من أرض قطر، حيث يقام كأس العالم لكرة القدم، الحدث الرياضي المهم، والإنجاز العربي الأهم، أو الحلم الذي تحقق على يد دولة عربية، للمرة الأولى في التاريخ، خرج عمل موسيقي جديد، متفرد بسيمفونيته الكلاسيكية الرفيعة، وخصوصيته الثقافية العربية. ليخاطب العالم بأرقى اللغات الفنية، القادرة على تقديم الهوية القطرية، والتعبير عن الوجدان القطري، والاقتراب منه وخلق الصلة معه، وإقامة حوار بينه وبين الوجدان الإنساني بشكل عام. والتعرف على تراث قطر من خلال بعض وجوهه الفنية، المرتبط بالأصول القديمة للبلد وطبيعة الحياة فيه، وعاداته وتقاليده الاجتماعية والمهنية، وكذلك طبيعة المكان، وما لها من أثر في تكوين الإنسان عاطفياً وفكرياً.
هذا العمل هو سيمفونية «وردة الصحراء»، للموسيقار السوري العالمي مالك جندلي. وقد تم عزفه مؤخراً في متحف قطر الوطني، بواسطة أوركسترا قطر الفيلهارموني، وبقيادة المايسترو أليستير ويليس. كما تم تسجيل السيمفونية في فيينا، مع أوركسترا فيينا السيمفوني، التي قادتها المايسترو مارين ألسوب.
مالك جندلي
ينتمي مالك جندلي، إلى حضارة عرفت أقدم تدوين موسيقي في العالم، يعود تاريخه إلى ألفي سنة قبل الميلاد تقريباً، وكان من أهم الاكتشافات الأثرية في سوريا في القرن العشرين. وقد قام جندلي بتوزيع هذا التدوين، وتقديمه إلى العالم كموسيقى يمكن سماعها لا رموزاً مدونة سنة 2009، من خلال تحفته الفنية «أصداء من أوغاريت». ويقول جندلي في أحد حواراته التلفزيونية، إن التدوين الموسيقي الأوغاريتي القديم، كان يتضمن الغناء أيضاً الذي تشدو به امرأة، وهي تناجي الإله من أجل أن يمنحها الأطفال. يدل ما فعله الموسيقار مالك جندلي في «أصداء من أوغاريت»، الذي لا شك في إنه من أهم مشاريعه الموسيقية وأكثرها جرأة وطموحاً، على مدى رغبته في وصل الماضي بالحاضر أو القديم بالجديد، والعربي أو الأصول القديمة للحضارة العربية بالغرب والعالم بأكمله، وقدرته على فعل ذلك وتنفيذه على أفضل نحو أيضاً، وهذا لا يُعجزه وهو من نوابغ الموسيقيين العرب. وُلد مالك جندلي في ألمانيا سنة 1972، لكنه ابن مدينة حمص التي عاش فيها لسنوات، وتلقى بعضاً من علومه الموسيقية في المعهد العالي للموسيقى في دمشق، ثم أكمل دراسته في الولايات المتحدة الأمريكية التي يعيش فيها حالياً. ومن الجدير بالذكر أن ستيف جوبز ذا الأصول السورية، الذي يحمل لقب «الجندلي» أيضاً، هو أحد أبناء عمومة الموسيقار السوري مالك جندلي.
