للإحاطة بجوانب المبحوث، لا بد من البحث في الجذور التي تُمكّن الباحث من تقصّي أوليات المتن التاريخي، الذي هو إشارة إلى أننا لا تعنينا الصراعات الدائرة في التاريخ، بين سلطة الرجل والمرأة (الذكورة والأنوثة)، بقدر ما تهمنا سلطة المعرفة التي تدعو إليها المرأة، مقابل سلطة الرجل المعرفية أيضاً والدائرة في فلك التابع والمتبوع. لذا نجد أن أول رجحان كفة الوجود إلى المرأة في ما قامت به أمنا (حوّاء)، بأن أطعمت أبونا (آدم) ثمرة من شجرة الجنة، التي هي شجرة المعرفة، فتعرّت له الأشياء خلال التحوّل الذي حصل في حياتيهما نتيجة (النزول إلى الأرض). وبعد هذا كان صراع ابنيهما (قابيل وهابيل)، ورجحان كفة أحدهما الذي كان على تماسّ مع رؤية الأم (المرأة) الزراعية. فنشأ الوجود الإنساني على قاعدة زراعية مخصبة ومنتجة لمفردات الوجود، وليس وضعه موضع الصدفة الرعوية المتنقلة. بمعنى كان الاستقرار على الأرض، وتوفير كيفيات الوجود من ضمن مخيال الأم الكبرى، حصراً في توفير مستلزمات الحياة والاستقرار في المكان، وزيادة نِسَبْ الوجود البشري (الولادات) التي هي جزء من أنماط الزراعة والتخصيب (نساؤكم حرث لكم). تشبيه المرأة هنا قار لأنه ارتبط بجدلية وجود الاثنين (المرأة ـ الأرض)، باعتبارهما منتجين بشريين يُغنيان الوجود الإنساني. وتسارع الزمن أثبت هذه الرؤى القارّة لدور المرأة في التاريخ.
الملاحم الكبرى أكدت مثل هذا، ولنأخذ ملحمة جلجامش مثلاً، باعتبارها أقدم نص حفل بالمرأة (أُماً، مخلقة، حكيمة، عاشقة ومخصبة). ففي الأولى نجد الأم (الإلهة ننسون) أم الملك جلجامش، أكثر سعة في رؤيتها للحياة، والأمثلة كثيرة، لعل معرفتها بـ(أنكيدو) ومخاطبته بعبارة (يا ولدي) قبل الرحيل إلى غابة الأرز وقتل (خمبابا) حارس الغابة. فقد أعدت له مجلساً توفرت فيه على كل مستلزمات الاستقبال والاحتفاء، ونادته بكنية محببة باعتباره ابنها بالتبني وأوصته بأخيه الملك، فهو خلّه الذي يعرف الطريق، لذا عليه أن يسير في مقدمة الموكب. وثاني النساء هي (أورورو) المُخَلِقة للبشر، التي استجابت لطلب الإله لخلق إنسان ند لجلجامش جرّاء جور رعايا أوروك وغضبهم من الملك، كي تتعادل كفتا الميزان في الحاضرة. أما الثالثة، فهي (سيدوروي) الحكيمة، التي تقطن خارج أسوار المدينة، وحانتها دالة على الذاهب والآتي، بمن فيهم الملك الذي زارها قبل أن يرحل إلى بحر الظلمات لحيازة الخلود من (أوتونبشتم) الجد، فصرّحت له بعبارات حكيمة في ما يخص الخلود الذي خص الآلهة. والرابعة هي (شمخت) الغانية التي استدرجت (أنكيدو إلى حاضرة أوروك. فهي (سفيرة المعبد) القادرة بحكمتها أيضاً على استمالة وأنسنة مخلوقات الطبيعة.
تبقي الأخيرة وهي (أنانا /عشتار) زوجة الإله (دموزي/ تموز) ودورها الريادي ليس في الملحمة، وإنما في معظم تاريخ الأساطير في العالم مقابل (فينوس)، فهي إلهة الخصب والعشق. وما مسير التاريخ، إلا دالة على جدليته التي حققت من جملة ما حققت وجود المرأة الفاعل، كما هي تسلسلاً ليئة زوجة النبي يعقوب، وأُم الأبناء الاثني عشر بمن فيهم يساكر وراحيل زوجة النبي يعقوب الثانية، وأُخت ليئة وهنَّ بنات لابان الخال بالنسبة ليعقوب، وأم النبي يوسف وبنيامين، ثم زليخا زوجة قوطيفار المصري والهائمة بعشق يوسف.
