ولد الكاتب جورج سيمنون في الثالث عشر من فبراير/شباط، لكنه رسميا مسجل في الثاني عشر لأن والدته من الذين يعتقدون أن هذا الرقم منحوس وجالب للحظ السيئ، ولا ندري هل ما فعلته له تأثير في مسار حياته التي عاشها فقيرا في طفولته، ثم أصبح من الأثرياء، فعاش في قصر من خمس وعشرين غرفة، وارتدى أغلى الماركات حتى إن دار «لويس فيتون» اعتبرته من أوفى زبائنها. امتلك بيوتا وسيارات فخمة، وتزوج عدة مرات غير العدد الهائل من النساء اللواتي عاشرهن من كل المستويات، من بيوت الدعارة الوضيعة إلى المخملية إلى النساء الثريات اللواتي تغويهن معاشرة رجال في شهرته ومكانته. اعتقدت أمه على الأقل أنها أنقذته من مصير مشؤوم، وهذا معتقد تتقاسمه مع كثيرين في العالم الغربي، حيث يتطيّر البعض من الرقم 13.
سيمنون الذي كان لا يؤمن بالنحس والعقائد الغيبية، مضى قدما وعاش حياته ملء حواسه كله، وحقق ما يريد، لكن وفق ما يحضرني الآن فإن بودلير عاش حياته معتقدا أنه «النحس بعينه» وأنه هو شخصيا جالب للأحداث السيئة التي أفسدت حياته وحياة من يحب، إذ لم يهنأ في حياته القصيرة (عاش 46 سنة فقط) يوما واحدا، بدءا بيتمه المبكّر إلى محاكمته بسبب كتابه «أزهار الشّر» بعد أن كتب عنه مدير جريدة «لوفيغارو» غوستاف غوردن مقالا وصف فيه الكتاب بأقذر الأوصاف، متهما الشاعر بالكابوس، والشيطان، والخطر على الأخلاق المسيحية العظيمة. كما أن علاقته بجاين نوفال كانت من أغرب العلاقات العشقية، فقد ظلّ مخلصا لها طيلة عشرين سنة حتى مات رغم خيانتها له ومعرفته بذلك الأمر، حتى أنه كان يصفها بالشيطان أحيانا وأنها عرّفته على «الوجه الشيطاني للحب»!
طبعا الذين قرأوا لبودلير وعنه يعرفون محطّات حياته البائسة، وأنّه لم يهنأ سوى في حضن أمّه، لكن ربما لم يأبهوا لأغرب تفسير لكل ذلك البؤس الذي عاشه، وهو أنه ولد في بيت يقع في 13 شارع هوتفوي في باريس، وهذا هو سر الشرور التي لاحقته منذ ولادته إلى مماته. الخوف والتّطيّرمن الرقم 13 ارتبط بفكرة العشاء الأخير لدى المسيحيين، الذي جمع عيسى المسيح عليه السلام برسله الاثني عشر والذي كان يوم الجمعة 13، وفي العصور القديمة اُعتُبِر كذلك لأنّه يأتي بعد رقم الكمال: 12. وفي قصة مغايرة تماما يرويها الفرنسيون، يرتبط الخوف من هذا الرقم بسبب حادثة القبض على جميع فرسان الهيكل العام 1307 يوم الجمعة 13، وتم حرقهم أحياء من طرف الملك فليب لوبيل. وحسب الأسطورة التي يؤمن بها كثيرون من المتدينين المسيحيين، فإن سيد فرسان الهيكل جاك ديمولايت رمى لعنته على العائلة المالكة حين قال لهم: «ستلعنون جميعا حتى الجيل الثالث عشر» فحلّت بهم محن كثيرة على مدى قرون.
في المختصر حين يعجز البعض عن تفسير صعوبة حياتهم، وتكرار الأحداث المؤلمة فيها، يرجعونها للقدر أحيانا، وأحيانا أخرى للعنات الخفية، والتفسيرات الخرافية التي ترسخت في الوجدان الشعبي وتناقلتها الأجيال بإيمان عميق.
لكن إذا كانت الخرافة والأسطورة محطّة مشتركة لدى الشعوب كلها خلال تطوُّر مسارها الفكري، فلماذا تقدّم البعض وعجز البعض الآخر عن الخروج من تلك العوالم؟ ما الذي يجعل شعوبا بأكملها تبقى عالقة في المخيال الشعبي الثري بالخرافات؟ مجتمعات تصدّق المشعوذ وتكذّب الطبيب، تستشير قارئة الفنجان وضارب المندل لمعرفة الغيب وحل المشاكل العويصة، تؤمن بقوة السحر والعفاريت والجان، وتنسف كل ما يصلنا من أعرق الجامعات في العالم من أدوية وطرق علاج، وتقنيات لتغيير حياتنا للأفضل. ما علاقة استمرار رسوخ الخرافة في العقل العربي، وهل هناك رابط خفي بين تطور النصوص الأدبية وتخطيها هذا السُّور العالي، وتطوره وفصله بين ما هو متخيَّل وما هو معرفي؟
إن الفرق بين ما هو سائد اليوم ويطغى على مجمل أفكار المجتمع، وما يجب أن يكون عليه، كبير جدا، بل يزداد اتساعا، ولفهم آلية التطور التاريخي للأفكار سنضطر للانطلاق من مفهوم الإيمان بأي محتوى مقابل قانون الشك، الذي كلّما تم تغييبه لأسباب دينية أو سياسية أو أخرى، فإن مفعول الخرافة هو البديل الذي لا مفرّ منه. كل شيء مرتبط بأسئلة الإنسان حول ما يجهله، ولأنه بحاجة لأجوبة لسدّ فجوات فضوله الغريزي، فإن السر يكمن في الطرق التي تُملأ بها تلك الفجوات ولماذا.
