“نحن لا نثق بأميركا وأنتم تعرفون رأينا. إننا لا نثق بها ولا نعتمد عليها، ولا نقبل أن تكون أميركا تحت أي ظرف طرفا وحيدا في حل مشكلة”، بهذه العبارات خاطب الرئيس الفلسطيني محمود عباس نظيره الروسي، فلاديمير بوتين، عندما التقاه في العاصمة الكازاخية أواسط الشهر الجاري، مُجدداً ثقته في المقابل، بروسيا ورئيسها، داعياً لإحياء الرباعية الدولية بوصفها البديل المقبول، للتفرد الأميركي بالوساطة في عملية السلام، ورعايتها.
تصريحات الرئيس عباس، التي أثارت حنق الإدارة الأميركية وغضبها لجهة مضمونها غير المسبوق، وتوقيتها في ذروة التوتر في العلاقات بين موسكو وواشنطن، تعكس حالة اليأس والإحباط التي يعيشها النظام السياسي الفلسطيني الذي انعقدت رهاناته كاملةً، على خيار التفاوض ومسارات عملية السلام والوساطة الأميركية.. وهو خيار معطل منذ سنوات.
فالمفاوضات صارت عبثية بامتياز، وبلا أفق سياسي، في حين أن “حل الدولتين” مؤجل حتى إشعار آخر، والكلام منسوب للرئيس الأميركي، جو بايدن، عندما التقى عباس في بيت لحم في يوليو الماضي.
أن يكون الرئيس عباس محبطاً من الدور الأميركي في شق أفق سياسي جديد، فهذا أمرٌ محق ومفهوم تماماً، فالإدارة ذاتها ألمحت وصرحت غير مرة، بأنها ليست بصدد الانتقال إلى المسار السياسي وتقليب صفحات الحل النهائي للصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، وهي تفضل بدلاً عن ذلك، تثبيت مناخات الهدوء والتهدئة بين قطاع غزة وإسرائيل من جهة، وتسريع إجراءات بناء الثقة وتخفيف معاناة الفلسطينيين الإنسانية في الضفة الغربية من جهة أخرى، لا أكثر ولا أقل.
لكن طوفاناً من الأسئلة والتساؤلات، اجتاح الفلسطينيين وهم يتابعون فصول الجدل الذي أثارته تصريحات رئيسهم، ومنها على سبيل المثال، لا الحصر: ما الذي يرجوه الرئيس عباس من روسيا وبوتين؟…هل يعتقد حقاً أن بمقدور روسيا إحياء الرباعية الدولية، وتفعيل “رعايتها المشتركة” مع واشنطن لمسارات التفاوض، والدولتان في حالة حرب فعلية، انطلاقاً من أوكرانيا، وصولاً إلى مختلف ساحات الاشتباك وميادينه؟
هل تعكس تصريحات الرئيس الفلسطيني، انتقالاً من استراتيجية “المفاوضات حياة”، إلى ضفاف استراتيجية جديدة، وإن كان الأمر، فما هي ملامح هذه الاستراتيجية، وما هي فرصها وأدواتها وأبرز معالمها؟
عباس محق، في “شكواه” من انسداد الأفق السياسي، وانشغال واشنطن عن القضية الفلسطينية، قبل الأزمة الأوكرانية وبعدها.
عباس محق في مطالبته بإحياء الرباعية الدولية، فهي ثمرة قرار دولي، شاركت واشنطن في بلورته وإخراجه.
لكن عباس غير محق أبداً، في التعويل (إن كان يعوّل فعلاً) على روسيا في تلبية تطلعات وأحلامه، فروسيا اليوم، لا تجد من تُحادثه من أركان الرباعية الثلاثة الأخيرين: الولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة، فقنوات الحوار بين موسكو وكل من واشنطن وبروكسل، تكاد تكون مسدودة تماماً، أما علاقاتها بالأمم المتحدة، فلا أظن أنها كانت يوماً، أسوأ مما هي عليه اليوم، بدلالة آخر تصويت في الجمعية العامة على قرار الكرملين ضم المقاطعات الأوكرانية الأربعة إلى روسيا.
ما الذي يعوّل عليه عباس، ولماذا يظن أن لدى بوتين الوقت والاهتمام الكافيين للانشغال بدهاليز الصراع الفلسطيني وتداعياته؟
ردود أفعال مختلفة
حالة اليأس من جدوى وجدية وفرص المسار السياسي للحل الفلسطيني، لا تقتصر على عباس والسلطة والمنظمة، فهي ممتدة إلى مختلف فصائل العمل الوطني والإسلامي الفلسطينية، والأهم، أنها باتت لسان حال غالبية متعاظمة من الشعب الفلسطيني، تشاطرها الموقف ذاته، معظم إن لم نقل جميع، عواصم القرار ذات الصلة في الإقليم والعالم.