الملاحم الكبرى أكدت مثل هذا، ولنأخذ ملحمة جلجامش مثلاً، باعتبارها أقدم نص حفل بالمرأة (أُماً، مخلقة، حكيمة، عاشقة ومخصبة). ففي الأولى نجد الأم (الإلهة ننسون) أم الملك جلجامش، أكثر سعة في رؤيتها للحياة، والأمثلة كثيرة، لعل معرفتها بـ(أنكيدو) ومخاطبته بعبارة (يا ولدي) قبل الرحيل إلى غابة الأرز وقتل (خمبابا) حارس الغابة.
وثنائية سارة، هاجر زوجتا النبي إبراهيم وابنيهما إسماعيل، إسحاق، خير مثال يُضاف إلى سلسلة دور المرأة ومساهمتها في تحوّلات مسار التاريخ، خاصة إجراءات النبي إبراهيم في مكة؛ كالختان وبناء بيت الرب. أما شهرزاد فلم تكن الأخيرة في التاريخ، لكنها من جسّد فعالية السرد في التاريخ وتحويله من مساره الجدلي في الزمن، إلى العمل على خلق وسائل إغراء وإغواء الملك شهريار القاتل لعوالم الخصوبة (المرأة) جرّاء خطئه الفادح والمشرعن بالنسبة لسلطة الرجل (الخيانة الزوجية)، عبر اختيارها (السرد/ الحكي) لا العنف وسيلة لإبعاده عن نحر النساء من جنسها، بسبب خطيئة لم ترتكبها المرأة، بقدر ما ارتكبها الرجل. فهي بمساعدة والدها الوزير الذي كان يُعد للملك النساء لمخدعه، بأن استجاب لطلبها في إعداد كتب تحوي مرويات الشعوب من الهند والسند وبلاد فارس، بعد أن علمت من أبيها أن (شهريار) يهوى الحكايات والمرويات، فرأت بقدرة حدسها، أن ما سيعطل فكرة قتل النساء في مخدعه الذكوري عند الفجر، هو السرد المتواتر للحكايات لزمن ناف عن الألف بواحد. أصبحت «ألف ليلة وليلة» أي ألف حكاية وحكاية. ما نريد أن نصل إليه؛ أن للسرد دورا مهما في فك عُقَد الوجود، بما فيها فك عقدة العلاقة بين الرجل والمرأة، التي لا بد أن تتساوى كفتيهما كمحصلة هذا التاريخ الذي خلقت المرأة دوراً في استنباط حياة مستقرة. والمرأة من يُحسن كيفية السرد واغوائه بالمعرفة
دور المرأة المعاصرة
لعلنا لا نبتعد عن محوّر ما ابتدأناه عن دوّر المرأة في التاريخ؛ بأن نقدم توصيفاً عن دوّر المرأة المعاصرة. مؤكدين أن الجينات المعرفية تترحل عبر الأجيال. فلا غرابة أن ينتج الواقع المعاصر كاتبات عراقيات معاصرات، مارسنّ فعل السرد باعتباره فعلاً إغوائياً معرفياً. وبمثل ما أجرته المرأة في التاريخ من استنادها في إنتاج الأفعال المعرفية عبر التأكيد على البنية الفكرية المنتجة لصورة الحياة، واطراد تقدمها إلى الأمام بصوّر جديدة. إذن نحن إزاء صور للعطاء نأخذ منها عينات بخصائصها الذاتية والموضوعية. وهي بالتأكيد تزحف على مجمل ما أنتجته الأزمنة بتفاوت في القيمة، سواء في المجال الإبداعي، أو مجال ممارسة الكتابة باعتبارها عنصرا يؤكد الوجود الإنساني بعامة، ووجود المرأة بخاصة، كما أننا نؤكد في مداخلتنا هذه عن دور المرأة السردي في التاريخ المعاصر، لأنه ذو حمولات فكرية. بمعنى أن المرأة الكاتبة والمؤلفة لسرديات التاريخ المعاصر، لا تنفك عن طرحه وفق إمكانيات ورؤى فكرية خالصة، لأنها أساساً ومعرفياً تؤمن بجدلية الثقافة والمعرفة في بناء الحياة، شريطة أن تكون طروحات متناسبة مع حركة التاريخ وجدليته.
