في يوم 18 نوفمبر/ تشرين الثاني 1922 فقدت الساحة الأدبية الفرنسية الروائي والناقد الشهير مارسيل بروست عن عمر يناهز 51 سنة. لم يكن مارسيل في أي حال من الأحوال كاتبا عاديا، فقد انفرد عن أبناء عصره باختياره الرواية الطويلة. فبينما اختارت مواطنته آني إرنو الفائزة بجائزة نوبل للآداب هذه السنة كتابة الرواية القصيرة حيث لا يتجاوز جل أعمالها المئة صفحة، وبعضها لا يفوق 45 صفحة، ها هو مارسيل بروست يخلف لنا أطول رواية في تاريخ البشرية ـ رواية «البحث عن الزمن المفقود» مؤلفة من 1.267.069 كلمة. فمن يكون مارسيل بروست؟ وهل روايته هذه حقا أطول رواية في عالمنا من غير منازع؟ وكيف ينظر عالمنا إلى مثل هذه الأعمال الضخمة في عصر مواقع التواصل ومنصات الترفيه والسرعة؟
من يكون مارسيل بروست
وُلِد مارسيل بروست في منطقة أوتويل في ضواحي العاصمة الفرنسية باريس في 10 يوليو/تموز 1871. كان والده الدكتور أدريان بروست، طبيبا مختصا في علم الأوبئة، من أصل كاثوليكي فرنسي. وكانت والدته جين ويل، ابنة سمسار بورصة كبير، من أصول يهودية. عانى مارسيل منذ حداثة سنه من مرض الربو، حيث تعرض لنوبات مؤلمة خطيرة، لكنّ ذلك لم يكن حجر عثرة في طريق نجاحه وتفوقه. ورغم معاناته من ضيق في التنفس إلاَّ أنه كان يملك نفسا طويلا في حقل الكتابة تُرجم بتأليف أطول رواية في الدنيا. وعلى الرغم من تدهور حالته الصحية، تمكن من أداء واجب الخدمة العسكرية في منطقة أورليان لمدة سنة (1889-90). كما درس القانون والعلوم السياسية.
نبذ المجتمع الأرستقراطي
كان من مبادئ مارسيل بروست تجنب القضايا السياسية، وهو من أمضى سنوات من عمره بمنأى عن العالم، عاكفا على كتابة روايته. امتنع عن السياسة، ولم يتدخل فيها طيلة حياته، إذا ما استثنينا تورطه في قضية ضابط الجيش اليهودي الكابتن الفريد دريفوس، عندما أوقف وزُجّ به في السجن من غير حق في جزيرة الشيطان 1897-1899، بتهمة التجسس. عندئذ تعالى صوت مارسيل بروست داعيا إلى إطلاق سراحه. استمات الكاتب في الدفاع عنه، متحديا كل المصاعب والأخطار، حيث ساهم في إعداد العرائض المنددة بالاعتقال الظالم والمطالبة بإحلال العدل وإخلاء سبيله. ولم يتردد مارسيل بروست في تقديم المساعدة لأبوري محامي دريفوس. وقد ساهمت هذه التجربة الطويلة الشائكة في شعوره بخيبة الأمل وفقدان الثقة بالمجتمع الأرستقراطي الفرنسي. تتجلى تأثيرات هذه التجربة المريرة ونبذ النظام الأرستقراطي بشكل كبير في كتابه الشهير «بحثا عن الزمن المفقود».
