الخيال ليس قرارا نتخذه عن وعي، لكن يمكن أحيانا أن يحدث القرار، خاصة حين يكون الشخص رهين محبس سخيف أو دامٍ. من المحابس السخيفة التي قابلتها في عملي أيام الشباب، مسؤولون يدعوننا إلى اجتماع مهم، أدخله فأجد هراء الكلام، فاقرر الخيال مع أفلام مارلين مونرو أو بريجيت باردو حتى ينتهي الاجتماع، وأخرج سعيدا جدا.
هناك محابس بشعة مثل السجون يكون الخيال هو منقذ السجين في الليل والنهار. يكون الأمل أن يستمر معه إذا طال الحبس ولا يأتي يوم يقول له «يكفي هذا تعبتني. كل يوم أحملك بعيدا عن هنا لكنك تعود. أنا لست محبوسا معك».
حدث يوم الجمعة السابق الحادي عشر من هذا الشهر، أن كانت هناك دعوة للتظاهر في البلاد، وبعيدا عن رأيي الذي قلته مسبقا، أن الدعوة لن تنجح والأسباب التي أبديتها، فوجئت يوم الجمعة أن شوارع وسط القاهرة خالية، والكباري لا يمر عليها أحد والفضاء يعم البلاد. توقعت عدم التظاهر لكن لم أتوقع هذا الغياب، رغم أني في البيت، لكنني شعرت بأن اليوم سيكون بلا نهاية. الدنيا خارج البيت صارت حولي مثل متاهة. لكن أظهرت الصور العمارات القديمة المبنية على الطراز الأوروبي، أو ما يسمي بالقاهرة الخديوية، في حالة من الجمال الذي تفتقده دائما، لأنك إذا ذهبت إلى هناك بالنهار، تكون مشكلتك مع الزحام، وكيف تمشي سليما بين الناس على قدميك أو بسيارتك، كما أنهم بالليل الآن يطفئون المصابيح من باب توفير الكهرباء للدولة الحلوة فلا ترى شيئا! في كل الأحوال لا ترفع وجهك إلى أعلى. طبعا لم أكن ممن ينوون النزول من البيت للسبب الذي قلته، وللسبب الصحي، فعالمي هو ما أقرأ وما أكتب فقط، لكنني حين رأيت الشوارع خالية، وظهرت المباني الأوروبية الجميلة، أسعدني المشهد وابتعد الخوف عن طول اليوم.
تاقت نفسي إلى أربعين سنة سابقة وأكثر، بعد أن عشت في القاهرة، وكان الليل رفيقي، أو أنا رفيقه دائما في وسط البلد، وفي مناطق العتبة والحسين والسيدة زينب ومصر الجديدة. كيف في منطقة الحسين كنا نمشي نتأمل العمارة الإسلامية القديمة. كيف كنا نسهر في منطقة العتبة في مقهى متاتيتا، أو نشاهد مسرحية في المسرح القومي، ونظل في شوارع وسط البلد أو منطقة الحسين حتى الصباح، نصل إلى بيتنا مع أول ندى الفجر. لن أتحدث عن الجمال الضائع فهو كثير كتبته في رواياتي، لكن فجأة أغراني فراغ الشوارع بترك البيت. قلت للخيال أن يحملني وكان طيبا جدا. حملني إلى وسط البلد الخالي فقابلت شخصا أعرف أنه توفي، ولما سألته لماذا خرجت من المقبرة؟ قال لي: عرفت أن الدنيا فاضية فقلت أتمشى شوية والبوليس لن يراني! نشرت هذه التغريدة على تويتر ضاحكا، وقلت لمن يريد أن يكتب قصة أن يكتبها، وطبعا سبق أن كتبت مثلها في رواية «السايكلوب» لكنني طلبت ممن يحب أن يكتبها أن يجعل الميت العائد يحكي له عن العالم الآخر الذي لا نعرفه، فأنا متوقف عن كتابة القصص الآن، أصابتني قفلة الكاتب منذ أكثر من عام، والحمد لله لم تصل إلى المقالات. هذا العالم الآخر الذي قال عنه هاملت في مسرحيته لو أن أحدا عاد إلينا من هناك، لانتهت ألغاز كثيرة في الحياة. هذا الميت العائد الذي تخيلته حمل روحي إلى كثير من الأحباء الراحلين، فقررت أن أذهب إليهم في مقاهي وسط البلد وأنا جالس.
ما أعظم الحركة بلا تكلفة مادية، بعد أن ارتفعت أسعار البنزين والتذاكر في مصر. لماذا تاقت روحي للراحلين؟ لا أعرف. ربما هو العمر. ثم ضحكت فليس معنى أني تخيلت ميتا عائدا سيعود كل الموتى. رغم ذلك لن يخذلني الخيال وسيحملني إلى هناك.