لكن ردود أفعال الفلسطينيين على حالة الانسداد، تبدو مختلفة تماماً، فحركة فتح تعيش حالة من التيه، بين رهان بائس على مسارات التفاوض والعمل الدبلوماسي، وحصاد متواضع لحصيلة ثلاثة عقود في السلطة، في الوقت الذي لا يسمح فيه، جيل القيادات المهيمنة على الحركة، بشق طريق جديد أمام الحركة المركزية للشعب الفلسطيني.
ومثل هذه الوضعية، فضلاً عن صراعات النفوذ بين أجنحتها وقياداتها، تلحق أفدح الضرر بمكانة تنظيم ظل يعتبر “العمود الفقري” للحركة الوطنية الفلسطينية.
في المقابل، تجد حماس نفسها، وهي المنخرطة في “صراع صفري” مع فتح، في وضع مريح نسبياً، فإخفاقات الأخيرة تصب القمح صافياً في طاحونتها، وهي مطمئنة لبقاء سلطتها وديمومتها، سلطة الأمر الواقع في القطاع، طالما أنها تنهض شاهداً على “تأبيد” الانقسام، والانقسام مصلحة إسرائيلية عليا، بالرغم من كونه خسارة فلسطينية استراتيجية صافية.
وهي تعمل ميدانياً على تثبيت التهدئة في غزة، فالتهدئة تصبح يوماً إثر آخر، شرط استدامة نظام حماس، ولا تمانع في العمل على “تثوير” الضفة، فهذا ينسجم مع خطها “المُقاوم”، وتداعيات هذا التكتيك، تتحملها فتح وسلطة رام الله، وليس الحركة الإسلامية.
وفي جميع الظروف، تجهد الحركة في تقديم نفسها كطرف “مسؤول”، يمكن للمجتمع الدولي والحكومات العربية التعامل معه، بدرجة أعلى من الثقة، وتُجري بروفات متكررة، للتأهل للقيام بدور البديل لفتح، أو الشريك الرئيس في أي مشروع لتسوية فلسطينية داخلية.
الفصائل الأخرى تدرك أن حجمها المتواضع، لا يؤهلها لقيادة المرحلة، أو المزاحمة على قيادتها، بعضها صار بائداً، وموجود في صور الاجتماعات الفصائلية فقط، وليس على الأرض.
وحدها الجهاد الإسلامي تتوفر على قدرات قتالية عالية نسبياً، إلا أن معركة “توحيد الساحات” الأخيرة، أظهرت لها، أن ثمة حدوداً قهرية لقوتها المنفردة، وأنها من دون مظلة حماس، لا تستطيع أن تتخذ قرار “الحرب والسلام” دون مجازفة بتقديم أفدح الخسائر في صفوفها.
في مثل هذه الخريطة المعقدة، للمصالح والتوجهات الفصائلية الفلسطينية، يتحرك جيل جديد من الفلسطينيين بطريقة شبه مستقلة عن النظام الفلسطيني، سلطة وفصائل، وثمة ظواهر نشأت مؤخراً في شمال الضفة الغربية ومحيط القدس ونابلس، تشي بدخول الصراع الفلسطيني مرحلة جديدة من التصعيد.
تشكيلات شبه عسكرية، تضم عناصر من فتح وحماس والجهاد وفصائل أخرى، ومستقلين بلا خلفية حزبية، تتجمع محلياً لمواجهة الاقتحامات وحملات الاعتقال وتهديم المنازل التي تمارسها سلطات الاحتلال في مدن الضفة المستباحة، وفي مواجهة تفلت ميليشيات استيطانية عقائدية متطرفة.
وما يميز هذه التشكيلات الآخذة في الاتساع واكتساب “الشرعية الشعبية” أنها تعمل بديناميات شبه مستقلة عن فصائلها، وتتخطى في بنيتها التنظيمية وشبه العسكرية، حدود الفصائل وانقساماتها.
لا يمكن القول إنها حركة منظمة، تقودها الفصائل من فوق، ولا يمكن إنكار أن وقودها وفرسانها، فبعضهم أو معظمهم، أعضاء في تنظيمات معروفة، لكن من الخطأ التقليل من أدوار شبان، ليست لهم تجربة فصائلية من قبل، وتحركهم طاقة الغضب التي تتفاعل في صدورهم، جراء الانتهاكات الإسرائيلية المتمادية من جهة، وعجز السلطة وانقساماتها من جهة ثانية.
ومن الخطأ كذلك التقليل من هامش الاستقلالية النسبية التي تتمتع بها هذه التشكيلات عن السلطة والفصائل.
إعلان الجزائر
في لحظة شديدة الإرباك كتلك التي يعيشها المستوى السياسي الفلسطيني، وتتميز بـ”التيه” وفقدان البوصلة والإجماع، جاءت المبادرة الجزائرية لإنهاء الانقسام وتوحيد الصف.