على الرغم من مولده في ألمانيا، وإقامته في الولايات المتحدة الأمريكية، وانتقاله بين مختلف بلدان العالم شرقاً وغرباً، لم ينفصل مالك جندلي يوماً عن وطنه، وفي ارتحالاته وأسفاره، يحمل معه دائماً مأساة سوريا الكبرى والوجع السوري الهائل. ولم يفعل كالبعض الذي يغض الطرف، ويصمت عن كل ما يجري في سوريا، رغم إنه يعيش خارجها في الدول الأوروبية، بعيداً عن الخوف، وفي مأمن من بطش الديكتاتور. فهو يعلن في كل وقت عن سوريته الحقيقية، ومواقفه المساندة للشعب السوري في ثورته المنادية بالحرية. ولا يكف عن دعمه بالأعمال الخيرية، إذ يقوم بجمع الكثير من التبرعات، خلال حفلاته الموسيقية على مسارح العالم، ولا يكف أيضاً عن دعمه بالأعمال الموسيقية، وما لها من أهمية بالغة في التوثيق الفني للمأساة التاريخية الكبرى، ونقل الألم من خلال الموسيقى، للمزيد من التعريف بما جرى ويجري، ونشره في أرجاء العالم، وتخليد بعض الشهداء من أبطال الثورة السورية، كسيمفونية «القاشوش»، التي ألفها جندلي تمجيداً لشجاعة الشهيد السوري إبراهيم القاشوش، الذي كان يغني ضد الظلم والطغيان، فذبحه الطغاة واقتلعوا حنجرته. بالإضافة إلى الكثير من الأعمال الموسيقية الأخرى، التي يؤلفها مالك جندلي من وحي الثورة السورية، ويقدمها دعماً لنضال الشعب السوري، كفنان حقيقي، وكإنسان حقيقي أيضاً.
الذهاب إلى قطر
هذه المرة، وفي سنة 2022، ذهب مالك جندلي إلى بلد آخر، ووطن من الأوطان العربية، هو قطر، ليستوحي من أرضها موسيقاه الجديدة، وعمله الفذ سيمفونية «وردة الصحراء». يرتبط هذا العمل بقطر ارتباطاً مباشراً، ويشتبك مع الكثير من التفاصيل الثقافية هناك، ويحتوي على إلهامات متعددة من مصادر مختلفة، أظهرها جندلي بارزة في سيمفونيته. فعنوان السيمفونية «وردة الصحراء» يشير إلى إلهام المكان عموماً، وإلى متحف قطر الوطني، الذي تم تشييده بتصميم المعماري الفرنسي جون نوفيل، على شكل وردة الصحراء، ذلك التكوين الجمالي البديع، الذي يتخلق تلقائياً من الرمال نتيجة بعض التفاعلات الطبيعية، وتبدو هذه الوردة الرملية بمظهر خلاب يدهش الرائي. كما أن السيمفونية تتكون من تسع حركات، في إشارة إلى العلم القطري، والرؤوس التسعة الممتدة باللون الأحمر الأرجواني أو العنابي نحو اللون الأبيض، أو الخط المسنن الفاصل بين اللونين. وهناك وجود للموسيقى القطرية التقليدية داخل السيمفونية، حيث أعاد مالك جندلي تقديمها إلى العالم بلغة الموسيقى السيمفونية الكلاسيكية، واعتمد في ذلك على أربع أغنيات أو أهازيج ورقصات شعبية، هي «أم الحنايا» و»يا العايدو» و»قرنقعوه» و»العرضة»، بالإضافة إلى نداء المسحراتي. وتأتي كل أغنية من هذه الأغنيات في حركة مستقلة عن الأخرى، وتمثل هذه الحركات الأربع، الجانب القطري التقليدي في العمل، بينما هناك أربع حركات أخرى، نجد فيها اللون السيمفوني الكلاسيكي الخالص، المستوحى من أرض قطر أيضاً، لكن بتأملات مالك جندلي الخاصة. وتكون الحركة التاسعة والأخيرة، أو خاتمة السيمفونية، هي الملتقى لجميع الأفكار الموسيقية، وخلاصة تفاعلاتها، وربما بداية جديدة أيضاً.
في الحركة الثانية من السيمفونية، يقدم مالك جندلي إيقاعات المسحراتي او المسحر، ونداءاته التي يوقظ بها الناس في شهر رمضان الكريم قبل الفجر، لأداء العبادات وتناول وجبة السحور استعداداً للصيام.