ما أعظم الحركة بلا تكلفة مادية، بعد أن ارتفعت أسعار البنزين والتذاكر في مصر. لماذا تاقت روحي للراحلين؟ لا أعرف. ربما هو العمر. ثم ضحكت فليس معنى أني تخيلت ميتا عائدا سيعود كل الموتى. رغم ذلك لن يخذلني الخيال وسيحملني إلى هناك. أليس المبدعون خالدين بأعمالهم؟ سأتذكر أعمالهم فتُحضرهم إليّ. سأتذكر قصيدة «أغنية الكعكة الحجرية» لأمل دنقل فأجده في ميدان التحرير، رغم أن الميدان خالٍ. سنذهب إلى «مقهى ريش» فيقابلنا نجيب سرور ويسمعنا شيئا من «الأميات» فهو يعرف ما يقول ومتى يقوله. لكني وجدت «مقهى ريش» مغلقا وكذلك «مقهى البستان». كيف لم أدرك ذلك. ضحكت وفكرت في العودة أنا الجالس في البيت. كل ما سأمر عليه سأجده مغلقا. أريد أن أضحك أنا الذي صرت أعيش في زمن عزّ فيه الضحك. أجل. لا أجد نكتا بين الناس على السوشيال ميديا. أنا من الجيل الذي كانت النكت تساعده على تحمل الحياة السياسة. مشيت ولم أتوقف. سأعيد التأمل القديم للعمارات الجميلة أوروبية الطراز التي تسافر معي كلما سافرت إلى باريس! ومن يدري ربما إذا ظللت أمشي بينها تأخذني هي نفسها إلى باريس أو إيطاليا، فأقابل اصدقائي هناك. يمكن للخيال أن يقطع بي الأميال من الأرض والبحار ليصل بي إلى ما أرى صورا له هنا.
مشيت فقابلت كمينا من الجنود أعادوني إلى عصر إسماعيل باني هذه العمارات. قلت هؤلاء هم القواسون سيأخذون الحمار الذي أركبه! لكنهم تركوني أعبر بلا سؤال. الدنيا تقدمت في مصر يا إبراهيم! لعلهم قالوا هذا مجنون لينزل في هذا اليوم. لا يعرفون محبتي للفضاء. كانت محبتي لفضاء الإسكندرية قبل أن تتحول إلى سوق لا تعرف من فيه يشتري ومن فيه يبيع، هي سبب كرهي للقاهرة نهارا، حين وفدت إليها في منتصف سبعينيات القرن الماضي، فحرصت على العمل ليلا والسهر. فضاء الإسكندرية القديم جعلني أسهر ليل القاهرة وأنام فيها بالنهار.
وصلت إلى شارع عماد الدين فوجدته طويلا من الناحيتين لا ينتهي. قلت للخيال تمهل ولا تأخذني بعيدا حتى انتهي من المشي الجميل وحدي في الفضاء، لكن العمارات الجميلة على الجانبين ظهرت في طوابقها الأخيرة عيون تبكي. ثم تقاربت العمارات برؤوسها تتحدث هامسة خائفة أن يسمعها أحد تسأل كل منها الأخرى، كيف مرّ علينا كل هذا الزمن ولم يحدث جديد في البلاد؟ وكيف حين يحدث جديد يختفي البشر ولم تقم حرب بعد؟ وهل لن يعود المارة رغم أنهم كانوا يقلقونا؟ حتى سكاننا اليوم لا نسمع أصواتهم. أين ذهبت الحكايات التي كانت تمشي تحتنا؟ أولئك الذين بنونا من ضرائب الشعب نصبونا واقفين، كل من يمر يتفرج علينا وعشنا راضين. أحفادهم وضعوا فينا التكييفات الهوائية القبيحة، رغم أن جدراننا تجعل الصيف رطبا والشتاء دافئا. شوهونا ولا أحد ينقذنا منهم، ثم جاء اليوم الذي غابوا فيه أيضا.
تخيلتُ العمارات الأخرى تسمع ولا تعلق. هل ترى أكمنة للشرطة تحتها؟ أنا لم أرَ أي كمين آخر. هل صرت أعمى والجماد يرى؟ أسرعت تاركا الشارع والعمارات المائلة. فلأذهب إلى مصر الجديدة أجلس في «مقهى أمفتريون» مع أصدقائي الشباب. لو وجدته مغلقا وتكون فرصة أن أتطلع إلى العمارات القديمة أيضا، وأمشي تحت بواكيها تذكرني بشارع الريفولي في فرنسا. سأمشي حتى أصل إلى «كافيه سارة برنار» سأجد كل مقاهي باريس مفتوحة اليوم. مصر لم تحتل فرنسا بعد. سأرى المرحوم الفنان جودة خليفة يضحك داخل «كافتيريا الأمفتريون» أو خارجها إذا كانت مغلقة. ما أن يراني حتى يهتف «الاستقلال التام أو الموت الزؤام» سيهتف قبل أن يشرب البيرة اليوم في أي مكان. عدت إلى عقلي فهذا خيالي الذي ساعدني على الانتهاء من هذا اليوم الفارغ من البشر. لقد أقبل الليل ولا جديد.
نمت ضاحكا في نيتي أن أذهب في الصباح إلى عمارات شارع عماد الدين أزيحها عن بعضها لتعود إلى وضعها. دعوت الله أن يعطيني القوة لأفعل ذلك فأكون بطل الزمان الذي أظهره فراغ الشوارع والبلاد من البشر.
روائي مصري
“القدس العربي”