قلة فقط رأت كارثةً في اجتياح الجولاني مدينة عفرين ومعظم أريافها، والحديث هنا عن غير المتضررين مباشرة أو المنتفعين بهجوم مقاتليه، فلا صوت أصلاً لأهل عفرين، أو من تبقى منهم بعد تهجير النسبة العظمى قبيل وأثناء الاجتياح التركي. نسبة كبرى من غير المكترثين بما حدث لا ترى فرقاً يُذكر بين الجولاني ونظرائه في الفصائل المتحكمة في المنطقة، ولعل وجه الاختلاف الوحيد هو سهولة اتخاذه “لوجوده على لائحة الإرهاب الدولية” ذريعةً لاستهداف مناطق سيطرته الجديدة، وعليه هناك نسبة من المتخوفين، بينما يكسب مزيداً من الأنصار الأكراد بسبب مخاوف هؤلاء تحديداً!
الأخبار الواردة من عفرين تفيد بأن مقاتلي الجولاني أبلغوا نساء المنطقة فور اجتياحها بالتزام الحجاب، وما أشيع عن انسحاب أولئك المقاتلين بشرط مشاركة هيئة تحرير الشام “النصرة سابقاً” بإدارة المدينة يعزز من بقاء تلك التعليمات قيد التنفيذ. هذا مثلاً وجه للترحيب من قبل “أنصار” أكراد لدخول الجولاني إلى المدينة، عسى أن تكسب القضية الكردية بسبب هذه الإجراءات التعسفية تعاطفاً فعالاً من المجتمع الدولي، فيكون الجولاني قد قدّم خدمة جليلة لها. من وجهة النظر هذه، يؤيد هؤلاء الجولاني كلما ارتكب المزيد من الانتهاكات، وليس مهماً أن يدفع الثمن من تبقى من سكان عفربن فيها كرمى لغاية أسمى.
هناك أنصار للجولاني، حتى بين الأكراد، انطلاقاً من وجهة نظر ليست بالجديدة، مفادها أن تنظيماً متشدداً منضبطاً هو في المحصلة أفضل من فصائل بعيدة كلياً عن أي مفهوم للنظام، فصائل تتعيش على الفوضى التي تتيح لها ممارسة الانتهاكات اليومية بلا ضوابط. إذاً، لا مشكلة في أن يضحّي الأهالي هناك ببعض الهوامش الحياتية، من نوع التساهل في موضوع الحجاب وغض النظر عن احتساء المشروبات الكحولية، كرمى لتحقق النظام. بداعي اليأس ليس إلا، يفوز النظام المأمول من الجولاني، وتكون الفصائل الأخرى قد أدت مهمتها على أسوأ وجه بأن جعلته يفوز بالمقارنة معها، ليبقى الواجهة الأكثر انضباطاً للمقارنة بالأسد.
غير بعيد عن الذين يتوخّون غضباً أو تدخلاً دولياً ضد الجولاني بسبب اجتياحه عفرين، هناك من يرون فيه خلاصاً من الحالة المائعة التي تحكم بموجبها فصائل باسم الثورة، بينما تمارس ما يحلو لها من انتهاكات في حق السكان. الجولاني، من وجهة النظر هذه، غير محسوب على الثورة، ما سيسهل للأهالي الثورة عليه. هنا تفاؤل يستعجل أصحابه ثورة الأهالي على الإسلاميين، بعد ثورتهم على الأسد، ليكون السوريون بالثورتين قد حققوا النقلة التاريخية الموعودة بالخلاص من الاستبدادين السياسي والديني. أصحاب هذا الرأي لا يرون الواقع المزري المنهِك لسكان تلك المناطق، وإذا رأوه فمن خلال التفاؤل بأن يكون البؤس حافزاً على الثورة لا الاستكانة.
