بدا شائعا أن يردد الدكتاتوريون العرب مفهوم المستبد التحديثي الضروري من أجل تحديث المجتمع المحافظ المتخلف، فقد نقل الكلام ذاته على لسان مبارك والقذافي والأسد وصدام وغيرهم بل وبعضهم تحدث عن ذلك علنا من مثل مبارك وبشار الأسد، لكن الطريف أن التصور ذاته يمتلكه شخص من مثل بوتين على اعتبار أنه وليد “الاتحاد السوفييتي” الأكثر تطورا لكن فهمه حول ضرورة المستبد التحديثي الضرورة تبدو في غاية الطرافة، إذا ينقل السفير مايكل ماكفول في مذكراته : “من الحرب الباردة إلى السلام البارد” ما قاله بوتين لأوباما فيما يتعلق بسوريا.
فقد حصل الاجتماع الأول بين الرئيسين أوباما وَبوتن في مدينة كابوس، في المكسيك، على هامش قمة غرينتش 20 في حزيران 2012. وَكانت سوريا الموضوع الرئيسي في أجندة هذا الاجتماع.
ذهب بوتين خطوةً أبعد من ذلك واضعاً كلاً من الأسد وَمبارك في فئة هؤلاء القادة الأوتوقراطيين الحداثيين
فقد خطا بوتين داخل غرفة الاجتماع متأخراَ خمساً وأربعين دقيقةً، مقدماً أعذاراً سخيفةً حول الازدحام المروري. وَتضمنت النقاط التي أراد أوباما مناقشتها عدة موضوعات مهمة تم تجهيزها للنقاش، وَكان من بينها الدفاع بالصواريخ الجوية المضادة، والحد من الأسلحة النووية، وَالتجارة وَالاستثمار. إلا أنَّ النقاش سرعان ما أفضى للحديث عن سوريا والربيع العربي بشكلٍ عام. من جانبه، شرح بوتين، بشيءٍ من التفصيل، نظريته حول ما كان يحدث في المنطقة. فبرأي بوتين، فإن الطريقة الوحيدة لعصرنة الثقافات التقليدية كثقافات الشرق الأوسط تكون من خلال القيام بها تدريجياً وَبدءاً من القمة. فنحن نحتاج إلى أن يتولى الأقوياء السلطة الذين بوسعهم قيادة مجتمعاتهم المحافظة ببطءٍ نحو المزيد من الانفتاح، المزيد من التسامح بين الجماعات العرقية وَالدينية، وَالمزيد من الحرية. كما ذهب بوتين خطوةً أبعد من ذلك واضعاً كلاً من الأسد وَمبارك في فئة هؤلاء القادة الأوتوقراطيين الحداثيين. وأضاف السفير ماكفول في مذكراته “كما أنه لم يستحسن الضغوط التي مارسناها لإزاحة رجلنا، مبارك، من السلطة، وَقال إنه لن يقبل بممارسة أي ضغوطاتٍ لإزاحة رجله، الأسد، من السلطة. لقد تملكني الإحساس وَأنا أصغي للرئيس الروسي بأنه يصف نفسه أيضاً. فبوتين كان يعتقد أنه يؤدي مهامه كقيصرٍ جيد وَإن كان يقوم بذلك بطريقةٍ أكثر حنكةً وَنجاحاً – فحسب رأيه فإنَّ الأوتوقراط الحداثي سيقود رعاياه نحو مستقبلٍ أفضل”.
أكد بوتين في الاجتماع على عدم امتلاكه أية علاقاتٍ أو صلاتٍ شخصيةٍ وثيقةٍ مع الأسد. مذكراً إيانا بأنَّ الديكتاتور السوري كان دائم التردد على باريس فيما جاء إلى موسكو مرةً واحدةً فقط. كما أنَّ الأسد قد قام بالدراسة في لندن، وَليس في موسكو، وَبذلك يكون رجلنا/ربيبنا نحن وَليس رجل بوتين. لكن، وَإن كان شخصياً لا يحب الأسد، إلا أنَّ بوتين قد رأى أنه الأمل الأكبر للحفاظ على وحدة البلد وَدفع سوريا في نهاية المطاف نحو الحداثة. فقد كان الأسد حليفاً لروسيا أيضاً.
وَمن ثم شرح بوتين النتائج التي سيسفر عنها السماح بسقوط هؤلاء القادة الأوتوقراطيين الحداثيين. وَبنبرةٍ ناعمةٍ وَهادئة، استخدم بوتين ألفاظاً قاسيةً وَمهينةً لوصف أخطائنا القصيرة النظر التي اشتملت عليها سياستنا في الشرق الأوسط. فبرأيه، فقد كنا ندعم إن لم نكن محرضين على تغير النظام في العالم العربي فقد كنا نشجع أصحاب المحال التجارية في تونس، والطلاب المصريين، والأطباء السورييين. ففي عالم بوتين، من المستحيل أن تتحرك الجماهير من تلقاء أنفسها. فهم ليسوا بأكثر من أدواتٍ، وسائل، أو أذرع روافع، تتلاعب بها الدولة. فأشار إلى المخابرات المركزية الأميركية CIA، عدوه اللدود منذ مرحلةٍ مبكرةٍ في حياته المهنية في KGB. لقد انتابني شعورٌ وَأنا أصغي لبوتين بأنه يعتقد أن الـ CIA وَ”المجمع الصناعي العسكري” هما صناع القرار الحقيقيون في نظامنا. فالمسؤولون المنتخبون كأوباما وَبوش يأتون وَيذهبون، لكن وزارات السلطة – وَالتي يطلق عليها البعض اسم “الدولة العميقة” ( deep state) – هي من يقوم بإدارة العرض في الكواليس. وَفي نهاية الأمر، فإن هذا ما كان يجري في النظام الروسي، في روسيا تحت حكم بوتين، بل إنَّ الرئيس نفسه كان من الاستخبارات السوفييتية KGB.