حركات السيمفونية ورحلة داخل قطر
الحركة الأولى
مع صوت التيمباني، تبدأ سيمفونية «وردة الصحراء»، حيث تُسمع الضربات الأولى والنغمات التي سوف يُبنى عليها كل شيء، وتُسمع كذلك الثيمة الرئيسية للسيمفونية، ثيمة وردة الصحراء. تتكرر الضربات لمرتين ثم تمتد بتنويع جديد في المرة الثالثة، وتنضم الآلات الإيقاعية إلى النحاسيات، وهنا يشعر المستمع بأن موسيقى الحركة الأولى، ربما تحاول رسم لوحة أو صورة سينمائية إلى حد ما. وجاءت الحركة الأولى قصيرة تقل مدتها عن دقيقتين، ولا تحتوي على تصاعدات صوتية ضخمة أو ذروات هائلة، أو أفكار موسيقية كثيرة، لكنها تفعل أثرها في السامع، وتنبهه إلى تلك الصحوة الموسيقية وتداخل الأصوات، وتهيئه لأجواء مختلفة وما سيأتي بعد ذلك، كأنها تقول له: أنت هنا في قطر وعليك أن تستعد لسماع موسيقى مغايرة، وتجعله يتساءل ماذا وراء هذه الموسيقى؟ وماذا تريد أن تقول هذه الضربات؟ ويكون للصمت في نهاية الحركة دوره في تعزيز هذا الفضول.
الحركة الثانية
في الحركة الثانية من السيمفونية، يقدم مالك جندلي إيقاعات المسحراتي او المسحر، ونداءاته التي يوقظ بها الناس في شهر رمضان الكريم قبل الفجر، لأداء العبادات وتناول وجبة السحور استعداداً للصيام. هذه الحركة هي لؤلؤة من لآلئ السيمفونية الرائعة، التي يتوقف عندها السامع، ويكرر الإصغاء إليها أكثر من مرة، ومن خلالها يتعرف على جزء من مهارة مالك جندلي، وأسلوبه في التعبير وصياغة التراكيب الموسيقية، وحُسن توظيفه للآلات الإيقاعية والوتريات القوسية. تعتمد الحركة على جملتين موسيقيتين متكررتين هما نداء المسحراتي، ويشعر المستمع كما لو أن هذه النغمات تقول «اصحى» مع الإطالة في مد الياء إلى الأعلى، و»يا نايم» مع مد الألف في كلمة «نايم» بشكل أفقي. ويكون الهارموني لافتاً وممتعاً إلى حد بعيد في هذه الحركة. تبدأ الحركة الثانية من السيمفونية بضربات المسحراتي الخافتة، التي تلعب دور الميزان الإيقاعي طوال الحركة، ثم تدخل الوتريات بالجملتين الموسيقيتين، أو النداء المتكرر وتلحق بها النحاسيات. يصغي السامع إلى هذه الخطوط الميلودية الثلاثة في وقت واحد، مع تقطعات صوتية في منتصف الحركة تقريباً، ليعود نداء الوتريات بتنويعات نغمية على إيقاع المسحراتي الرئيسي الخافت في الخلفية. ولا يمكن تجاهل دور النحاسيات بضخامتها الصوتية، وما تضفيه من جلال على موسيقى هذه الحركة.
الحركة الثالثة
بعد متعة الاستماع إلى الحركة الثانية، تنتقل الحركة الثالثة بالسامع إلى متعة أكبر، وهو يصغي إلى لحن أغنية «أم الحنايا»، التي تعد من أشهر الأغنيات القطرية المرتبطة بحقبة ما قبل النفط، عندما كان صيد اللؤلؤ والرحلات التجارية البحرية من أهم مصادر الرزق. وأم الحنايا اسم يعود إلى سفينة قطرية قديمة كانت مخصصة لهذه الأغراض، أما الأغنية فكانت ترددها النساء عند سفر رجالهن وأولادهن على متن هذه السفينة، ليخوضوا رحلة البحث عن الرزق ومواجهة المجهول. وتدور معانيها حول تهيئة السفينة للإبحار واستعدادها للمغادرة ولحظات الوداع، والرغبة في مصاحبة الأحباب في رحلتهم ومشاركتهم في الشقاء، وهو ما لا يمكن فعله بالطبع، لذا يكون الجزء الأخير من الأغنية عبارة عن مناشدة لقائد السفينة والعمل، بأن يكون رحيماً معهم، وأن يرى ما هم فيه من عناء. أما كلمات الأغنية فتقول: «أم الحنايا يدفوها على السيف أم الحنايا يدفوها على السيف، تير المياديف كلها صبيان تير المياديف، بسير وياكم يا رايحين الغوص بسير وياكم، وبير وياكم لين يرت الميداف بير وياكم، وبسمع حجاياكم وأقعد على الفنة وأسمع حجاياكم، يا نواخذهم لا تصلب عليهم، ترى البحر بارد غصب عليهم، ترى حبال الغوص قطع أيديهم».