لعل أكثر ردود الأفعال هزلية هو ذلك المتخوف من وصم الثورة بالإرهاب بسبب سيطرة الجولاني على المزيد من المناطق، هو للحق مثير للسخرية إذ يفترض أصحابه أن الثورة مستمرة وأن التطرف يشكّل خطراً عليها، وهذه تخوفات عمرها يزيد عن عشر سنوات، جرى تحتها في تلك الأثناء الكثير من الأسلمة والتطرف بمسميات مختلفة. خلال تلك السنوات أيضاً، انتهت الدول الفاعلة سورياً من المفاضلة بين الأسد والإسلاميين لصالح الأول، ثم لصالح ضبط كافة الميليشيات على الأرض بقوى خارجية، بدءاً من قوات الأسد وصولاً إلى قوات الجولاني.
إن ردود الأفعال تلك، وفوقها ردود أفعال لهياكل معارضة، تؤكد على أن الجولاني كسب معركة عفرين مرات، إذا احتسبنا جميع مستويات النصر الذي تحقق له، بما فيها طريقة انسحابه منها ثم العودة بسهولة، وهي ليست المرة الأولى ولو اقتصرت المرات السابقة على توغلات أضيق. هو كسب أولاً بالسهولة التي اجتاح فيها مساحات واسعة من ريف عفرين، ثم المدينة نفسها، وصولاً إلى كفر جنة التابعة لها، لكن القريبة جداً من مدينة أعزاز، وليس معلوماً ما إذا سوّلت له نفسه اقتحام الأخيرة بخلاف الضوء الأخضر المحدد الممنوح له.
قد يُعزى نصر الجولاني الساحق إلى تعاون فصيلي الحمزات والعمشات معه، ما يُحسب له أيضاً بتمكنه من اختراق جبهة الفصائل التي يُفترض أنها مختلفة عنه أو مناوئة له، إذا كان قد فعل بقواه الذاتية. وإذ تُفسَّر قدرته على استمالة تلك الفصائل بتواطؤ تركي معه فهذا أيضاً مما يُسجَّل له، أي أن تستخدمه أنقرة لترهيب من يُفترَض أنهم أولادها المدللون، الأمر الذي يشير إلى مكانة له تعلو على مكانتهم لدى راعيهم التركي من حيث استخدامه في مهام تفوق إمكانياتهم. وحتى إذا عاد إلى الانسحاب بموجب اتفاق جديد، يُفهم أنه بقرار تركي، فهذا يختلف عن انسحاب قسري بسبب عجز عسكري؛ هو انسحاب القوي المتمكن.
الدرس الذي يسهل استخلاصه أن الجولاني قادر على اجتياح كافة المناطق الأخرى المشمولة بالنفوذ التركي، وأنه بإرادة تركية “يتعفف” عن ذلك، حتى يُطلب منه العكس. تجربة عفرين الساخنة تفيد بأن ما لم يكن قيد التفكير قبل أسبوع حدث، بل يمكن أن يجد له أنصاراً بمآرب مختلفة، ويمكن أن تُضم عفرين وأعزاز وسواهما إلى إمارة الجولاني من دون توقعات دراماتيكية، فالعالم الذي قبل به في إدلب قد لا يغصّ به في عفرين.
يتقدّم الجولاني بقوة داعميه، شأنه شأن نظرائه في سلطات الأمر الواقع الأخرى، وعدم بناء توقعات دراماتيكية على تقدمه لا يعني النظر إليه باستهتار، وهو غالباً استهتار ينطوي على قلة حساسية تجاه العالقين في “المناطق المحررة”. أهالي تلك المناطق يستحقون أولاً الأمان الذي يطيح به تقاتل “الأخوة”، ويستحقون هامشاً من الحرية في تفاصيل حياتهم يتوعد الجولاني بتضييقه أكثر مما ضيّقته الفصائل الأخرى. يستحق الأهالي هناك ألا يكونوا ضحايا تحليلاتنا قليلة الرأفة بهم، تحت زعم تحري ما هو استراتيجي، أو ما يصبّ في مصلحة تُرى أسمى من “صغائر” عيشهم. مع استبعاد هيئة تحرير الشام، يستحق الأهالي قليلاً من النظام الضروري لتنظيم شؤونهم وحفظ كراماتهم، وهو بالتأكيد غير النظام الذي تخرقه على هواها الفصائل المتحكمة، وغير ذلك الذي يتوعد به الجولاني أو ذلك الذي يتوارد إلى الأذهان كلما ذكّرتْ كلمة النظام بتنظيم الأسد.
“المدن”