لا شك في أن الملحمة أول جنس شعري وصل إلينا مدونا عن مرحلة هي متأخرة بالنسبة إلى الزمن، الذي فيه عُرفت الحكاية الخرافية التي كانت تُحكى، وفق ترتيب معين ومنه اشتقت الأنواع الحكائية والشعرية والأغاني والمأثورات القولية والحكايات الشعبية والأناشيد والتراتيل، وأغلبها ذات طابع ديني، وتأثرها يتضح في ملحمة جلجامش التي أثرت بدورها في الإغريق والرومان.
وكان الباحث والآثاري العراقي طه باقر، قد ذهب إلى أن للأدب في وادي الرافدين، أو أدب العراق القديم ميزتين ليستا في غيره من الآداب القديمة: الميزة الأولى، أنه موغل في القدم وسبق جميع الآداب العالمية، سواء أكان ذلك من ناحية الأساليب وطرق التعبير، أم من ناحية الموضوع والمحتوى، أم من ناحية الأخيلة والصور الفنية.
والميزة الثانية انه وصل إلينا على هيئته الأصلية غير محور، أي كما كتب ودوِّن بأنامل الكتبة السومريين والبابليين قبل 4000 عام، على عكس الآداب العالمية القديمة، التي عانت من التحوير والتبديل والإضافة، على أيدي النساخ والجماعين والشراح.
وعلى الرغم من تطور أساليب البحث ومناهج الدراسة الغربية منذ عصر النهضة الأدبية حتى اليوم، فإن الاعتقاد ما زال ساريا بأن العرب عرفوا الحكاية الخرافية بعد تعريب ألف ليلة وليلة إليهم. وقد أكد ديرلاين هذا الاعتقاد في قوله: (فإذا ما عثر الإنسان لدى العرب على حكايات خرافية شبيهة بما عند الألمان، فلا بد لكي نفسر ذلك من الرجوع إلى أصل حكايات ألف ليلة وليلة، أي إلى أصلها الهندي كما ادعى شليجل بحق) وكأن أوروبا ليست هي من أقامت على آداب العرب آدابها الحديثة، بل إن كثيرا من المستشرقين لا يذكرون العرب إلا في تشكلهم الإسلامي، فيذكرون الحضارات الصينية واليابانية والهندية ثم يذكرون الحضارة الإسلامية؛ فهذا صاحب كتاب «صدام الحضارات» يقول:( يقر جميع الباحثين الرئيسين بوجود حضارة إسلامية متميزة بعد أن نشأ الإسلام في شبه الجزيرة العربية في القرن السابع الميلادي.. ثقافات متميزة وحضارات فرعية كثيرة توجد داخل الإسلام تضم العربية والتركية والفارسية). هذا القول لا يخطِّئه التباعد التاريخي بين العرب والألمان حسب، بل يكذبه أيضا ما كان للأكديين من تأثير في الأقوام العربية التي هاجرت شمال الجزيرة العربية، وهو زمن بعيد جدا عن عصر ترجمة ألف ليلة وليلة، وقبله بزمن كانت قد نمت عند العرب فنون أدبية شعرية وسردية اتخذت قاعدتها من الحكاية الخرافية. إن أهمية معاودة دراسة الحكاية الخرافية يؤكدها هذا التطور في النظرية الأدبية عامة، ونظريات السرد ما بعد الكلاسيكي، خاصة التي أولت في الآونة الأخيرة اهتماما بالسرديات ما بعد الحداثية، التي استعادت بدورها المنحى اللاواقعي في السرد، واهتمت بالجذر الأساس الذي منه انطلق السرد، وتشكلت قوالب الأجناس السردية ألا وهو الحكاية الخرافية، حيث طفولة الشعوب والآلهة والأبطال الخرافيين من البشر والحيوان.
ومن يعد إلى أدب وادي الرافدين، فسيجد أنهم كانوا يذكرون في آدابهم ماضيا بعيدا مجيدا يتغنون به ويبكون عليه، لأنه كان عصرا ذهبيا. ومن هنا تطور الشعر عندهم كنتيجة لتطور فن الرثاء وترانيم المراثي، التي فيها تقبع حكايات هي الأساس لكثير من القطع النثرية التي اتخذت شكل الرسائل وأعمال الملوك والأخبار التاريخية ومجموعة كبرى تتضمن التراتيل والأغاني الدينية والصلوات والأدعية المخصصة للآلهة المختلفة في الأعياد الدينية. وما من عادة من عادات أهل وادي الرافدين، إلا هي متخيلة ومحكية عن أناس منهم تشكلت هذه الشعوب كرعاة أو صيادين أو مزارعين.
إن التغافل عن التاريخ الرافديني الذي تنتمي إليه الحكاية الخرافية هو في الحقيقة تغافل عن فهم ميكانيزما البشر في التفكير ودور الفكر البشري الأول في التأسيس للحضارات وبناء الدساتير ونشأة الآداب. وليس من قصدية وراء هذا التغافل سوى قصدية تغييب الموطن الأصلي للحكايات الخرافية الذي هو بلاد سومر. وتحديد هذه الميكانيزما الفكرية وربطها بموطن معرفتها الأول يعني وضع أساس صحيح لبناء نظرية أدبية جديدة تذهب بعيدا عن الحكايات الإغريقية والبوذية والهندية والبيزنطية والأوروبية، وتقترب كثيرا من الشرق الأوسط وبلاد وادي الرافدين عامة ومن بعدهم العرب خاصة. ولعل في هذه القرابة ما بين الخرافة والأسطورة والملحمة، توكيدا لحقيقة أن الحكاية الخرافية هي القاعدة الأساس لأي عمل فيه للخيال دور، ومتولد بالفطرة وبطريقة إبداعية واعية، أو ارتجالية، وحسبما يتوفر للإنسان من طاقة في تصوير قوى الطبيعة المليئة بالأسرار وتمثيل طبائع البشر في إدراك الكون من حولهم، ومن ثم لا نظرية أدبية دون مركزة الحكاية الخرافية، كنقطة منها تفرعت الأنواع الأدبية الأخرى فضلا عما أسست عليه المجتمعات نظمها الحياتية ووضعت قوانينها مخطوطة على الرقم الطينية، بدءا من السومريين قبل سبعة آلاف سنة، مرورا بالأساطير والفابولا (الحكاية على لسان الحيوان) ووصولا إلى قصص بوكاشيو وحكايات سترابارولا.