أرجع أوباما ظهره للوراء، وَشرح أنه لابد للولايات المتحدة الأميركية من تفجير الاحتجاجات في العالم العربي. فقد كنا نتجاوب مع ظروفٍ وَمجرياتٍ خلقها المواطنون في بلادهم. بيدَ أنَّ بوتين لم يصدقه. وَلدى استماعي لما قاله الرئيس الروسي يومها في لوس كابوس، راودتني التساؤلات حول كيف من الممكن أن يكون مستوى اطلاع الرئيس الروسي عن عملية صناعة قرارتنا المتعلقة بالشؤون الخارجية ضحلاً لهذه الدرجة. فالسفارة الروسية وَالاستخبارات الروسية تديران عمليةً واسعة النطاق في واشنطن. أفلا تقومان بنقل صورةٍ صحيحةٍ عن حقيقة ما يجري؟ فمن المؤكد أنهما قامتا بكتابة برقياتٍ شرحتا فيها كيف أنَّ المفاجأة قد تملكتنا لدى اندلاع الربيع العربي، وَكيف شعرنا بعدم الارتياح حيال الأحداث التي وقعت في المنطقة، وَبأننا لم نكن من أشعل فتيلها وَحركها.
لدى اختتام الرئيسين لنقاشهما المطول حول سوريا في ذلك اليوم، كنت متأكداً تماماً بأننا لن ننجح بالقيام بتحولٍ سياسيٍ في دمشق يكون فيه بوتين شريكاً لنا فيه
كما وَتملكني تساؤلٌ آخر حول إذا ما كان بوتين وَرفاقه في الاستخبارات الروسية KGBقد أصبحوا يعانون عبر تعاقب السنوات من عقدة نقصٍ تجاه المخابرات المركزية الأميركية CIA نظراً لانهيار بلدهم في حين لم يحصل ذلك لبلدنا. فلكي يتمكنوا من امتصاص وَتقبل هزيمتهم في الحرب الباردة، كان عليهم أن يقنعوا أنفسهم أنهم خسروا أمام عدوٍ جبارٍ مرعب، يمتلك قوىً خارقة وَموارد مكنته من التلاعب بالناس في الاتحاد السوفييتي خلال أواخر ثمانينيات القرن العشرين. وَهكذا فالروس يعتقدون أننا نقوم اليوم بالأمر ذاته في العالم العربي، وَنكرره مع روسيا أيضاً. فمن الصحيح أنَّ المخابرات المركزية الأميركية قويةٌ وَذات سلطة لكن ليس بالدرجة التي يظنها بوتين، إلا أنَّ أياً مما كان سيقوله أوباما يومها في لوس كابوس، أو مما كان سيقوله خلال السنوات القليلة اللاحقة ما كان بوسعه إقناع بوتين بعكس ما اعتقده.
وَلدى اختتام الرئيسين لنقاشهما المطول حول سوريا في ذلك اليوم، كنت متأكداً تماماً بأننا لن ننجح بالقيام بتحولٍ سياسيٍ في دمشق يكون فيه بوتين شريكاً لنا فيه. فثمة تباعدٌ كبيرٌ بين وجهات نظرنا وَفهمنا لما يحدث في سوريا. كما أنَّ أهدافنا في سوريا كانت متعاكسةً تماماً. فقد كنا نريد أن يتم سلك مسار المفاوضات لتحقيق انتقالٍ من الديكتاتورية على نحوٍ يضمن سلامة الدولة السورية، على أن تضم الحكومة الجديدة بعضاً من أفراد نظام الأسد، لكن ليس الأسد. على حين أرادوا بقاء الأسد في السلطة. وَ مهما بلغ عدد اجتماعات القمة المعقودة، أو عدد الاجتماعات أو إظهار الود لبوتين مستضيفاً إياه في منزلك الريفي، فلن يتمكن شيءٌ من هذا من حل هذا الخلاف الجوهري. لقد بدا جلياً لي أيضاً في نهاية هذا الاجتماع الطويل المشحون بالتوتر أننا كنا نتعامل مع متحدثٍ مختلفٍ تماماً في الكرملين الآن، شخصٍ يمتلك وجهات نظرٍ ثابتةٍ وَخاطئة حول العالم بشكلٍ عام وَحول الولايات المتحدة الأميركية على وجه الخصوص. مما كان سيجعل التعاون بين بلدينا أكثر صعوبةً، ليس فيما يتعلق بسوريا فحسب بل على جميع الصعد الأخرى.
“تلفزيون سوريا”