ويبدو أن أغنية «أم الحنايا» قد ملكت على جندلي حواسه كلها، والحق أن من يستمع إلى هذه الأغنية لا يملك إلا أن يقع في غرامها، سواء بسبب كلماتها وفكرتها ومعانيها، أو بسبب إيقاعها الجاذب وطريقتها البديعة في تكرار الجمل والمقاطع. وقد جعل مالك جندلي أغنية «أم الحنايا» دُرة الحركة الثالثة من سيمفونيته، ومع أنغام الوتريات والهوائيات الخشبية، يصغي السامع إلى لحن الجملة التي يقال فيها أم الحنايا، تبدأ الحركة بأنغام بطيئة متقطعة، مستوحاة من الثيمة، أو الجملة النغمية الرئيسية في الأغنية الأصلية، إلى أن يكتمل اللحن وينطلق الميلودي، ويستطيع السامع أن يغني بعض الكلمات مع اللحن. إلا أن جندلي يقطع هذا الاسترسال الغنائي في النصف الثاني من الحركة، ليذكر السامع بأنه أمام عمل سيمفوني كلاسيكي. ويلاحظ محاولة صُنع ما يشبه التأثير الصوتي العربي للموسيقى، عن طريق تكنيك الفيبراتو كموجات متقطعة مترددة قليلاً. تتكرر الجملة بتنويعات شيّقة، وفي الجزء الأخير من الحركة يبدأ القلق، فتضطرب الموسيقى ويتوتر اللحن، ويأخذ هذا القلق في التصاعد كاضطراب أمواج البحر، وتنتهي الحركة بعزف الثيمة بغنائيتها، لكنها تنتهي بتصاعد يوحي بالخوف، وقد أبحرت السفينة بالفعل، وبدأت رحلة البحث عن الرزق ومواجهة المجهول.
الحركة الرابعة
جاءت الحركة الرابعة بطيئة هادئة، تذهب بالمخيلة مباشرة نحو الصحراء، حيث تنساب الموسيقى كانسياب الصحراء. ويشعر المستمع بتعبيرات عن الفضاء والرمال والامتداد، وصورة العربي والصحراء، والصحراء ذاتها كفكرة فنية، لطالما كانت ملهمة للشعراء ومنتجة للشعر، ولمحات عن روعتها ورهبتها ليلاً باقترابها بالمرء من السماء والنجوم. الموسيقى هنا نابعة من مكان عربي خالص، وتظل الحركة على بطئها، لكنها تسير في نهايتها نحو السرعة والتصاعد إلى حد ما، ويوحي ميزانها الإيقاعي بإيقاع خطوات الجمال فوق الرمال، الذي يذكر ببطء خطوات الجمال في فيلم «لورنس العرب».
تبدأ الحركة بنغمة ممتدة تتكرر لمرتين، ثم تُعزف بتنويع جديد في المرة الثالثة، وفي منتصف الحركة تقريباً يُسمع صوت الكمان الذي ينفرد بجملة لحنية بديعة. يمكن وصف هذه الحركة بأنها حركة تحويل المكان إلى موسيقى، أو بأنها تأملات مالك جندلي في الصحراء، وما أجمل هذه التأملات والتعبيرات الموسيقية، وذلك اللون الموسيقي الداكن الذي اختاره جندلي لهذه الحركة، وما منحه لها من سحر وجاذبية، كما كان مجيء هذه الحركة بعد الحركة الثالثة التي تناولت لحن أم الحنايا، ملائماً للغاية، فبعد ذهاب الرجال تكون النساء مع السكون والوحدة والترقب، وربما الخوف الذي توحي به بعض الضربات، وأصوات الدقات في النهاية.
