على ضوء ذكرى توقيع اتفاقية أوسلو (13 أيلول/ سبتمبر 1993) والتطورات السريعة والمفاجئة بعد موجات التطبيع مع دولة الاحتلال التي شهدها الشرق الأوسط خلال الأعوام القريبة السابقة والتي قلبت المفاهيم رأسا على عقب، وغيرت استراتيجيات كانت متبعة فيما يخص قضية العرب الأولى فلسطين، لابد من العودة لبعض المواقف التاريخية التي حولت الكثير من المسارات إلى نتائج عكسية لم يتمخض عنها أي تقدم على أصعدة مختلفة، بل تراجعت القضية الفلسطينية حتى كادت أن تنسى من قبل الأنظمة العربية التي باتت منشغلة في مشاكلها الداخلية المتعاظمة.
فعرب الشرق الأوسط الذين خرجوا من هيمنة عثمانية بعد الحرب العالمية الأولى وجدوا أنفسهم أمام مخططات غربية غريبة عنهم لم يتوقعوها بعد أن تحالفوا مع الحلفاء ضد السلطنة العثمانية على وعود نيلهم الاستقلال، وبناء مملكة عربية من مكة إلى دمشق.
تقسيم منطقة الشرق الأوسط
وهذه المخططات المعدة مسبقا هدفت إلى: تقسيم منطقة الشرق الأوسط والتهام أجزائها بين بريطانيا وفرنسا بعد تمرير مبضع الجراحة ورسم حدود الدول الوليدة، وتقديم الهدية الثمينة للصهيونية العالمية لبناء دولة لليهود في فلسطين.
ولم يكن العرب مهيئين على أكثر من مستوى لمواجهة أكبر دولتين آنئذ وإفشال مخططاتهما.
هذا الوضع المستجد وغير المتكافئ كان من نتيجته الحتمية تمكين اليهود الوافدين من شمال افريقيا وأوربا وروسيا وأمريكا من الاستيلاء على أراض في فلسطين من خلال القوة المسلحة لعصابات الأرغون والشتيرن والهاغانا التي ارتكبت مجازر عديدة في أكثر من مدينة وقرية فلسطينية، وواجهت العرب الثائرين ضد الاستيلاء على أراضيهم، وهذا ما دعا الأمم المتحدة إلى استصدار قرار التقسيم رقم 181 بين اليهود والفلسطينيين الذي رفضه العرب جملة وتفصيلا وفضلوا خوض حرب التحرير التي انتهت بالنكبة الشهيرة في العام 1948 وأسفرت عن احتلال أجزاء أخرى من الأراضي الفلسطينية، وعن الشتات الفلسطيني.
العرب بعد هزيمتهم المشينة لم يهيئوا أنفسهم لخوض معركة التحرير، أو لانتصار على دولة الاحتلال على أقل تقدير، التي راحت تظهر مع السنين المتعاقبة أنها تتحصن عسكريا، ففي السنين الأولى بعد الهزيمة العربية دخلت النادي النووي ببناء مفاعل ديمونة بمساعدة حكومة غي موليه الفرنسية. ولم يستفق أي نظام عربي لمدى خطورة أن تكون إسرائيل دولة نووية إلا بعد فترة طويلة ببناء مفاعل تموز باتفاق بين الرئيس العراقي صدام حسين وحكومة جاك شيراك الفرنسية والذي تم تدميره سريعا من قبل سلاح الطيران الإسرائيلي في 7 حزيران/ يونيو من العام 1981 أي بعد 14 سنة بالتمام والكمال من هزيمة الخامس من حزيران/ يونيو 1967.
هذه الهزيمة المذلة للعرب أدخلتهم، وخاصة الفلسطينيين منهم الذين اعتمدوا على الأنظمة العربية التي خذلتهم أيضا، في نفق مظلم لا نهاية له بعد احتلال الجولان وكل الأراضي الفلسطينية وصحراء سيناء.
منظمة التحرير الفلسطينية وأنظمة “الصمود والتصدي ” أبقوا على مواقفهم أي التحرير “من الماء إلى الماء” أو بمفهوم آخر “كل شيء أو لا شيء” هذه المواقف قابلتها استراتيجية إسرائيلية تتمثل “لا شيء بدون شيء” أي لا تنازل عن شيء إلا أن يكون مقابله شيء آخر.
العرب المكلومون عقدوا قمة الخرطوم بعد الهزيمة مباشرة مصرين على موقف كل شيء أو لا شيء (ولسخرية المواقف أن النظام السوري الذي خسر الجولان بأمر من حافظ الأسد بالانسحاب الطوعي من الجبهة وفسح المجال للجيش الإسرائيلي لاحتلاله كان الوحيد الذي لم يحضر هذه القمة)، والتي سميت بقمة اللاءات الثلاث: “لا صلح، لا اعتراف، لا تفاوض”. لكن مواقف العرب التي لا تستند إلى استراتيجية ثابتة سرعان ما تبدلت لتتدرج في الهبوط إلى قعر الاستسلام.
