ينضوي هذا السؤال الذي طرحه أحد الإعلاميين التقدميين على الإجابة الضمنية في صياغته. أي أن مسؤولية الملكة، بما تمثّله من تاريخ وسلطة، عن أوجه الاستعمار المتعددة المتشعبة، جليّة وقاطعة، وإشكالية الحديث عنها ليست في شرحها وتفصيلها، بل في أن أي شرح وتفصيل، مهما استفاض، لن يفي المسألة حقّها.
اليسار الفكري هنا من شأنه أن يستدعي المآسي التي تلبّست بها الإمبراطورية البريطانية في مختلف أصقاع الكوكب على مدى قرون عديدة، من الفتوحات الاستيلائية إلى الإبادات الجماعية التي صاحبتها، المتعمَّد منها والطارئ، بل البعض يرى أنها كلها متعمدة، ثم الاستعباد الذي قوّض قارة بأكملها إذ استنزف أهلها لتسخيرهم عبر المحيط في أعمال هي التي راكمت رأس المال، الموظّف بدوره للمزيد من التوسع والاستغلال. أليس تاريخ هذه الإمبراطورية التي، إلى أمس قريب، كانت لا تغيب عنها الشمس، مضرّجاً بالدماء والدموع والقهر والظلم؟ فبئس المصير لها ولملكتها، ما الحاجة إلى استذكار الملكة عند رحيلها إلا بالإدانة. جواهر تاجك يا ملكة مسروقة من شعوب العالم التي استعبدتها مملكتك، تكاد تقطر منها الدماء التي أهرقت لتزيين جبروتك. فلا، لا عزاء هنا، ولا ذكر طيب، بل استعادة لتاريخ مرذول. فعلاً، من أين نبدأ؟
اليمين الفكري يختلف حكماً مع نظيره عند الجهة الأخرى من حيث المنطلقات والتحليل، ولكنه لا يبتعد عنه كثيراً في الحكم. يوم اعتليت الكرسي، أيتها الملكة الراحلة، كان الغرباء، عرقاً وديناً ولغةً وثقافة، ظاهرة دون حضور يذكر في مدن بريطانيا العظمى وبلداتها وأريافها، فيما المهمة الحضارية للبريطانيين في مختلف الأقطار حيث استقروا كانت ترتقي بتلك المجتمعات إلى مستويات من التقدم والنظام غير مسبوقة وغير مشهودة. أجدادنا هم من ابتكر الأطر المؤسِّسة للعدالة والحرية ومفكرينا هم من أرسى مفاهيمها، وهم من أطلق الثورة الصناعية، هم من ارتفع بالعلم والإنجاز، والشاهد لغتنا التي أصبحت ولا تزال لغة العالم، لغة الحضارة دون منازع. أما عهدك، فقد شهد التخلي عن المستعمرات والمحميات، والتفريط بمصالح البريطانيين فيها، وتضييع ما جمعوه، وانهيار ما بنوه وأنجزوه. بل الأسوأ، بعد هذا الفشل المتكرر من جانب من نال الاستقلال من سكان أراضي التاج، والفشل هنا لا يكاد أن يحتمل أي استثناء، عهدك فتح أبواب الوفود لأعداد متزايدة من سكان مستعمرات الأمس، إذ رسبت في استقلالها، ليجتاحوا بريطانيا ويقيموا فيها بدورهم مستعمرات اليوم، وليعبثوا بنظمنا ويفسدوها، وليعتدوا على شبابنا وشاباتنا، وليتغلغلوا في مؤسساتنا، بل ليمعنوا في استقدام المزيد من أشكالهم، وليطالبونا فوق هذا كله بـ “الاعتذار” لتاريخنا وماضينا، محمّلين إيانا أوزار فشلهم وتخلفهم. وأنتِ، رغم أنك لست صاحبة السلطة، فإنك المؤتمنة على التاريخ والدولة، ولكنك لم تنبسي ببنت شفة عن هذه المأساة المتحققة، بل وفّرت لها الغطاء والتمكين. فلا، لا تأسّف لوفاة الملكة هنا، ولا ذكر حسن، بل استعادة لسجل أسود. فعلاً، من أين نبدأ؟
يدرك أصحاب الرأي عند اليسار واليمين أنهم يحملّون الملكة في مواقفهم هذه ما يتجاوز صلاحياتها كملكة دستورية تقتصر مهامها على المراسم والشكليات. غير أن منطق إدانتها مبني على أنها الرمز، وبالتالي فالاعتراض عليها ليس شخصياً، على الغالب، بل بصفتها الصورة الأمامية لبريطانيا التاريخ والهوية.
