المقصود بالمعارضة السورية هنا هي، بصورة رئيسية، الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة التي تتخذ من إسطنبول مقراً لها، ويحصل قادتها على رواتبهم من الحكومة التركية (أو ربما من جهاز الاستخبارات).
هذا الائتلاف وبعض الأطر المشتقة منه كهيئة التفاوض وحصتها من اللجنة الدستورية يتبعون الأجندة التركية بصورة تامة، ليقتصر هامش استقلاليتهم على نشاط إعلامي شحيح يتصل بتفاصيل لا تهم الظهير التركي. وقد عرف السوريون، قبل أسابيع قليلة، أن ممثلي الخارجية والاستخبارات التركيين قد اجتمعا مع قادة الائتلاف ومشتقاته ليوبخوهم بسبب تصريحات «استفزازية» أدت إلى اندلاع مظاهرات في مناطق سيطرة الجيش التركي في الشمال، وطالبوهم بـ«تسويق» التقارب التركي مع نظام الأسد، وأحاطوهم علماً بخفض رواتبهم الشهرية!
وفيما كانت التكهنات تدور في وسائل الإعلام حول مدى جدية أنقرة في التطبيع مع نظام دمشق من عدمها، جاءت أخبار جديدة تفيد بحدوث سلسلة اجتماعات بين رئيسي جهازي المخابرات الرئيسيين، هاكان فيدان وعلي مملوك، أين؟ في دمشق!
هذا هو العنصر الجديد في اللقاءات الأمنية الجارية بين الجانبين منذ العام 2019، أي زيارة فيدان لدمشق. لنا أن نتوقع أن يتم اللقاء التالي في أنقرة أو إسطنبول، فالهدف من تحديد مكان اللقاء هو إحداث أثر نفسي ربما يكون أهم من فحوى المحادثات. فمواقف الطرفين المعلنة لا جديد فيها، النظام يطالب بانسحاب القوات التركية من الأراضي السورية، ووقف دعم الفصائل المعارضة، في حين يركز الأتراك على محاربة الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني، حزب الاتحاد الديمقراطي ووحدات حماية الشعب، وإعادة اللاجئين السوريين الموجودين في تركيا، ويفاوضون على مصير «المعارضة المعتدلة» أي الفصائل المسلحة التابعة لتركيا.
هذه هي محاور المفاوضات كما تذكرها «تسريبات» صحافية، أما إذا كان هناك نقاط أخرى يتم التباحث بشأنها، فهذا ما لا يمكننا معرفته قبل أن يقرر المتفاوضون الإعلان عنها. وهناك تكهنات لا يمكن التأكد من مصداقيتها تتحدث عن طلبات محددة كالطلب التركي بشأن إلغاء القانون رقم 49 للعام 1980 الذي يجرّم الانتماء إلى تنظيم الإخوان المسلمين ويحكم على أفراده بالإعدام. هذا تكهن معقول، على أي حال، بالنظر إلى حظوة الجماعة لدى القيادة التركية، كما أن تصورات الأخيرة بشأن حل سياسي في سوريا ما زالت تراوح عند النقطة التي كانت عليها في العام 2011 حين قيل إن أحد بنود مقترحات وزير الخارجية آنذاك أحمد داوود أوغلو هو إدخال عدد من وجوه جماعة الإخوان المسلمين في حكومة النظام، وهو ما رفضه الأسد رفضاً قاطعاً آنذاك، وربما ندم عليه لاحقاً بعدما امتدت الثورة المسلحة لتشمل معظم الأراضي السورية. أما الآن فالنظام سيرفض المقترح نفسه مجدداً لأن الظروف تغيرت كثيراً بعد التدخل الروسي في العام 2015.
هذه التطورات المتسارعة التي يتوقع إعطاؤها دفعة سياسية بلقاء قريب بين وزيري الخارجية مولود شاويش أوغلو وفيصل المقداد، لا بد أنها تثير قلق الائتلاف السوري المعارض الذي بدأ يلمس على رأسه وسط أنباء عن مطالبة النظام بترحيل أعضائه خارج الأراضي التركية
لم تقتصر التسريبات الصحافية على الصحافة التركية، كما كانت الحال في الشهرين الماضيين، بل دخلت صحيفة الوطن «المقربة من نظام الأسد» أيضاً على الخط لتتحدث عن موضوعات الخلاف في المفاوضات بين رئيسي جهازي الاستخبارات التركي والأسدي في دمشق، وهو ما يعني تناغماً بين النظام وانقرة بشأن وتيرة «تدفئة» العلاقات على طريق التطبيع. ويمكن تفسير التجاوب الأسدي مع تودد أنقرة بالعامل الروسي الذي «يشجع» هذا التقارب على ما أفاد نائب وزير الخارجية الروسي بوغدانوف مؤخراً.
هذه التطورات المتسارعة التي يتوقع إعطاؤها دفعة سياسية بلقاء قريب بين وزيري الخارجية مولود شاويش أوغلو وفيصل المقداد، لا بد أنها تثير قلق الائتلاف السوري المعارض الذي بدأ يلمس على رأسه وسط أنباء عن مطالبة النظام بترحيل أعضائه خارج الأراضي التركية، على غرار مطالبات نظام السيسي بترحيل المعارضين المصريين. نفى بعض أركان الائتلاف أن تكون السلطات التركية قد طالبتهم بذلك، ولكن من يدري متى تفعل إذا تطور مسار التطبيع بين انقرة ودمشق في الفترة القادمة؟
لذلك فإنه من الحصافة أن يفكر قادة الائتلاف بصورة جدية في مستقر بديل قد يضطرون إليه في الأشهر القادمة، هذا على فرض أنهم مهتمون أصلاً بالاستمرار في تمثيل «الثورة والمعارضة» في المستقبل.
فقد مضت سنوات على انخراطهم في «الحل السياسي» في إطار عملية آستانة، وسلموا تمثيل «برنامجهم» في هذه العملية إلى الظهير التركي الذي تختلف أولوياته، بداهةً، مع الأولويات السورية المعارضة. وحصل أبرز قادة الائتلاف وهيئته السياسية على الجنسية التركية، وهو ما قد يجنبهم الترحيل لكنه قد يفرض عليهم ما هو أسوأ: الصمت السياسي ووقف الأنشطة المعارضة لنظام الأسد. أما من قد يتم ترحيلهم ممن لا يحملون الجنسية التركية فسوف يكون عليهم إيجاد دولة أخرى تمنحهم مقراً على أراضيها، وهو ما لا يبدو أنه ميسور في الظروف الحالية.
على أي حال، وبصرف النظر عن السيناريو المذكور، يبقى أن القضية السورية بحاجة لإطار يمثلها في المحافل الدولية، يكون مستقلاً عن الدول «الصديقة» ومقبولاً في الوقت نفسه في المجتمع الدولي وفي البيئات السورية المعارضة. الائتلاف المعارض بعيد عن تحقيق هذه الشروط منذ سنوات، وكان بقاؤه مرهوناً بإرادات الدول الأخرى، ولأن السوريين لم يبتكروا بديلاً عنه.
ترى هل سيتمكنون من ذلك في الفترة القادمة؟
كاتب سوري