مضت سبعة أعوام على التدخل العسكري الروسي المباشر في سوريا (أيلول/سبتمبر 2015)، وسبعة أشهر على الغزو الروسي لأوكرانيا، وقد نجمت عن هذين الحدثين مآس وكوارث وتداعيات خطيرة، بينها خسائر مادية وبشرية فادحة، ضمنها ملايين اللاجئين السوريين والأوكرانيين، وتقويض الاستقرار على الصعد المحلية والإقليمية والدولية.
ورغم مرور هذا الزمن الطويل في الحدثين (لنأمل ألا تصل الكارثة الأوكرانية إلى سبع سنوات)، فإن القوة العسكرية لروسيا لم تثبت نفسها تماماً، إذ لم تحقق النتائج المرجوة منها، رغم جبروتها، وتفوقها في النيران والقوة الصاروخية، فلا هي استطاعت إعادة الاستقرار إلى سوريا، ولا استطاعت فرض إملاءاتها على الشعب الأوكراني، بل إن ذلك التدخل في الحالتين تحول إلى ورطة أو فخ لروسيا، لا أحد يستطيع التكهن بكيفية تأثيره في مكانة روسيا ونظامها السياسي في المستقبل القريب.
ثمة مفارقات في مقاربة الحالتين، أهمها: أولاً، أن التدخل العسكري الروسي في سوريا أتى بدعوى الحفاظ على وحدتها وسيادتها (بتغطية من النظام)، فيما حصل غزو أوكرانيا لقضم مناطق منها (دونيتسك ولوغانتس وزابوريجيا وخرسون)، أي لقضم سيادة البلد ووحدته.
ثانياً، جاء التدخل في سوريا لدعم النظام الحاكم (منذ أكثر من نصف قرن)، وعلى الضد من فكرة حق تقرير المصير للشعب السوري، فإنه أتى في أوكرانيا بحجة دعم الأقلية الروسية في تلك المناطق، وبحجة حقها في تقرير المصير.
ثالثاً، بررت روسيا وجودها العسكري في سوريا بمحاربة الإرهاب أو المتطرفين الإسلاميين، نازعة عن الحراك الشعبي للتغيير السياسي في سوريا شرعيته وعدالة مطلبه، بينما بررته في أوكرانيا بادعاء محاربة النازيين، كأن الشعب الأوكراني كله بات نازياً!
رابعاً، بينما توخّت روسيا من تدخلها في الحالة السورية تعزيز مكانتها الدولية، فإنها في الحالة الأوكرانية ادعت أن تدخلها يستهدف التخلص من الأحادية القطبية، ومن الهيمنة الأميركية، وتأمين التحول نحو عالم متعدد الأقطاب، وتالياً فرض احترام روسيا كدولة عظمى.
طبعاً، ثمة اختلافات بين القضيتين، لكن الفكرة هنا أن روسيا ادعت في الحالتين أن تدخلها أتى للدفاع عن أمنها القومي، ومصالحها الاستراتيجية كدولة عظمى، فيما بررت وجودها في كل حالة بشكل يتناقض مع الأخرى، كما حمّلت تدخلها العسكري أكثر مما يحتمل، من دون أن تدرس قدرتها على إنجاز المهمات، أو الأهداف التي ادعتها أو طمحت إليها.
بالمحصلة، فإن روسيا بتدخلها العسكري في سوريا، رغم أنها استطاعت فرض ذاتها طرفاً فاعلاً في الصراع السوري، وصاحبة القرار باستمرار نظام الأسد، في مقابل تحجيم دور إيران التي كانت تعتبر نفسها صاحبة القرار في الشأن السوري، وفي مقابل تعطيل الحل الدولي، المتمثل ببيان جنيف 1 (2012)، وقرار مجلس الأمن الدولي (2254، 2015)، بإقامتها تحالف أستانة (روسيا، تركيا، إيران/2017) لإدارة الصراع السوري، وبمحاولتها فرض مسار تفاوضي جديد، هو مسار آستانة، إلا أنها رغم ذلك كله لا تزال عاجزة عن جلب الاستقرار لهذا البلد، أو تمكين النظام من السيطرة والسيادة على أراضيه.