البحث عن الزمن المفقود
يتفق كثيرون على أنّ رواية «البحث عن الزمن المفقود» أعظم تحفة في سجل الأدب الفرنسي في القرن العشرين. إنها التحفة التي تطلب تصميمها سنوات من التفكير والجهد الدؤوب. ففي شهر يوليو 1909، انعزل الكاتب عن العالم وعكف على الكتابة. ولم يفرغ من تأليف المسودة الأولى إلا في شهر سبتمبر/أيلول 1912. لم يُكتب لهذا المجلد النجاح في بداية الأمر، إذ أنه لم يلق استحسان الناشرين. وبعد محاولات متعددة ورفض متكرر، اضطر مارسيل بروست في آخر المطاف إلى نشره على حسابه الخاص في شهر نوفمبر/تشرين الثاني 1913. بعد ذلك مباشرة، شرع في كتابة المجلدات الأخرى المؤلفة لهذا العمل، وهو لا يدري أنّ كتابه العملاق هذا سيكلل يوما بنجاح لا يوصف وسيرتقي ليكون أعظم رواية يصورها الخيال البشري. نجاح مارسيل بروست لم يكن سريعا ولا هينا. إذ لم يحقق هذا الرجل شهرته إلاَّ في ديسمبر/كانون الأول 1919، بعد فوزه بجائزة غونكور المرموقة، عندئذ، التفتت نحوه كل الأنظار وارتقى أخيرا إلى منصة الشهرة والعالمية.
من الصعوبات الأخرى التي تعترض طريق القارئ هذه الجمل الطويلة المعقدة غير المعتادة، التي تطبع عمله والتي يستطيع أن يتوه فيها أي قارئ وإن كان محترفا، متقنا للغة. إنها جمل قابلة لأن تمتد عبر فقرات كاملة، بل صفحات!
جدلية أطول رواية في الدنيا
إذا بحثنا في محرك غوغل باللغة الإنكليزية عن أطول رواية تكتب في عالمنا، لن نجد صعوبة في معرفتها. فنتائج البحث من مصادر موثوقة في العالم الأزرق ستوجهنا حتما نحو رواية «البحث عن الزمن المفقود» للكاتب الفرنسي مارسيل بروست. وتبدو النتائج منطقية، وكيف لا والمؤلف أفنى عمره في كتابتها؟ وكيف لا أيضا والرواية مكوّنة من ثمانية مجلدات سميكة؟ وكيف لا أخيرا وموسوعة غينيس للأرقام القياسية نفسها تعدّها الرواية الأطول في العالم؟ لكن، إن نظرنا بعمق، أدركنا أن مسألة تحديد أطول رواية في العالم، ليست في واقع الأمر بمثل هذه البساطة. فعلى الرغم من هذا الاعتراف العالمي يظل الجدل قائما إلى يومنا هذا في الرواية الأحق بهذه اللقب. إذ أنّ فريقا من النقاد والباحثين يستشهدون برواية هنري دارجر بعنوان «في عوالم اللاواقعية» المكتوبة بخط اليد، والمحتوية على 15145 صفحة، والواقعة في خمسة عشر مجلدا ضخما. جدير بالذكر أن هذا العمل تم تأليفه عبر حقبة لا تقل عن ستة عقود. لكن اختيار هذا الفريق لا يبدو صائبا، بحكم أن العمل لم يطبع بعد ويبقى إلى يومنا هذا مخطوطة وحبرا على ورق مفرق، في حين كتاب مارسيل بروست مطبوع ومدرج في موسوعة غينيس. وبينما يستمر الاختلاف، ثمة رواية أخرى عملاقة في طريقها إلى النشر قد تحسم هذا الجدل للأبد محطمة رقما قياسيا جديدا. إنها رواية الكاتب الأمريكي ريتشارد غروسمان بعنوان «شارع نسيم» تتألف هذه الرواية من 3 ملايين صفحة! ويُرجّح أن يتجاوز عدد كلماتها مليار كلمة!
