إن هذا الاهتمام بالدراما الملكية ليس جديداً، ونجد نظيره التاريخي في الأدب الذي اهتم هو الآخر بتفاصيل زيجات الملكات والملوك، بما تحمله من أجندات سياسية بُنيت عليها مصالح وتحالفات وضمانات تتجاوز المملكة البريطانية لتشمل ممالك وأمبراطوريات بطول أوروبا وعرضها.
إحدى هذه الزيجات هي تلك التي جمعت الملك ريتشارد الثاني بآن بوهيميا، والتي تمّ تصويرها بشكلٍ غير تقليدي في قصيدة “برلمان الطيور” المطولة لجيفري شوسير. تروي هذه القصيدة الفنتازية سلسلة من الأحلام أو الرؤى التي تأخذ الراوي الحالم في رحلةٍ داخل حديقة يجتمع فيها برلمان من الطيور لتقديم المشورة لأنثى نسر يتنافس على زواجها ذكور ثلاث.
نظراً لرمزيتها المشبّعة، يشيع اعتقاد بأن هذه القصيدة، التي كُتبت في القرن الرابع عشر، هي كناية عن خيارات آن الزوجية. فهي ابنة الامبراطور الروماني تشارلز الرابع، وكانت تتنافس على يدها ممالك أوروبية عديدة. الملفت في هذه القصيدة، إن الخيار كان متروكاً للأنثى، شرط أن تختار بين المرشحين الثلاثة طبعاً. أما الطيور الأخرى الناطقة في القصة، فيمثّل كل منها إحدى فئات المجتمع الانكليزي بآرائه وكوده الأخلاقي، حتى أن بعضهم يحاجج ضدّ مؤسسة الزواج. يستخدم شوسير الفكاهة من أجل نقد تقاليد الحب والزواج في القصور الانكليزية.
في قصيدة أخرى هي “قائمة هوزو للصيد” التي نظمها ثوماس وايت في القرن الرابع عشر أيضاً، تتداخل حياة الكاتب مع القصة التي تدور حول مطاردة شاعر لغزالةٍ وعجزه عن اصطيادها. وقد لفّت الغزالة حول عنقها سلسلة ماسية كتب عليها “لا تلمسني، فأنا مُلك للقيصر، يستعصي لجم جموحي وإن بدا قابلاً للترويض”.
يُعتقد أن الغزالة في القصة هي آن بولين، زوجة الملك هنري الثامن والذي سجن في العام 1536 ستة أشخاص بتهمة الزنا معها، ومن بينهم الكاتب وايت الذي كان أحد المقيمين في القصر. وايت هو الوحيد الذي لم يتمّ اعدامه وعاد للعمل في خدمة القصر من بعدها.
ولعلّ أشهر الكتابات التي تناولت البلاط الملكي هي مسرحية شكسبير عن الملك “ريتشارد الثاني” الذي تربّع على العرش في أواخر القرون الوسطى. وتجمع هذه المسرحية (القرن السادس عشر) بين عهدين ملكيين، اذ تسرد قصة الإنقلاب الذي أطاح الملك ريتشارد، مسلطةً الضوء على أوجه التشابه بين فترة حكمه وبين عهد اليزابيث الأولى التي تولّت الحكم في أيام شكسبير، وعُرفت بفرضها ضرائب عالية وتدني شعبيتها. وتشير بعض المصادر أنه ابّان مشاهدتها للمسرحية، رأت الملكة نفسها في صورة الحاكم الفاشل التي يرسمها شكسبير، وعلّقت “أنا ريتشارد، ألا ترون ذلك؟”.