وهذا يتطلب توسيع الرؤى باتجاهات مختلفة، ولنأخذ الكاتبة العراقية لطفية الدليمي مثلاً، مستندين إلى كونها تتصدر المشهد السردي بإمكانيات ذاتية وافرة وحيوية، ونصوصها السردية متمسكة بمسألة تبئير حيثيات النص وفق جدلية حراكه الداخلي والخارجي. أي علاقاته النصية، وعلاقاته بمحيطه دون السير ضمن إغراءات سحر (كابوس) الواقع الذي لا يمنح سوى الانحياز المبدِدْ لأشكال وبؤر الطرح الإبداعي. فلو تصفحنا كتبها، لاستوقفتنا عناوينها وفق مثل هذا التصوّر للنص (عالم النساء الوحيدات/ سليل المياه/ من يرث الفردوس/ بذور النار/ يوميات إبراهيم الكُتبي/ سيدات زُحل) وغيرها. ولنتوّقف عند هذه العناوين، لنستدرج بناها الفكرية التي كانت بمثابة الدالة المتواصلة في النصوص. ففي نصوص كتاب «عالم النساء الوحيدات» تتمثل الكاتبة أدق الأحاسيس عن المرأة، ولكن بأساس فكري خالص، بمعنى حين تضع المرأة (الأم، الزوجة، الأخت) لا تُخضها لواقع فيه عناصر إحباط مثلاً، فهي لا تتوسل بالرجل لقوة سلطته الأُسرية والاجتماعية، بقدر ما تواجه واقعه بملامح فكرية يقينية. تنطلق من إيمانها الأكيد والدائم بهذا المنطلق، وفي هذا تحقيق للوجود الإنساني للمرأة. وفي نص «سليل المياه» نجد ثمة اتساع لعالمها الفكري، الذي يكون منطلقاً من الماء والنهر في نموذجها (أيوب النهري)، فهي تدخل مدخلاً فلسفياً بتوظيفها النهر والمياه، اللذين حباهما الله بالأرجحية في كتابه المجيد «وخلقنا من الماء كل شيء حيّ «. من هذا المنطلق يمارس نموذجها دوره في صياغة رؤاه، الذي هو أساساً ينطلق من رؤية المرأة حصراً.
في رواية «من يرث الفردوس» يتضح التوّجه من سياق العنوان في (الفردوس)، حيث يكون للمرأة (مزيّنة) دور لا يختلف عن دور (سحبان) وهما يتركان المدينة التي طالها الفساد الاقتصادي، متوجهين نحو (حصن المسهج) ضالتهم اليوتوبية، أي خلاصهم من قوانين المدينة المفتعلة، كذلك رحلتهم نحو (جبل الساهور)، بعد أن عرفا أن الفساد تسرب إلى عناصر الحُصن. إن اختيار العُلية (الجبل) دليل فلسفي ـ روحي، حيث تتبلوّر البنية الفكرية لدى (سحبان ومزيّنة) وفق منطلق فلسفي (فكري) خالص. النماذج في رواية «بذور النار» لا تختلف عن بنيتهم في النص السابق، لكنها تختلف في الكيفية التي تؤكد المبنى الفكري. فكلاهما (المرأة والرجل) ينتميان إلى حقل واحد هو الهندسة، وهو علم يوّسع الأفق الإنساني، والسير وفقه، يُعزز بناء الشخصية، خاصة المرأة ودورها في الحياة. ويكون نموذج (إبراهيم) في رواية «يوميات إبراهيم الكتبي» واضحة، وهو ذو دلالة على المعرفة وعالم الكتب، وللمرأة فيها دور واضح أيضاً. أما نماذج رواية «سيّدات زُحل» فهو دور مركزي، خلاصته الغوص والدفاع عن الحياة ما بعد الاحتلال عام 2003، ومراقبة ما طرأ من تغيير أساسي وسلبي، ومنها إشاعة الجريمة والقتل والتطاول على ملكية الغير، والاستحواذ على وجود الإنسان، وتبعثر أُسس الحياة. كل هذا استطاعت الكاتبة أن تُعززه برؤى فكرية متمكنة وقوية.
من كل هذه الأمثلة من حيثيات تأليف النص الروائي عند هذه الكاتبة، وفق ملامح واضحة فكرياً، فهي لا تبدو طارحة لحكاية استلتها من واقع الحياة، وإنما طرح واقع يحتمل الجدل والمفارقة في الرؤى والنظرة، أي أنها تحاكم الواقع ولا تجاريه على علاته، وهذا ما يؤكد حقيقة ما طرحناه من أن المرأة المعاصرة اتخذت من الجينات المعرفية لمن سبقها من الرموز النسائية قدوّة من أجل ابتكار الكيفيات الجديدة والمناسبة لواقع الأزمنة. وهذا لا يعني أيضاً أن لطفية الدليمي، وحدها من يتصدر المشهد. فهناك ميسلون هادي، صبيحة شبّر، دنى طالب، هدية حسين، إرادة الجبوري، كَليزار أنوّر، نضال القاضي، إنعام كججي، إسراء محمد سليمان بيك، فليحة حسن، علياء الأنصاري، إلهام عبد الكريم.
كاتب عراقي
“القدس العربي”