تتناول الحركة الخامسة من السيمفونية، رقصة من الرقصات التراثية القطرية، هي رقصة العرضة، التي يؤديها الرجال الممسكون بسيوفهم. وقد اعتمد مالك جندلي على الآلات الإيقاعية والوتريات، والنغمات الحادة في صوت الوتريات تحديداً.
الحركة الخامسة
تتناول الحركة الخامسة من السيمفونية، رقصة من الرقصات التراثية القطرية، هي رقصة العرضة، التي يؤديها الرجال الممسكون بسيوفهم. وقد اعتمد مالك جندلي على الآلات الإيقاعية والوتريات، والنغمات الحادة في صوت الوتريات تحديداً. وتبدأ الحركة بثيمة من ثلاث جمل تتكرر لثلاث مرات، وسريعاً يتصاعد اللحن، ثم تبدأ الخطوط الميلودية في التفرق، ويُسمع صوت بعض الآلات منفرداً، وحوار بين الفيولينة والفيولا، والحركة عموماً معتدلة السرعة، وتُظهر أيضاً حُسن توظيف جندلي لآلات الإيقاع وتعبيره عن الروح العربية بتقنيات الموسيقى الكلاسيكية. ومن الأمور الممتعة فيها هو هذا الحشد الصوتي الكبير لآلات الإيقاع في خاتمة الحركة، وعلى العكس من الحركة الرابعة التي تترك المستمع مترقباً قلقاً، تتركه هذه الحركة نشيطاً متحمساً يملأه الشعور بالقوة.
الحركة السادسة
جاءت الحركة السادسة من السيمفونية في قالب الاسكرتسو، الذي كان ملائماً لتناول لحن أغنية من الأغنيات التراثية القطرية، هي أغنية «قرنقعوه» وهي مناسبة احتفالية تأتي في منتصف شهر رمضان الكريم، وفيها يُقدم للأطفال الكثير من الحلوى، وقديماً كان الصغار يدورون على بيوت الجيران والحي السكني ليطلبوا الحلوى بأنفسهم، وهم يغنون: «قرنقعوه قرقاعوه اعطونا الله يعطيكم، بيت مكة يوديكم، يا مكة يا المعمورة، يا أم السلاسل والذهب يا نورة، اعطونا من مال الله يسلم لكم عبد الله، يا بنية يا الحبابة وأبوج مشرع بابه، باب الكرم ما صكه ولا حط له بواب، اعطونا من مال الله يسلم لكم عبد الله، اعطونا دحية ميزان يسلم لكم عزيزان». تجعل هذه الحركة المستمع ينتبه إلى التسلسل الزمني للمناسبات الدينية في السيمفونية، التي تبدأ بشهر رمضان الكريم وطقوس الصوم والسحور، والقرنقعوه الذي يكون في منتصف الشهر، ثم العيد الذي يأتي بعد ذلك. لحن القرنقعوه في الأصل لحن لطيف يغنيه الأطفال ويمتاز ببساطته، إلا أن جندلي لم يقدمه بهذه البساطة أو الاسترسال الغنائي، فقد عرّف المستمع باللحن في البداية، ثم قال له هنا أتناول القرنقعوه لكن بأسلوبي الخاص ورؤيتي المتفردة. تبدأ الحركة بنغمات متلاحقة من الهوائيات الخشبية والنحاسية، ويمتد الاسترسال الغنائي للحظات قليلة ثم يتوقف هذا الاسترسال، وبعد لحظة صمت، يسمع بعض التنويعات على الكمان، بمصاحبة إيقاعات كأنها خطوات الأطفال الرشيقة، والمرح والاستمتاع بالحلوى. وبعد المرح يدخل الهدوء على اللحن الأصلي، كأنه يتحول إلى أغنية للنوم، حيث ينام الأطفال بعد يوم سعيد، ولا تزال أصداء أغنية القرنقعوه تتردد في أذهانهم.