وميزة الرموز أنها قابلة للتناقل عبر الأجيال وتستمد من تناقلها الجيلي هذا مزيدا من الرسوخ كما تكون قابلة للتوالد والتطور. وما نظرية كارل يونغ حول اللاوعي الجمعي والانتقال الجينالوجي للثقافة سوى مثال من أمثلة علمية كثيرة يمكن بها تدعيم عملية التناقل الجيلي للشعوب عبر التاريخ.
ومهما يكن من نظريات تدعي أن الحكايات الخرافية أصلها هندي أو بوذي، فإن الكشوفات الآثارية تبطل مثل هذه الدعاوى وتؤكد أن النظرية الأدبية ينبغي أن تبدأ من الأصل الذي هو الحكاية الخرافية في بلاد الرافدين، التي امتلكت إرثا سرديا منها. وهو على قلته يؤكد أنها كانت القاعدة لكل أشكال الكتابة الأدبية وغير الأدبية التي عرفها الإنسان لاحقا، لاسيما موضوع الحياة والموت الذي تغلغل في كثير من قصص العرب الطريفة عن أخبار المعمرين كقصة لقمان الحكيم، الذي عاش أعمار سبعة نسور كان آخرها لبد.
إن بغيتنا من إرجاع الحكاية الخرافية إلى شكلها الأصلي، هو الإضافة إلى علم السرد غير الكلاسيكي وتعضيد جهود منظريه في مساعيهم نحو تقعيد أساسات السرد بأجناسه وعناصره، وفق محددات محورها هو العناصر الخرافية أي اللا طبيعية، أو غير الواقعية التي هي ميراث فني من مواريث الحكاية الخرافية الضاربة جذورها في القدم. وعلى الرغم من ذاك القدم، فإن المؤكد، أن الإنسان كان يفكر ويتأمل ما هو أقوى منه، مستجيبا لما كان فكره يصوره له أو يتخيله، غير مفرق بين ما هو ممكن ولا ممكن، حقيقي وسحري، أدبي وغير أدبي. ومن هنا كانت حياته قائمة على الرموز التي استقاها من أساطير تخيلها، وعليها بنى عقائده فأسس الحضارات وشيد الدساتير والأحكام.
وميزة الرموز أنها قابلة للتناقل عبر الأجيال وتستمد من تناقلها الجيلي هذا مزيدا من الرسوخ كما تكون قابلة للتوالد والتطور. وما نظرية كارل يونغ حول اللاوعي الجمعي والانتقال الجينالوجي للثقافة سوى مثال من أمثلة علمية كثيرة يمكن بها تدعيم عملية التناقل الجيلي للشعوب عبر التاريخ. وقد تتشابه الرموز بين بعض الشعوب، لكن يظل لكل شعب خصوصيته في تناقل الرموز، فالأصل الذي هو الحكاية الخرافية يظل خاصا بكل شعب وما عنده من طقوس دينية وشعائر حياتية. وما البعدية الكلاسيكية في نظرية السرد غير الطبيعي سوى استعادتها للسرد في أزمان سحيقة، لم تكن النظريات الأدبية الكلاسيكية قد أولتها اهتماما، على أساس أن تلك الأزمان بدائية قديمة، ولم يكن للأدب أي تشكل صوري يصلح للدراسة مع أن في معتقدات الشعوب صورا مختلفة اتخذت من أشكال الحيوانات والطبيعة الصامتة موضوعا أدبيا لها. وما زالت هذه التصورات تعيش في عقائد هذه الشعوب المعاصرة الروحية والجغرافية وبشكل تلقائي. والأساس الذي ننطلق منه في دراسة الحكاية الخرافية هو التنظير لها كسردية غير واقعية، هي ناتج أدبي من نواتج تفكير الإنسان في زمن لم تصل إليه أي نظرية من نظريات السرد البنيوية وما بعد البنيوية، ناهيك من حقيقة أن صراع العالم الجديد اليوم هو صراع ثقافات والتراث الكلاسيكي للعرب، لاسيما في ما قبل الجاهلية، ما زال مدفونا أو مجهولا، أو بالأحرى هو موجود لكنه خام لم تصل إليه أيدي الباحثين العرب بعد، مثلما لم تصل أيديهم إلى حقيقة ما نُقل من إرث العرب الأدبي إلى أوروبا عن طريق الأندلس. وهو ما يؤكد أهمية الثقافة كطريق لبناء واقع جديد تتعدد فيه الأقطاب وتتفكك اشتباكات مفاهيمه، فالحضارة والثقافة متلازمتان في تشكيل أسلوب حياتنا وحياة الشعوب من حولنا.
كاتبة عراقية
“القدس العربي”