قبل نكسة العرب الكبرى بقليل زار الرئيس التونسي الراحل الحبيب بورقيبة..(3 آذار/ مارس 1965) الأراضي الفلسطينية ووقف على الوضع المأساوي الذي يعيشه الفلسطينيون، وتوقف في أريحا حيث ألقى خطابا تاريخيا أثار حفيظة العرب حكومات وشعوبا، فبورقيبة الزعيم التاريخي المخضرم والذي خاض معركة التحرير ضد الاستعمار الفرنسي ربما كان أكثر الزعماء العرب فهما للعقلية الغربية ودهاليز سياساتها وأحابيلها ومراميها، كان براغماتيا ومحنكا ومثقفا فرانكوفونيا، من بين كل الزعماء العرب كانت رؤيته واضحة: القبول بقرارات الأمم المتحدة ولاسيما قرار التقسيم:”إن الكارثة التي منينا بها في فلسطين دليل على أن القيادة لم تكن موفقة فلا يمكن أن نمتثل إلى سياسة كل شيء أو لا شيء التي أوصلتنا إلى هذه الحالة فقد أبى العرب الحل المنقوص ورفضوا التقسيم.. ثم أصابهم الندم، ولا بد لنا من الصبر والتخطيط وتهيئة البشر والعتاد وحشد الأنصار والحلفاء ولا نرتمي في المعركة الحاسمة قبل أن نوفر كل أسباب النجاح والحق يعلو ولا يعلى عليه” ثم قال في زيارته لبيروت:” إن خذ وطالب معناه خذ أي شيء وطالب بالمزيد كيفما اتفقت الظروف عملا بالقاعدة: ما ضاع حق وراءه مطالب”.
وأرسل رسالة للرئيس جمال عبد الناصر قال فيها: “الوضع الدولي يحول دون أي عملية هجومية لأن الوضع الدولي يحول دون ذلك..لإجماع الشقين الشرقي والغربي على المحافظة على السلم واستعدادهما لردع أي محاولة تهدف إلى تغيير الوضع الحالي بالعنف”
التطبيع مقابل لا شيء
لم تكن حرب تشرين/ أكتوبر، رغم أهميتها، سوى رأس الجسر للوصول إلى مسار التطبيع مع العدو رقم 1 للعرب الذي لم يجلب لهم بالضرورة أي منفعة سياسة أو اقتصادية أو استرداد حق الفلسطينيين، بل على عكس ذلك خسر الفلسطينيون مساحات واسعة من أراضي الضفة الغربية ولم يتحقق بناء الدولة الفلسطينية.
بدأ هذا المسار الرئيس أنور السادات في اتفاقية كمب ديفيد 17 أيلول/ سبتمبر 1978. وجلس العرب مجتمعين مع الإسرائيليين في مدريد في العام 1991 دون فائدة، ثم طبع الفلسطينيون مع دولة الاحتلال في اتفاق أوسلو، وتبعهم الأردن في اتفاقية وادي عربة 1994، وموريتانيا 1999 (جمدت العلاقات في العام 2009 بعد الحرب على غزة)، وقدم العرب خطة الملك عبد الله “الأرض مقابل السلام” في مؤتمر قمة بيروت 2002 ورفضتها إسرائيل. ورغم كل هذا الرفض الإسرائيلي والإذلال العربي تفاجأ العرب بموجة تطبيع بدأت في العام 2020 شملت كلا من الإمارات، والبحرين، والسودان، والمغرب حسب اتفاقيات ابراهيم.
كل عمليات التطبيع هذه لم يحصل العرب من خلالها على أي تقدم في المسألة الفلسطينية ولا باستعادة الأراضي المحتلة سوى صحراء سيناء. وباتت القضية الفلسطينية بيد رئيس الولايات المتحدة الذي يمكنه أن يمنح القدس الشريف لإسرائيل، والضفة الغربية للملك عبد الله الثاني لو رغب في ذلك كما فعل الرئيس السابق دونالد ترامب ضمن “صفقة القرن” لمحو ذكر شيء اسمه دولة فلسطينية.
في الوقت الذي تشن فيه إسرائيل غارات متكررة على الأراضي السورية دون وازع لمواجهة إيران ومشروعها النووي والهيمنة على المنطقة، وتضرب غزة متى أرادت وتغتال قادة فلسطينيين.
ماذا بقي للعرب؟
لم يتبق للعرب أي أوراق في أيديهم للضغط أو للتفاوض والقضية الفلسطينية لم تعد من أولوياتهم، ولم يتبق سوى الفلسطينيين يناضلون من أجل قضيتهم، وإذا استمر الوضع كما هو عليه الآن فلن ترى الدولة الفلسطينية النور، بل وسيكونون تحت تهديد مباشر من قبل دولتين إحداهما نووية وهي إسرائيل، والثانية في طريقها للدخول في النادي النووي وهي إيران، والمواجهة بينهما يمكن أن تندلع في أي وقت، ولا حل لهم سوى التكتل والتعاضد لفرض شروطهم، وخاصة في هذه الفترة حيث العالم تتجه أنظاره إلى العرب لاستيراد الغاز والنفط، وهذه فرصة سانحة للعرب كي يستعيدوا شيئا من وزنهم السياسي دوليا وكرامتهم باشتراط شرق أوسط خال من الأسلحة النووية، وتمكين الفلسطينيين من بناء دولتهم، واستعادة الأراضي المحتلة بعد حرب 67 وسيعضون على أصابع الندم كما عضوا سابقا لعدم قبولهم قرار التقسيم، وهذا أضعف الإيمان.
كاتب سوري
“القدس العربي”