الحركة السابعة
ينام الأطفال ليستيقظوا على فرح أكبر بالعيد والمزيد من المرح، وليغنوا أغنية أخرى هي «يا العايدو»، وهي أغنية طويلة يقول مطلعها: «يا العايدو يا العايدو عيدي، عيدي علينا بالليالي عيدي، عيدي علينا مباركين وسعيدي، عيدي على محمد بطولة عمره، جدام بيته ميلسه ودلاله، جدام بيته بنت عمه عنده، تلاعبه بالخوخة والرمانة». تبدأ الحركة بالجملة اللحنية الرئيسية التي يُغنى معها يا العايدو يا العايدو في الأغنية الأصلية، وتتكرر لأربع مرات ويأتي فاصل قصير ثم تتكرر لأربع مرات أخرى، ولا يمل المستمع من هذا التكرار. وتبدو الروح العربية عند جندلي، كما لو كان يمرح مع اللحن هو الآخر، وفي النصف الثاني من الحركة تبدو الثيمة الرئيسية متوقفة وهي تستمع إلى امتدادات وتنويعات صوتية أخرى، ومترقبة لانتهاء هذه الامتدادات لكي تنطلق مرة أخرى، وتعود بالفعل لكن بشكل مختلف وأكثر كلاسيكية.
الحركة الثامنة
تعطي هذه الحركة الانطباع بأن شيئاً ما يتكون، قد يكون الوردة نفسها، أو أن أمراً ما على وشط الحدوث، وربما توحي للبعض بالعودة إلى الحياة الطبيعية وإيقاعها الاعتيادي، ويُسمع إيقاع يشبه دقات الساعة بصوت الأكسليفون والنبر على الوتريات أيضاً، يستمر هذا الإيقاع بينما تدخل على اللحن خطوط ميلودية أخرى، ويشعر المستمع بالألفة مع صوت الفلوت القريب من الناي، ويظل المستمع في حالة انتظار وترقب لما سيحدث موسيقياً، وإلى أين سيذهب اللحن. وفي منتصف الحركة يتغير الإيقاع وتكون دقات الأكسليفون متناثرة غير منتظمة، وقد يُهيأ للسامع أنه ربما يصغي إلى جمل موسيقية، أو ما يشبه بعض الجمل الموسيقية، التي استمع إليها من قبل في الحركات السابقة. لكنه يسمعها هذه المرة بشكل غامض غير واضح المعالم، كأنه يرى شيئاً من بعيد في الصحراء، غير قادر على التحقق من ملامحه، ويكون الأمر المفاجئ في هذه الحركة، هو أن لا شيء يحدث فعلاً، وأن جندلي يترك سامعه مع المزيد من الترقب بخاتمة مختلفة ومبهرة، وتلك الدقات المنتظمة كصوت قطرات المياه، التي تبتعد أيضاً ويخفت صوتها تدريجياً.
ينام الأطفال ليستيقظوا على فرح أكبر بالعيد والمزيد من المرح، وليغنوا أغنية أخرى هي «يا العايدو»، وهي أغنية طويلة يقول مطلعها: «يا العايدو يا العايدو عيدي، عيدي علينا بالليالي عيدي، عيدي علينا مباركين وسعيدي، عيدي على محمد بطولة عمره، جدام بيته ميلسه ودلاله، جدام بيته بنت عمه عنده، تلاعبه بالخوخة والرمانة».