ما يشترك به وجها الاعتراض هذان، ويشاطران به معظم المقاربات المستجدّة للتاريخ في مختلف أنحاء العالم، هو الالتزام غير المعلن بجملة من الآراء التي من الأصحّ أن تعتبر خلافية ولكنها تكاد أن تندرج اليوم في إطار المسلّمات، ولا سيما منها إضفاء صفة الشخصية المعنوية الثابتة على “الجماعات”، بما يصاحب ذلك من إهمال لطبيعتها المتحولة أساساً، ثم تطبيق المفعول الرجعي على أية قراءة لتاريخ هذه “الجماعات”، انطلاقاً من القيم المعتبرة اليوم.
في موضوع بريطانيا، يكاد السجال أن يكون حول تقييم العلاقة بين “جماعتين”، الأولى فاعلة، يختزلها “الرجل البريطاني الأبيض”، والثانية مفعول بها، تمثّلها “الشعوب المستعمرة”. هل جاء هذا الرجل البريطاني الأبيض بالحضارة أو بالاستغلال للشعوب المستعمرة، وكيف له أن يكافأ أو أن يعاقب لفعله؟ اليسار يقول إنه جاء بالاستغلال وعليه أن يعتذر ويقدّم التعويضات، رغم أن اعتذاراته وتعويضاته لن تصل يوماً إلى إيفاء أصحاب الحق حقوقهم، فيما اليمين يرى أنه قدّم الحضارة، وأنه من إنكار الجميل التفريط بإنجازاته والإضرار به ماضياً وحاضراً.
الخروج من هذا السجال ليس بالإقرار بأن “الرجل البريطاني الأبيض” قاد خاض الغمار حاملاً الحضارة بيد والاستغلال بيد أخرى، بل بمساءلة المقاربة الضمنية حول من يحمل صفة الفاعل والمفعول. ذلك أن الشخصية المعنوية التي يعبّر عنها “الرجل البريطاني الأبيض” تشمل أفراداً أصحاب نفوذ وقدرة ومتمولين قد حققوا بالفعل مكاسب هائلة من النشاط الاستعماري في غابر القرون، ولكنها تشمل أيضاً على سبيل المثال أسرة بريطانية بيضاء من المزارعين الذين لم يهجروا ريفهم على مدى الأجيال، والذين إن طالتهم استفادة عرضية من “عظمة” بريطانيا الغابرة، فإنها بالتأكيد ليست بقدر ما يعيشونه اليوم من تحديات وتهميش. ولا ينتفي عدم انسجام الواقع مع القراءة النظرية حتى إذا اعتنق فتى من هذه الأسرة أشد القراءات استعلائية حول تفوّق العرق الأبيض على المهاجرين الوافدين من دول العالم الثالث، وذلك رغم جنوح اليسار إلى إدراج هذا الفتى مثلاً ضمن تصنيف “الامتياز الأبيض”، والذي يحتاج وفق التوجه التقدمي إلى النقض والتفكيك بالإضافة إلى الخطوات التعويضية.
تاريخ “الرجل البريطاني الأبيض” مخضّب بالدم بالتأكيد. غير أن الواقع الذي يخفيه هذا التوصيف الاختزالي هو أن كل التاريخ مخضّب بالدم. البريطانيون حين هزموا المغل المسلمين في الهند تسبّبوا بالمآسي. ولكن المغل ومن سبقهم من الغزاة المسلمين كانوا بدورهم قد ارتكبوا المجازر بحق أهل البلاد، على اختلاف طبقاتهم وألوانهم. على أن أهل الهند قبل الإسلام بدورهم كانوا نتاج فتوحات عديدة امتزجت فيها الشعوب وانصهرت وتمايزت، بعد دماء سالت وأرواح أهدرت مع كل حقبة. والبريطانيون كذلك هم حصيلة تاريخ قائم في ديارهم على القهر والعدوان والقتل والاغتصاب والسلب والنهب.