بعد سنواتٍ على صدور المسرحية، نُظّمت محاولة للإنقلاب على عرش إليزابيث، لكن خلافاً لعهد تشارلز، تصدّت له الملكة وأعدمت قائده “ايرل ايسيكس”. وقد تبيّن لاحقاً أنه في اليوم السابق لمحاولته، حضّ أهالي لندن على دعمه في مسعاه والتمرّد ضدّ اليزابيث، وقام الإيرل رفقة حلفائه بحضور عرض مسرحي يُظنّ أنه لفرقة شكسبير. لا دليل على أن المسرحية هي “ريتشارد الثاني”، لكن المؤكّد هو أنه تمّ لاحقاً اعتقال وإعدام عدد من الأشخاص المنخرطين في تنظيم العرض، ومن بينهم راعي شكسبير، إضافةً الى شخص متحدر من إحدى شخصيات المسرحية.
ومن الحكام الأكثر تأثيراً في تاريخ الأدب هي الملكة فيكتوريا التي تعدّ فترة حكمها بمثابة العهد الذهبي للأدب الانكليزي والذي سميّ حينها بـ”الأدب الفيكتوري”. فبوصفها رأساً أنثوياً للسلطة في مجتمع تنهمك فيه النساء بالإنجاب وتربية الأطفال، جسّدت فيكتوريا تناقضات متعدّدة جعلتها مصدر إلهام للأدب. وفي عهدها، أصبحت الرواية هي النمط الأدبي الأكثر انتشاراً في انكلترا، كما ولدت في ظلّه “الفيري تايل” أو قصص الأطفال الخيالية التي نرى فيها انعكاساً للأدوار الجندرية الشائعة آنذاك، وأحياناً تمرّداً ناعماً ضدّ هذه الأعراف الاجتماعية.
ويعتقد أن “ملكة القلوب” في الرواية الأيقونية “آليس في بلاد العجائب” (القرن التاسع عشر) هي كاريكاتور للملكة فيكتوريا، وهذا ما تظهر عليه في الرسوم المتحركة التي ظهرت لاحقاً في العام 1951. وقد تمّ تفسير حجم الملكة الضخم، في مقابل صغر حجم زوجها، الأمير ألبرت، على أنه انعكاس لعدم التكافؤ في السلطة والمقام بينهما. فهو في نهاية المطاف لم يحمل لقب الملك حتى.
إن الألفية التي امتدّ عليها عمر المملكة البريطانية، تختزل أيضاً تاريخ الأدب الانكليزي. فبوصفها الأساس المديد الذي ارتكزت عليه الهوية الانكليزية، شكّلت الملكية خيطاً متصلاً نسجت به علاقات متداخلة بين السياسة والثقافة، وعلى رأسها الأدب. وبجمعها بين الثراء والسلطة، شكّلت العائلات الملكية مادة دسمة ومثيرة للفضول، حتى لغير المعنيين بالسياسة. لكن هذا الاهتمام الخاص الذي أبداه الأدباء تجاه الحياة الملكية، ومحاولة اخراجها من عزلة القصور بقوة الخيال، يُظهر الى أي مدى كانت تلك الحياة مخفية وبعيدة عن متناول العامة، ما ضاعف من جاذبيتها وسحرها. فما من بابارتزي يلاحق أميراتٍ الى حتفهن أو يلتقط لهن صور وهن عاريات الصدر في خلوةٍ ما، وما من أوبرا وينفري تستضيف أمراء لفضح خبايا القصر الايليزابيثي وعنصريته.
(*) أصدر شاعر البلاط الملكي في المملكة المتحدة، سيمون أرميتاغ، قصيدة جديدة بمناسبة وفاة الملكة إليزابيث الثانية بعنوان “ثناء مستوحى من الأزهار” تتكون من تسعة أسطر والأحرف الأولى منها توضح اسم إليزابيث، فى إشارة إلى الترتيب الأبجدي لأسماء الأزهار التى تُستخدم فى الجنائز. وأشار الشاعر مباشرة إلى نفسه في المقطع الأول من القصائد قائلًا: “لقد استحضرت زهرة زنبق لتنير ظلمة هذه الساعات، أهديها كعربون شكر”…