الحركة التاسعة
هي خاتمة هذه السيمفونية البديعة وأطول حركاتها زمنياً، يسمعها المرء وهو في حالة من الترقب والفضول والتلهف، التي تركه فيها جندلي في الحركة الثامنة. تبدأ الحركة بطيئة بأنغام الوتريات، وتوحي الموسيقى بالجدية مع بعض اللمسات الشاعرية، التي تأتي من صوت الكمان كخفقات قلب ينتظر شيئاً جميلاً، بعد عمل وجد واجتهاد. وفي منتصف الحركة تزداد الأمور جدية، ويسمع بعض التصاعدات الموسيقية، وما يحدث في النهاية هو العودة إلى الثيمة الرئيسية التي تعزف في افتتاحية السيمفونية، ثيمة وردة الصحراء، ويكتمل هذا الشكل الدائري للعمل، حيث تتصل النهاية بالبداية، ما يخلق لدى المرء الرغبة في سماعها من جديد.
تحفة معمارية موسيقية
من كل هذه الأمور وتفاصيل المكان والثقافة القطرية، استخلص مالك جندلي أفكاره، ونسج موسيقى سيمفونيته التي كتبها للأوركسترا. مدة السيمفونية 40 دقيقة، أما تأليفها فقد استغرق ست سنوات تقريباً، والسيمفونية بشكل عام كقالب موسيقي، هي فن البناء الموسيقي، أو هي فن البناء بالموسيقى، وما فعله مالك جندلي في سيمفونية وردة الصحراء، ليس بناءً موسيقياً وحسب، وإنما تحفة معمارية موسيقية بالغة الإبداع والتنميق، بما فيها من تفاصيل فنية دقيقة الصنع. ولا شك في أن إبداع عمل موسيقي على هذه الدرجة من الرفعة والإتقان، قد تطلب من مالك جندلي الاقتراب من الثقافة القطرية، وإنشاء علاقة قوية مع المكان، سواءً المتحف وطرازه المعماري، أو وردة الصحراء نفسها، والصحراء والمدن الحديثة، والبحر والبر، وشاطئ الخليج ومياهه، والموروث الموسيقي القطري المرتبط بالعادات والتقاليد، ونمط الحياة القديمة والمهن التي كانت سائدة في حقبة ما قبل النفط. والحق أن ما فعله مالك جندلي من تجديد موسيقي في سيمفونية وردة الصحراء، جدير بالتوقف أمامه وتأمله جيداً، وكذلك تأمل الأثر الذي يحدثه تناول موسيقار عالمي مثل جندلي للفولكلور القطري العربي، وما يحدث عندما يجعل الموسيقى السيمفونية تتكلم معبرةً عن هذه الثقافة العربية، وتنشرها في الآفاق. وما لذلك من دور في دفع القوة المعنوية، والإحساس الوطني القطري والعربي بشكل عام.
وضع مالك جندلي الموسيقى التقليدية القطرية، كفكرة فنية مقابلة للموسيقى السيمفونية الكلاسيكية، وجعل الفكرتين تتفاعلان مع بعضهما بعضاً، ثم قدمهما إلى السامع في نسيج هارموني محكم، يعكس مدى علمه الموسيقي العميق، وثقافته الرفيعة، ورؤيته الدقيقة للموسيقى بشكل عام، وطبيعة دورها وما يمكن أن تفعله في هذا العالم. تتطلب سيمفونية وردة الصحراء، استماعاً خاصاً عميقاً، متأملاً ومتمهلاً، خصوصاً عندما يستمع المرء إلى هذا العمل للمرة الأولى، فهو عمل جديد فريد من نوعه، محدث التراكيب، قد يكون وقعه غريباً في البداية على متذوق الموسيقى العربية التراثية، وعلى متذوق الموسيقى الغربية الكلاسيكية أيضاً، نظراً لأن السيمفونية تمزج بين الاثنين. لكن ما أن يفهم المستمع ما يجري، سيشعر بمتعة كبيرة، وسوف يشعر المستمع العربي على وجه الخصوص بالمزيد من المتعة والفخر والسعادة، بهذا الإنجاز الفني العظيم، وما حققه الموسيقار السوري العربي العالمي مالك جندلي، الذي تناول وجهاً من وجوه الموسيقى العربية بإحساسه العربي الشرقي، ثم قدمها بعلمه الموسيقي وفهمه الأكاديمي، وعقله المتصل بالحضارة الغربية، إلى العالم بأكمله.
“القدس العربي”