). إذا كانت الحرب الخارجية حتمية في أي حال من الأحوال، فإن الحرب الأهلية، أمر مؤسف للغاية. الأولى من المستحيل تجنبها، والثاني يجب تجنبها بأي ثمن.
أخيرا، على مدى قرون من التأمل، تم طرح مفهوم «الحرب العادلة» في كثير من الأحيان. يجب أن نتذكر أن الفيلسوف الأول الذي تحدث عن «الحرب العادلة» كان أرسطو في كتابه السياسة (الكتاب السابع، الفصل 14). بالنسبة له، يجب أن يكون للحرب دائما هدف للسلام، ولا يمكن أبدا أن يقصد بها إذلال الشعوب الأخرى أو استعبادها.
ترجمة بتصرف عن موقع The conversation
لوسيا جانجيل باحثة في الفلسفة الأخلاقية والسياسية. كاتبة مقالات ومساهمة في المجلات العلمية. مديرة مسؤولة عن الاستعراض نصف السنوي للدراسات الدولية «Reports Storia e Società». بتاريخ 18.04.2022
“القدس العربي”