هذا هو حال التاريخ برمّته دون استثناء. واستعادة بعض فصوله انتقائياً، والصاقها بجماعات ذات شخصية تاريخية تفترض الثبات ومسؤولية متواصلة، بما يقارب الإطلاق، توظيف سياسي عقائدي، وليس تعبيراً عن حقائق موضوعية. لا ينفي هذا الكلام أن الظلم قائم والتمييز قائم، وأن الاعتبارات العصبية المختلفة تحرّك المشاعر والأهواء وتمكّن التفرقة وتؤطرها. ولا ينقض هذا التأكيد حاجة بعض الأوساط إلى مقاومة الإسقاط التاريخي الإجمالي الذي تتعرض له، مثل الحديث المتكرر في أوساط الاستعلائيين البيض عن التخلف الحضاري للعرق الأسود. التحذير هنا هو من خطر الوقوع في أفخاخ التسطيح.
تاريخ الاستعباد مثلاً لا يتوقف عند أن “الأبيض” استعبد “الأسود”، بل يحوي أيضاً أن “الأبيض” استعبد “الأبيض”، و”الأسود” استعبد “الأسود”، بل أن معظم الاستعباد البريطاني للأفارقة، كان قائماً على اتجار أفارقة آخرين بمن سقط في قبضتهم من القبائل المعادية في أفريقيا.
هذا الاقتطاع التاريخي المجحف بين “أبيض” و “وأسود”، حيث الأول ظالم والثاني مظلوم، أسهل طرحاً، وربما أسهل نقضاً، لظهور الاختلاف العرقي بشكل مرئي. على أن تطبيق الاختزال التسطيحي القائم على افتراض الشخصية المعنوية التاريخية المتواصلة متحقق كذلك في مختلف المجتمعات، مع ما يستتبعه من مزاعم فاسدة تبنى عليها الهويات التقسيمية.
السؤال يتكرر، من هو “الطارئ” المتغلّب ومن هو “الأصيل” المغلوب؟ ألم يكن الماضي مسعى من الطارئ لمحو الأصيل والاستيلاء على ماله؟ أفلا يتوجب أن تكون القراءة التاريخية تأكيداً لمظلومية الأصيل وظالمية الطارئ؟
هل “العربي” هو الأصيل عند الضفاف الشرقية للبحر الأبيض المتوسط مثلاً، والطارئ هو “الصليبي” ثم “المستعمر”؟ أم هل أن الأصيل هو المسيحي والطارئ هو العربي المسلم؟
ولكن لمَ التوقف في هذه الحالة عند ماضي انتصار المسيحية، ألم تطمس المسيحية جاهدة بدورها هويات تمكّن بعض أصحابها من ارتياد القمع، صراحة أو خلف رداء الهرطقة، إلى حين قدوم الإسلام، ليكون المسلم في هذه الحالة، أو الدرزي أو العلوي في استعادة للغلو كحجاب، هو “الأصيل” وإن غابت عنه ذكرى أسلافه، وإن شاء زعم الانتماء إلى حجاز بعيد؟
بل الأقرب إلى الصواب الإقرار بأن مقاربات الطارئ والأصيل، الأسود والأبيض، المستعمِر والمستعمَر، هي مقاربات تموضع فكري معاصر، تسمح بأقدار من الارتفاع عن واقع قمعي قائم، ولكنها تتيح في الآن نفسه تشكيل واقع قمعي آخر. فالمقاربات التاريخية كافة بحاجة إلى المزيد من المعالجة المبنية على ما يبقى غائباً من المعطيات والأبحاث الموضعية. هو واقع حال مطلوب في كافة المجتمعات، فيما الحاجة إليه في المحيط العربي ماسة وشديدة وملحّة.
أما فيما يتعلق بوفاة الملكة: السيدة أدّت ما طلبه منها مقامها. لم تكن سياسية ولم تكن مؤرخة. نشأت لتجد نفسها مسؤولة عن منصب رسمي، رمزي شكلي، فقامت بما اقتضاه منصبها على مدى سبعة عقود. لياقة ووقار ومسعى إلى الثبات رغم فصول من الضعف، كما هو حال كل إنسان. لمعظم البريطانيين، وللعديد من الرعايا (الشكليين) للتاج البريطاني، لم تكن السيدة امرأة بعيدة غريبة، بل كانت أقرب إلى المعرفة الشخصية، العائلية. وفاتها بالتالي هي لحظة افتقاد، وتأمل بشأن البقاء والزوال، وربما بشأن الصفة والانتماء.
أما حول سؤال الإعلامي عن الملكة والاستعمار، “من أين نبدأ؟”، فالجواب لدى معظم هؤلاء، ولدى من يحترم مشاعرهم، قد يكون “ليتك لا تبدأ”.
“الحرة”