وبمبادرة أرادت أن تتوج الجزائر بها، رئاستها للقمة التي ستستضيفها الشهر المقبل، وزادت حاجتها إليها، بعد فشل مسعاها في إعادة دمشق إلى الجامعة العربية، جراء الفيتو السعودي – القطري، وتردد مؤيدي عودة سوريا للجامعة.
ولقد كان واضحاً منذ البداية، أن ممثلي 14 فصيلاً فلسطينياً تقاطروا للقاهرة، إنما فعلوا ذلك استرضاء للجزائر ومجاملة لرئيسها عبد المجيد تبون، فقد ذهبوا، وهم يدركون أن لا مصالحة في الأفق، وأن المطلوب استصدار إعلان ختامي بتواقيع الجميع، وصور تذكارية تلتقطها العدسات للجمع وقد رفعوا قبضاتها المتشابكة، ورسموا بأياديهم علامات النصر، لا أكثر ولا أقل.
ورغم أن إعلان الجزائر، نص على حرص الجميع على إنهاء الانقسام، وتفعيل المنظمة بعد ضم “الكل الفلسطيني” إلى صفوفها، وإجراء انتخابات رئاسية وتشريعية في الضفة والقدس والقطاع، وانتخاب مجلس وطني جديد للمنظمة حيثما أمكن، وتفعيل آلية “الأمناء العامين” للفصائل، إلا أن المجتمعين في الجزائر أخفقوا في التوافق على إنشاء حكومة وحدة وطنية، من المفترض أن يناط بها أمر ترتيب الانتخابات والتحضير لها والإشراف عليها.
كما أن الصيغة التي صدر بها البيان، لا تدفع على الاعتقاد بأن انتخابات تشريعية ورئاسية ستجري في غضون سنة، طالما أن “عقدة القدس” لم تحل بعد.
وأما “آلية الأمناء العامين”، فهي صيغة مختزلة لـ”الإطار القيادي الموحد” لمنظمة التحرير الذي أقرته الفصائل بالإجماع في القاهرة قبل خمس سنوات، ولم ير النور من يومها.
ليس في إعلان الجزائر جديد يذكر، يتجاوز وثائق الوحدة والمصالحة التي صدرت في القاهرة والدوحة، وقبلها مكة، وبعدها في غزة، أو حتى في وثيقة الأسرى، فالمضامين ذاتها والنوايا ذاتها، تتكرر في كل مرة ويُعاد إنتاجها.
ولكن ما في النصوص لا يعكس ما في النفوس، والمصالح التي نمت على جذع الانقسام، أكبر بكثير، من أن تختصرها مبادرة أو يبددها إعلان.
إعلان الجزائر كان مطلوباً لذاته، ولإرضاء الجزائر، وكسب ودّها، فلا فتح التي تحتفظ بعلاقة تاريخية معها، بوارد المقامرة بها، وحماس في المقابل تريد توسيع شبكة علاقاتها العربية والإقليمية، وهي غير مستعدة للمغامرة بهذا المكسب.
وفي هذا السياق، ولِدَ الإعلان، ولهذا السبب، فقد قيمته ما أن غادرت الوفود الفلسطينية العاصمة الجزائرية.
وبعد؛
ليس في الأفق الفلسطيني، ما يشير إلى مخارج استراتيجية من حالة الانحباس والمراوحة التي يعيشها المشهد الفلسطيني في بعديه الداخلي والخارجي.
ليس ثمة ما يدعو للتفاؤل بقرب إنهاء الانقسام وترتيب البيت الفلسطيني، وليس ثمة ما يشير إلى تبدل استراتيجي في مواقف وسياسات السلطة والمنظمة وفتح، على الأقل، طالما بقي الرئيس عباس ممسكاً برئاساتها الثلاث.
كما أنه من المستبعد أن تنجح حماس في مسعاها لتعويم نفسها، والخروج من شرنقة القطاع، اللهم إلا إذا طرأ جديد ناشئ عن أزمة الطاقة، يفضي إلى بحث جديد في مستقبل “غاز غزة”، ويوجب استدعاء آموس هوكشتين بدلاً عن هادي عمرو أو إلى جانبه.
لكن المؤكد، أن الوضع الميداني في الضفة الغربية، ينذر باحتدام المواجهة بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وربما سنشهد بعد الانتخابات الإسرائيلية مطلع نوفمبر القادم، جولات أكثر دموية من هذه المواجهة، وبصورة تنذر بانقلاب الموازين، بدءاً بموقع السلطة الفلسطينية ومكانتها ومستقبلها، سيما وأن أغلب الترجيحات، تشير إلى أن اليمين الإسرائيلي الديني والقومي، سيعزز مكاسبه في الكنسيت القادم.
“الحرة”