هكذا، ثمة في سوريا اليوم أطراف عدة فاعلة (الولايات المتحدة، وروسيا، وإيران، وتركيا، وإسرائيل)، ومناطق نفوذ عدة (في الشمال تركيا، وفي الشرق الولايات المتحدة، وثمة تداخل في النفوذ في مناطق النظام بين إيران وميليشياتها العسكرية والقوات الروسية).
أيضاً، فإن روسيا، بحكم ضعف إمكاناتها المادية واللوجستية، تجد نفسها عاجزة عن تقديم الدعم للنظام لتمكينه من النهوض بأوضاعه، كما أنها عاجزة عن تأمين عودة اللاجئين السوريين إلى مدنهم وبيوتهم، وعاجزة عن تأمين مستلزمات إعادة الإعمار.
وفي الواقع، فإن روسيا باتت تجد نفسها مقيدة، أو في ورطة، إذ بإمكانها أن تقصف، وأن تدمّر، وأن تشرّد، ولكنها لا تستطيع جلب الاستقرار، ولا إعادة الإعمار، كما تجد نفسها أسيرة حدود إمكاناتها، فيما الولايات المتحدة، ومع 800 أو 1000 عسكري فقط، تسيطر على ثلث الأراضي السورية (شرق الفرات)، كما أنها هي التي تملك قرار الاستقرار، وعودة اللاجئين، والإعمار في يدها.
هذا يعيدنا إلى اللحظة التي تدخلت فيها روسيا في سوريا (قبل سبعة أعوام)، فقد أتى ذلك بعد اقتطاعها منطقتين من جورجيا (أبخازيا، وأوسيتا في 2008)، والاعتراف بهما دولتين مستقلتين، بدعوى حق تقرير المصير (لم يعترف بهما أحد غيرها)، وهو ما تكرر باقتطاع مناطق من أوكرانيا (دونتيستك ولوغانسك وشبه جزيرة القرم، 2014)، وبعده أتى التدخل الروسي العسكري والوحشي في سوريا، في ظل سكوت دولي.
وفي الحقيقة، فإن ذلك السكوت بدا نتاجاً للا مبالاة أميركية لما يجري في سوريا، إذ ليس ثمة مصالح حيوية لها فيها، باستثناء ضمان أمن إسرائيل، أو ربما رغبة منها لاستدراج روسيا للتورط في سوريا، بهدف استنزافها سياسياً واقتصادياً وأمنياً، ووضع الأطراف الفاعلة في الشأن السوري للتصارع أو التنافس في ما بينها (روسيا، وتركيا، وإيران)، وأيضاً لاعتبارات إسرائيلية ربما، تقتضي مزيداً من الإنهاك والتمزق لهذا البلد. وقد شهدنا مدى التساوق الأميركي – الروسي في الملف السوري في عهد الرئيس السابق باراك أوباما، في التعاطي مع ملف السلاح الكيماوي، وفي الالتفاف على بيان جنيف 2012، أو تمييعه.
ومشكلة روسيا أن تدخلها في الحالتين جرى نتيجة تملك روح الغطرسة، وأوهام العظمة، لدى الرئيس بوتين (ما يذكّر بما فعله صدام حسين في الكويت / 1990)، كما جرى ذلك وفق إدراكات خاطئة تبالغ بالجبروت العسكري الروسي، ما يؤكده انشغال قادتها من الرئيس إلى كل مستويات القيادة بالدعاية للسلاح الروسي، إلى درجة أن وزير دفاعها تباهى باعتبار سوريا مجرد حقل رماية ومضمار تدريب للجيش الروسي.