يكمن الخطر في المرحلة العمرية المبكّرة للإنسان، فهناك تختمر الأفكار وتتفاعل وتنتج أفكارا جديدة. ومن منّا خلت طفولته من حكايات الجان والعفاريت والقصص الخرافية، التي تعج بها الذاكرة الشعبية؟ كلنا تشبّعنا حتى التخمة بها ولا أحد قدّم لنا شروحات، كلّ معلوماتنا تلك ترسبت طبقات على طبقات، حتى أصبحت بسماكة القشرة الأرضية.
في عمر معين يصدّق الأطفال قصة ليلى والذئب، ويحزنون بسبب النهاية المأساوية لليلى، لأنها خالفت نصائح والدتها فالتهمها الذئب والتهم جدتها. بعد سنوات قليلة يفاجئنا الأطفال بتعليقات تستسخف المحتوى القصصي الذي لا منطق فيه، فالذئب لا يحاورالبشر، ولا يمكنه التهام الجدة بكاملها، كما لا يمكنه تقمص شخصية الجدة حتى يلتهم ليلى. تسقط العتبات الخرافية عتبة بعد أخرى كلما كبر الطفل قليلا، إلى أن يعيد صياغة قصته بالشكل الذي يوافق تطور وعيه، وهنا يلعب الأهل دورا مهما حين يشرحون لأبنائهم ما تمثله الرموز في القصة، لتحذيرهم من الغرباء. لكن المفاجأة تأتي في ما بعد، فالطفل الذي تُروى له قصص من هذا النوع يكون مهيّأ أكثر من غيره لاستيعاب الحقائق مهما كانت مخيفة، بل يمكنه أن يطوّرها أيضا، فيما ينعكس الأمر سلبا على أطفال حرموا من هذه النعمة، وتلقوا المعلومة مباشرة من الواقع كما هي، فقامت مخيلتهم بتحريفها وفق قدرتهم الإدراكية غير النّاضجة، وهنا تترسخ الفكرة الخاطئة في عقل الشخص، وترفض أن تتطور وقد تسلك مسلكا مغايرا تماما حين تنطلق من الواقعي وتنتهي في المتخيّل.
يكمن الخطر في المرحلة العمرية المبكّرة للإنسان، فهناك تختمر الأفكار وتتفاعل وتنتج أفكارا جديدة. ومن منّا خلت طفولته من حكايات الجان والعفاريت والقصص الخرافية، التي تعج بها الذاكرة الشعبية؟ كلنا تشبّعنا حتى التخمة بها ولا أحد قدّم لنا شروحات، كلّ معلوماتنا تلك ترسبت طبقات على طبقات، حتى أصبحت بسماكة القشرة الأرضية. أعتقد من الصعب أن نتخلّص من كم الخرافة في أفكارنا، خاصة أنها مع الوقت بدأت تأخذ أشكالا جمالية لتغذية الفنون كلها، بدءا بالشعر والنثر إلى التشكيل والنقش والنحت والمسرح والرقص والموسيقى. تنبعث الخرافة مثل السحر لتنقذنا من الرتابة العصرية القاتلة، حيث الحياة أصبحت لا تطاق، والواقع أكثر سوداوية بسبب الأخبار المأساوية للحروب والكوارث.
نتساءل مثلا لماذا كتب رشيد الضعيف رواية «الأميرة والخاتم» مثلا مستحضرا روح الخرافة والأساطير بعد منجز أدبي ثري خال من الموروث الشعبي في كل أنواعه، أو على الأقل هذا رأيي الذي كوّنته عنه، وهو السؤال نفسه يطرح بشأن رواية «مهر الصياح» لأمير تاج السر و»شجرة الفهود» لسميحة خريس، والأمثلة كثيرة في هذا الشأن ويضيق المقام عن ذكرها، إذ يبدو أن السطوة الساحرة للمخيال الشعبي بخرافاته وأساطيره لا تزال تبسط نفوذها ليس على التفكير الجمعي للشعوب المنهكة من الحروب والسياسات العابثة بمصائرها، بل أيضا على التفكير الغربي الذي يتقدمنا بمئات السنين من التطور على الأصعدة جميعها. على سبيل المثال لا يزال يستثمر في قصص ألف ليلة وليلة سينمائيا، وسنويا تقدم أفلام خاصة للأطفال والناشئة من مرجعيتها. مونتيسكيو، فولتير، راسين… والقائمة طويلة لأدباء سحرهم هذا النص القصصي الفريد، وظهرت بصماته في نصوصهم، وأثّرت في القارئ الغربي الذي كوّن نظرة عن الشرق لا تشبه الشرق الحقيقي في شيء، بقدر ما تشبه عوالم ألف ليلة وليلة.
ينتصر المخيال الشعبي دون أن نعرف لماذا، ربما لأنه يمتلك مفاتيح المخيلة والعقل معا، ولا يتوقف عن إدهاشنا حتى إن تكرّر في الصيغة نفسها، كأنّه تعويذة بمفعول يفوق قدراتنا الاستيعابية.
شاعرة وإعلامية من البحرين
“القدس العربي”