في معرض حديث بعض شخصيات فيلم «لا دببة» للمخرج الإيراني جعفر بناهي، الذي منعه النظام في البلاد من ممارسة عمله، ثم اعتقله ليمضي أعواما في السجن، يقول بعض شخوص الفيلم لبناهي، الذي يشارك بالتمثيل في فيلمه، ألا يخشى شيئا، فالطريق الذي يسلكه يخلو من الدببة، ولا يوجد فيه ما يدعو للخوف، وربما كانت هذه العبارة الأكثر سخرية في الفيلم، الذي حصل على الجائزة الخاصة للجنة التحكيم في مهرجان فينيسيا السينمائي الذي أُسدل الستار عنه في العاشر من سبتمبر/أيلول الجاري. كل السبل في «لا دببة» محفوفة بالخطر والصعاب والهلاك، ومن بينها سبيل بناهي، الذي يؤدي في الفيلم دور مخرج ممنوع من السفر، ومن ممارسة عمله، يحاول أن ينجز فيلمه الأحدث سرا في قرية في القرب من الحدود مع تركيا.
ألقت السلطات الإيرانية القبض على بناهي في أغسطس/آب الماضي، هو والمخرج محمد رسول آف، وهما معارضان للنظام، ويمضي بناهي الآن حكما مؤجلا بالسجن ستة أعوام، لكنه رغم السجن والقيود الصارمة والعقوبات المشددة، تمكن من إتمام أحدث أفلامه.
يبدأ فيلم «لا دببة» في شارع مليء بالحياة والحركة في بلدة تركية على الحدود مع إيران، حيث تلتقي زهرة (مينا كافاني) ببختيار (بختيار كفاني) حيث تطلعه في تكتم على تسلمها جواز سفرها الفرنسي، الذي نعلم أنها اشترته من مهربين وأنه سُرق من سائحة فرنسية في تركيا وإنه سيبقى سارٍ لعدة أيام فقط قبل إلغائه بعد أن تُبلّغ السائحة عن فقده. يمنحها جواز السفر فرصة لمغادرة البلاد، لكنها ترفض المغادرة دون بختيار، الذي لم يحصل على جواز سفر بعد. وسط انفعالنا بالمشهد، نسمع صوت مخرج يعطي تعليمات لزهرة وبختيار، لكننا لا نراه. يتضح لنا أن ما نراه هو مشهد من فيلم لبناهي، الممنوع من العمل والسفر، يقوم فيه بناهي بتوجيه الممثلين، الذين يمثلون قصتهم الحقيقية، عبر الإنترنت، بمعاونة أحد مساعديه. هو فيلم إذن يتقاطع فيه الروائي والوثائقي، والخيال والواقع. إنه فيلم عن القيود على الفن والخيال والإبداع، وعن القيود عمن يحاول أن يبدي رأيا مغايرا لما تريده السلطات.
نشاهد في «لا دببة» فيلما داخل فيلم، وفي الفيلمين يقدم بناهي نقدا لاذعا للنظام في بلاده، وللمجتمع الإيراني الذي يفرض قيودا اجتماعية صارمة على أفراده، والذي ما زالت تقاليد بالية تسيطر عليه. «لا دببة» هو أحدث صيحة تحد ومواجهة لبناهي ضد القيود المفروضة على الفن والإبداع والحب في إيران. هو فيلم نسجه بناهي بإتقان وصدق كبيرين، على الرغم من الظروف شبه المستحيلة لإنجازه.
تشهد أحداث الفيلم انتقال بناهي من طهران إلى قرية قرب الحدود مع تركيا، حيث يستأجر غرفة من رجل يٌدعى غانبر. نشاهد بناهي في بادئ الفيلم يحاول الحصول على تغطية أقوى للإنترنت، حتى يتمكن من التواصل مع فريق عمل فيلمه عبر الحدود مع تركيا. لا أحد من أهل القرية يعلم على وجه اليقين ما يقوم به بناهي، ويتنازعهم الشعور بين الترحيب بضيف قريتهم، الذي جاء بسيارة أنيقة لم تعتد القرية وجود مثلها، والتشكك في أمره وما يقوم به، حتى أن البعض يخاله جاسوسا. الفضول الممزوج بالترحاب والريبة، هو ما يجده بناهي في هذا المجتمع القروي النائي. يوضح بناهي في الفيلم مخاطر أن تحمل كاميرا وتصور ما يدور في أروقة بلد يخفي أكثر بكثير مما يعلن.
أن تحمل الكاميرا، حتى لو لتصور عرسا من الأعراس، يعني أنك متهم بالتلصص على خصوصيات لا يحق لك الاطلاع عليها، أو أن عدستك شاهد على سر من الأسرار، أو أن تصبح مطاردا غير مرغوب فيه، أو أن يؤدي ما صورته بحسن نية إلى مأساة أو كارثة. يبدو بناهي في دوره في الفيلم هادئا، لا يفصح عما يعتمل في داخله، لكن الدببة التي قيل له إنه في مأمن منها تبدو كامنة تتربص به في كل مكان. أما مجتمع القرية الذي يصوره بناهي فمجتمع خانق لا حرية لأفراده، تتحكم فيه الأعراف والعادات والتقاليد البائدة. يظن أهل القرية أن كاميرا بناهي أصبحت شاهدا على قصة حب يرفضها المجتمع بين شاب وفتاة، أعلنت أسرتها خطبتها لشاب لا ترغب في الزواج منه. تتوإلى المآسي التي تكشف مدى ظلم ذلك المجتمع، الذي يبدو مسالما وادعا. يخلق بناهي توازنا بين ما يحدث داخل الفيلم، وما يحدث في القرية الحدودية، فالمآسي تتشابه، وقصص الحب تصطدم بالواقع المرير، ومحاولات الفرار من البلاد يواجهها الإخفاق والموت. يصور بناهي بلادا البقاء فيها مستحيل بقدر استحالة الهرب منها. كما يقدم طرحا سهلا ممتنعا، يضم طبقات خلف طبقات من المعنى والسرد. الحدود في الفيلم حدود فعلية بين إيران وتركيا، لكن ثمة حدود أخرى حراسها لا يقلون صرامة وظلما من الجنود المدججين بالسلاح. تقف العادات والتقاليد عائقا أمام أحلام الشباب وطموحه، وتقف بالمرصاد للأحبة الذين شاءت قلوبهم ما لا يشاء المجتمع.
“القدس العربي”