في خطوة من نوع الهروب إلى الأمام، أعلن الرئيس الروسي رسمياً ضم أربع مقاطعات أوكرانية إلى روسيا «إلى الأبد» حسب تعبيره. وذلك بعد استفتاءات شكلية لم يعترف أحد في العالم بصدقيتها «قرر» فيها سكان تلك المقاطعات الانضمام إلى الاتحاد الروسي، حسب المزاعم الروسية.
ففي الوقت الذي كان بوتين يحتفل فيه بهذا «الانتصار» كانت القوات الأوكرانية تتقدم بسرعة على الأرض وتستعيد المزيد من الأراضي التي سبق واحتلتها روسيا، بما في ذلك مناطق من تلك التي أعلن ضمها للتو. وفقاً للمنطق الروسي المعلن تكون القوات الأوكرانية قد «احتلت» أراضي روسية سبق وضمها بوتين «إلى الأبد»! أي أن دولة صغيرة نسبياً قد غزت أراضي روسية، في الوقت الذي يتبجح فيه بوتين بأن روسيا دولة عظمى على الغرب أن يعاملها بندية. هذا وحده كافٍ لرؤية عمق الهوة التي ينحدر إليها القيصر المزعوم ويستمر في الحفر لنفسه باطراد.
للمقارنة، يتردد حلف شمال الأطلسي في الاستجابة لطلب أوكرانيا بالانضمام إليه لأنه، إذا حدث ذلك ستضطر دول الناتو للانخراط المباشر في الحرب دفاعاً عن أوكرانيا وفق ميثاق الحلف. لذلك فضلت واشنطن وحلفاؤها دعم أوكرانيا بالسلاح والعتاد والمال بدلاً من المشاركة العملية في الحرب. في حين أن «الإذلال الروسي» ذائع الصيت سينحدر إلى أعماق إضافية باطراد كلما استعاد الأوكرانيون المزيد من أراضيهم.
هذا غير الحالة الفضائحية التي تكشفت عنها القدرات العسكرية الروسية أمام صمود الجيش الأوكراني وانتقال الأخير من الدفاع إلى الهجوم. فقرار بوتين بالتعبئة العامة الجزئية كشف عن حاجته إلى تعبئة ما بين 200 – 300 ألف جندي ليتمكن من مواصلة حربه الحمقاء على البلد المجاور، وما تهديده باستخدام السلاح النووي إلا تعبيراً عن عجز سياسي وعسكري أمام الورطة الكبيرة التي ورط نفسه وبلده فيها.
أظهرت قمة مجموعة شنغهاي التي انعقدت مؤخراً تفاقم عزلة روسيا بدلالة تصريحات الصينيين والهنود الذين رفضوا الذرائع الروسية في الحرب على أوكرانيا
لا يعني ما سبق أن روسيا بوتين ستندحر مهزومة في موعد قريب. فقد وضع بوتين نفسه في موقف لا يستطيع فيه الخروج مهزوماً ولا تحقيق أي انتصار. من المحتمل أن قراره بضم المقاطعات الأوكرانية الأربع كان بهدف وضع العالم أمام أمر واقع على أمل أن تبدأ مفاوضات لإنهاء الحرب بلا هزيمة روسية، أي ليتمكن من التفاوض من موقع القوة ويخرج بشروط تحفظ له ماء الوجه. لكن الوجه الآخر لقرار الضم هو أن روسيا «الدولة العظمى» المزعومة ظهرت عاجزة عن الدفاع عن «أراضيها» الجديدة. أما التهديد باستخدام السلاح النووي، فهو ابتزاز العاجز حتى لو حرص على القول إنه ليس ابتزازاً. فهو يعرف أن استخدام النووي لا يؤدي إلى انتصار بل إلى خراب متبادل وحسب. في حين أن محاولته كسر إرادة الأوكرانيين بقصف المدن وارتكاب مجازر بحق المدنيين قد فشلت، بل أدت إلى نتائج عكسية، فزادت من عزيمتهم وبدأوا يدحرون الجيش الروسي من أراضيهم.
على المستوى السياسي، أظهرت قمة مجموعة شنغهاي التي انعقدت مؤخراً تفاقم عزلة روسيا بدلالة تصريحات الصينيين والهنود الذين رفضوا الذرائع الروسية في الحرب على أوكرانيا. أما داخلياً فقد بدأت تصدر انتقادات علنية في الصحف ومواقع التواصل الاجتماعي وإن كانت موجهة للقادة العسكريين بوصفهم الدريئة السهلة التي يمكن التصويب عليها، فالمهم في الأمر هو الحديث الروسي العلني عن الإخفاقات العسكرية الكبيرة في الأسابيع الماضية. قد يلجأ بوتين إلى إقالة قادة عسكريين وتحميلهم مسؤولية الإخفاقات، فهذا ما يفعله القادة الدكتاتوريون المتفردون بالحكم والحريصون عليه. لكن تواضع الإمكانات العسكرية الروسية، بخلاف ما كان شائعاً، لن يتغير بتغيير القادة العسكريين.
سيبقى السؤال الحقيقي هو إلى متى يتحمل النظام الحاكم مغامرات رأسه التي أدت إلى انكشاف روسيا إلى هذا الحد؟ لا نعرف إلى أي درجة يفرض بوتين سيطرته على النواة الصلبة لنظامه، وحجم القاعدة الاجتماعية للنظام. فلا يمكن الركون إلى استطلاعات الرأي التي تظهر ارتفاع شعبية بوتين في المجتمع الروسي، ولم تجر إلى الآن صراعات بين مراكز القوى داخل النظام للاستدلال بها. لذلك يبقى التساؤل عن مصير بوتين ونظامه معلقاً في الفراغ.
على الضفة الأخرى من الحرب الباردة الجديدة تطرح تساؤلات من نوع مختلف: إلى أي درجة يمكن للدول الأوروبية أن تتحمل مقاطعة النفط والغاز الروسيين، إضافة إلى تحمل أكلاف الدعم العسكري لأوكرانيا واستقبال اللاجئين الأوكرانيين وكذلك الروس الفارين من التعبئة العامة أو من ظروف الحرب؟ الخلاصة السياسية لهذه الأسئلة هي السؤال الأهم: إلى متى يبقى التحالف الغربي متماسكاً موحداً في موقفه الصارم ضد روسيا؟
هذه هي المتغيرات التي من شأنها أن تحدد أمد الحرب الدائرة ونتائجها.
كاتب سوري
“القدس العربي”