وفي تقرير لوزارة الدفاع الروسية (كانون الثاني/يناير 2019)، تم تأكيد “خوض 68 ألف عسكري روسي، بينهم 460 جنرالاً، عمليات قتالية في سوريا (إلى حينه فقط في ظرف 3 أعوام)، اكتسبوا خلالها “خبرات قتالية كبيرة”، وأن بين هؤلاء كل قادة الدوائر العسكرية الروسية وقادة جيوش القوات البرية وجيوش القوات الجوية وقوات الدفاع الجوي وقادة الفرق العسكرية و96 في المئة من قادة الألوية والأفواج… و87 في المئة من طواقم الطيران التكتيكي و91 في المئة من طواقم طيران الجيش و97 في المئة من طواقم طيران النقل العسكري و60 في المئة من طواقم الطيران الاستراتيجي”، وأنه تم خلال تلك العمليات “اختبار أكثر من 300 طراز من الأسلحة والمعدات العسكرية الروسية، بما فيها مقاتلات الجيل الخامس “سوخوي – 57″، ومنظومات الدفاع الجوي “بانتسير – إس 2″، ومدرعات “ترميناتور – 2” والروبوت القتالي “أوران – 9″ المدرع وغير ذلك من صنوف جديدة من الأسلحة”.
(موقع “المنار”، أيضاً: رائد جبر، “الشرق الأوسط”، 4/1/2019).
الآن، ووفقاً للظروف والمعطيات الراهنة، يبدو أن التوظيف أو الاستثمار الأميركي في استدراج روسيا إلى هذه الورطة أو تلك، هذا الاستنزاف أو ذاك، في سوريا وأوكرانيا، قد أتى أكله، لذا فإن الاستراتيجية الأميركية تشتغل اليوم على قاعدة عدم السماح لروسيا بالفوز، لا في أوكرانيا، ولا في أي مكان آخر، على الأرجح من ضمنها سوريا.
مع ذلك ثمة ميزتان رئيستان في الوضع الأوكراني بالقياس إلى الوضع السوري. الأولى، أن ثمة قيادة مركزية لإدارة الشعب الأوكراني، وترتيب مقاومته ضد الغزو الروسي، وهي تقوم بدورها بطريقة ناجحة ولافتة. والثانية، أنه قُيّض لأوكرانيا دعمٌ دولي غير مسبوق، لجهة حجم الضغط الموجه ضد نظام بوتين، ولجهة إغداق الدعم المادي والعسكري للشعب وللجيش الأوكرانيين، وكل ذلك لعب دوراً كبيراً في كبح الهجوم الروسي، وفرملته، وإظهار تخبطه، رغم كل الدمار الذي حصل ورغم تشريد ملايين الأوكران؛ وهما ميزتان افتقدهما الحراك السوري.
لذا فثمة مشكلة كبيرة لروسيا، إذ إنها ظنت أن سلاحها المدمر الذي واجهت به السوريين العزل من السلاح تقريباً، واستغلته في تلك الدعاية، سيفعل فعله ذاته أمام الأوكرانيين، مع قيادة موحدة، وسلاح متطور، ودعم غربي، إضافة إلى أنها ظنت أن العالم سيسكت عن محاولتها إلغاء أوكرانيا، أو تغيير المعادلات السياسية في أوروبا.
من المبكر معرفة انعكاسات الحرب الروسية في أوكرانيا في الصراع الجاري في سوريا، منذ 11 عاماً، والذي باتت فيه الأطراف الخارجية أكثر فاعلية من الأطراف الداخلية، لذا لا يفيد هنا التسرع في الاستنتاج أن ذلك التأثير سيحصل ميكانيكياً رغم كل التشابه بين الحالتين، إذ إن روسيا التي تقاتل الشعب الأوكراني في أوكرانيا، تقاتل الشعب السوري في سوريا.
“النهار العربي”