صعوبة قراءة بروست
كتابات مارسيل بروست من أعظم ما جاد به خيال الإنسان، إلاَّ أنها ليست من المؤلفات التي تسهل قراءتها. أول ما يصطدم به القارئ المتعطش لقراءة بروست حجم أعماله المذهل. فإن كان المرء يحتاج عادة إلى فترة تتراوح بين ساعات وأيام لقراءة رواية من الحجم المتوسط، فإنه بلا ريب سيحتاج إلى أشهر طويلة من القراءة المتواصلة لبلوغ خاتمة رواية «بحثا عن الزمن المفقود» وهو ما أكده الكاتب ومصمم البرامج ألان راي في مقال بعنوان (عند قراءة كتاب «البحث عن الزمن الضائع» بالكامل لمارسيل بروست) حيث يقول، «بعد ما يناهز ثلاثة أشهر من القراءة اليومية، فرغت أخيرا من قراءة رواية البحث عن الزمن المفقود لمارسيل بروست».
من الصعوبات الأخرى التي تعترض طريق القارئ هذه الجمل الطويلة المعقدة غير المعتادة، التي تطبع عمله والتي يستطيع أن يتوه فيها أي قارئ وإن كان محترفا، متقنا للغة. إنها جمل قابلة لأن تمتد عبر فقرات كاملة، بل صفحات! الباحث الأمريكي ناثان بريكسيوس المتخصص في الكتابة عن التعلم الآلي وعلوم البيانات وهندسة البرمجيات والرياضة، يعرض علينا بعض هذه الجمل في مقال بعنوان (أطول خمس جمل كتبها بروست). تأتي في مقدمتها جملة مكونة من 958 كلمة! تليها أخرى مؤلفة من 599 كلمة! إنها من العوامل التي تستطيع أن تشعر القارئ بالملل، وتفقده الرغبة في مواصلة القراءة في زمن السوشيال ميديا ونتفليكس. إنها حقيقة يؤكدها كثير ممن حاولوا قراءة هذه الرواية في صحف ناطقة باللغة الإنكليزية، وفي منصات متعددة بالفضاء الأزرق.
صحيفة «الغارديان» البريطانية تعرض تجارب عدد من الكتاب والقراء المشاركين في برنامجها المعروف باسم (مجموعة قراءة) عبر الإنترنت على منوال المشاركة باسم جولياسي 42 التي كتبت «شرعت في قراءة (المونكريف) في إحدى المرات، غير أني صرفت وقتا طويلاً في قراءة الفصل الأول، وبعدها تخليت عنه».
تظل تحفة أدبية نادرة
شاءت الأقدار أن يرحل مارسيل بروست يوم 18 نوفمبر 1922 وهو لم يتعد سن الـ51 تاركا خلفه إحدى أعظم التحف الأدبية النادرة في تاريخ البشرية. واليوم وبعد مرور قرن على وفاته، تحتفظ رواية «البحث عن الزمن المفقود» بالمرتبة الأولى في قائمة أطول رواية في العالم، وإن كانت مهددة بالسقوط من هذا المركز في أي لحظة مع نشر رواية الكاتب الأمريكي ريتشارد غروسمان «شارع نسيم». المؤلفة من 3 ملايين صفحة وما يناهز مليار كلمة.
وإن كانت مثل هذه المؤلفات الضخمة الطويلة تعد تحفا أدبية نادرة مثيرة للاهتمام، إلاَّ أنها تبقى تحفا للمشاهدة أكثر منه للقراءة. إذ أنها لا تخلو من السلبيات، ففي عالم سريع الوتيرة يطبعه الانشغال بوسائل التواصل الاجتماعي ومنصات الترفيه الرقمي، يصعب حتما التفرغ لقراءة أعمال أدبية طويلة ومعقدة أمثال رواية «البحث عن الزمن المفقود» وهو ما أكدته صحيفة «الغارديان» في تقييمها لهذه الرواية عندما أشارت إلى المشاكل التي قد تسببها ومن جملتها «أسلوب النثر، الجمل الطويلة والأكوام الضخمة من الجمل الثانوية والتعرجات الواسعة سعة نهر المسيسيبي والمسار البطيء للسرد».
كاتب جزائري
“القدس العربي”