قال المعلق البريطاني بيتر أوبورن، في مقال نشرته صحيفة “نيويورك تايمز” معلقا على التطورات السياسية في لندن بعد استقالة رئيسة الوزراء ليز تراس بأن بريطانيا “أصبحت مسخرة العالم، وليس هذا خطأ تراس وحدها”.
وقال: “حتى وقت قريب، كان حزب المحافظين قادرا على الزعم، وبقدر كبير من المصداقية، أنه أنجح حزب سياسي في العالم الغربي”. فحزب بنجامين دزرائيلي وونستون تشرتشل ومارغريت تاتشر، حكم بريطانيا لقرنين تقريبا.
وخلال تلك الفترة، ظل حزب المحافظين مقياسا للحس العام الجيد والرصانة المالية والبراغماتية الحذرة، وكان حساسا للأيديولوجية وقريبا من الأقاليم وبعيدا عن المدن الكبرى، إلا أنه كان سعيدا بكونه الحزب القوي في الوسط الممل.
ولم يعد الحزب كما كان؛ لأنه أصبح قرين الفوضى. وعلى ليز تراس رئيسة الوزراء الأخيرة التي انهارت واحترقت، تحمّل حصتها من المسؤولية. وهناك أسباب منطقية لإجبارها على التنحي بعد 44 يوما فقط من توليها الوزارة، وهي أقصر مدة في تاريخ بريطانيا.
فقد كانت فكرة عزلها أهمّ مسؤولٍ في حكومتها حمقاء، وأنها قادرة على إعادة تجديد الإدارة الاقتصادية وتحدي الحكمة الجمعية للأسواق المالية، وكانت هناك نتيجة واحدة لكل هذا. لكن الحقيقة الكبرى هي أن تراس العاجزة هي عرض، وليس السبب الرئيس لأزمة الحكم المزمنة في بريطانيا، والتي جعلت البلد المحترم عالميا “مسخرة العالم”.
ويقول الكاتب: “اختارها حزب المحافظين للزعامة مع أنها كما نعرف لم تكن مهيأة للوظيفة، ولم تكن بحاجة لنبوءات نوسترداموس لكي تعرف أنها ستفشل”. مضيفا: “على حزب المحافظين تحمل المسؤولية بشكل جماعي عن مهزلة رئاسة الحكومة والكارثة التي جلبتها على البلد”. وكتب الروائي أوسكار وايلد مرة: “أن تخسر واحدا من والديك قد تكون مصيبة. ولكن أن تخسرهما معا يبدو وكأنه إهمال”. وبالنسبة لحزب المحافظين، فرئيسا وزراء خلال ثلاثة أشهر، يعبّر عن شيء أكبر من الإهمال، بل إن الحزب بات خارج السيطرة. فالحكومة لديها رابع وزير مالية هذا العام، واحد منهم وهو كواسي كوارتينغ، سحق قيمة الجنيه ودمر سمعة بريطانيا في الإدارة المالية الجيدة.
وعلى غرار الحزب الجمهوري في الولايات المتحدة، أصبح المحافظون البريطانيون منفصمين عن الواقع. وفي جيل واحد، تحولوا إلى حزب الأيديولوجيين المجانين والعاجزين. ومثل السلالة الأصيلة التي خاضت سباقات كثيرة، فقد أصبحت بحاجة لأن تضع جذورا جديدة. وربما استطاع الحزب بعد عقد أو عقدين تجاوز المرحلة الحالية، وعلينا ألا نستبعد إمكانية نهايته للأبد.
ومع ذلك هناك مخرج، ففي أعقاب استقالة تراس، أعلن الحزب أنه سيعقد انتخابات أخرى للزعامة، وهي المرة الثانية في ثلاثة أشهر. وكما في العمليات التي توجت بوريس جونسون وتراس كرئيسي وزراء، فسيتم اختيار الزعيم الجديد من نواب الحزب وأعضائه. وحتى لو نتجت العملية عن نصف مرشح لديه الكفاءة للحكم، فلن يساعد هذا بدعم حظوظه، فالحزب ممزق ويعاني من الخلافات الداخلية والكراهية الشخصية والخلافات الأيديولوجية ولا أحد يستطيع السيطرة عليه.
وبريطانيا تمر بمرحلة خطيرة، وقد تواجه أكبر أزمة اقتصادية وسياسية وربما دستورية لم تمر عليها منذ الحرب العالمية الثانية. ومن السخف توقع أن يقوم حزب المحافظين الذي حكم لعقد وتسبب بالدمار سيعود ويحكم بطريقة عقلانية.
ولن تعقد انتخابات عامة إلا بعد عامين، ولكن بريطانيا بحاجة لها الآن. وعلينا أن نعترف بعدم توفر الجاذبية السياسية لزعيم حزب العمال المعارض كير ستارمر. ورغم عدم براعته، إلا أن لديه صفات القيادة العالمية، مثل جو بايدن في الولايات المتحدة، وأنتوني ألبانيز في أستراليا، فلديهما نبرة تطمئن حتى لو لم يحرقا العالم. ويبدو نوابه في الصفوف الأمامية أكثر كفاءة من نواب الفوضى لدى المحافظين. كما أنهم لا يعانون من ندوب الهزيمة أو يحاولون المساومة على فشلهم.
وهناك عدد متزايد من الناخبين المؤيدين للمحافظين، علاوة على بقية البلد لديهم استعداد لمنحهم الفرصة الآن. لكل هذا تعتبر انتخابات عامة، مصلحة وطنية. وربما كان تهورا من حزب المحافظين الذي تحدق به الهزيمة، أن يدعو لانتخابات كهذه، لكن أمجاد المحافظين التقليديين المعروفة عنهم أنهم طالموا قدموا مصلحة البلد على مصلحة الحزب.
وكان صاحب هذه العقيدة، هو وينستون تشرتشل، في واحد من آخر أعماله قبل أن يستقيل كرئيس للوزراء في عام 1955. وقال أمام الجماهير في منطقته الانتخابية: “الواجب الأول لعضو البرلمان، هو عمل عبر حكمه المخلص وغير الشخصي ما يعتقد أنه الصواب وضروري لشرف وأمن بريطانيا العظمى”.
ولكن حزب المحافظين اليوم وبالمقارنة، يتمسك بالسلطة من أجل السلطة. فإلى جانب إلحقاهم مزيدا من الضرر لسمعة حزبهم فإن عنادهم يضمن تدمير بريطانيا كلها.
“القدس العربي”