هذا مصطلح سردي لجيرالد برنس يفد علينا، شأنه شأن هذه المصطلحات التي تلوح للقارئ أشبه بما يسمّى في الفيزياء «تِلْوانيّة» وهي خاصية في بعض البلورات تجعلها تتكشف عن ألوان مختلفة؛ حين يُنظر إليها من جهات متباينة. أحارُ في ترجمته وأنا أقلّبه على أكثر من وجه، فهل هو يعني Dis استئناسا بشتّى معاني هذه البادئة أو أداة التصدير.
«الممتنع السردي» أم «المباين السردي» أم «اللّامتساوق السردي» أم «الإبدال السردي»؟ أو حتى «اللامسرود» أو «المفترض السردي»…الحقّ لم يستقرّ رأيي على أيّ منها، وقلت أستأنس برأي أهل الاختصاص المشهود لهم؛ فاتصلت بنادية هنّاوي. وكان ردّها مشكورة أنّها بحثت في كتاب ج. برنس بالإنكليزيّة «علم السرد: الشكل ووظيفة القصصي» وخلصت إلى أنّ المصطلح الذي يقابل المصطلح الفرنسي ليس Re-tellingوإنّما Disnarrated أي إعادة قول ما قيل، وليس سرده أو روايته. وذكرت أنّ ج. برنس استعمله في أربعة مواضع، منها قوله «لم يعلّق مرّة واحدة على حقيقة أنّه يقول قصّته» Narrating و»من خلال قوله قصّته، جعل ميشيل عمله أكثر واقعيّة». وفي هذه الحال يكون السارد جزءا من ثلاثيّة (سارد ومسرود ومسرود إليه)؛ ومن ثمّة تنعقد علاقته مباشرة بالأفعال والأوصاف والشخصيّات. فمهمّته النقل وحسب؛ إذ هو يقع خارج هذه الثلاثيّة Telling. وأضافت هناوي أنّنا نعبّر عن السارد بالقول: حكى قصّته، على حين نعبّر عن مهمّة القائل بـ: قال قصّته. والسارد بعكس القائل، هو الذي ينهض بـ»تحبيك» قصّته؛ فالخطاب من صنعه، وهو جزء منه. ولا بدّ من أن يتوخّى الإقناع في ما يسوق من أفعال وأقوال وأوصاف؛ وأن يتوخّى فيها أن تكون ممكنة ومحتملة وطبيعيّة؛ وإلاّ اتّهم بالكذب والتخريف. وتقول نادية، إنّ منظّري السرد اعترضوا، من هذا المنظور، على رفض فكرة «موت المؤلّف» ولم يفرّقوا بينه وبين السارد؛ وكان سؤالهم: من الذي يتكلّم إذن؟ وتؤكّد أنّها خلصت في ضوء قراءاتها في النقد الأنكلو أمريكي، وهي على دراية به؛ إلى أنّ المنظّرين الأمريكيين ومنهم، ج. برنس وواين بوث وسيلفي باترون وآن بانفيلد… يحاولون جاهدين مقاربة حالهم بحال المنظّرين الفرنسييّن، ويسعون إلى تأصيل ما استعمله أدباء القرن التاسع عشر الأمريكان، من مفردات، من أجل أن تكون مصطلحات يصنعون منها نظريّاتهم التي لا تخلو في غالبها من تمحّل؛ ومنها التي استعملها أدجار ألان بو في نقد رواية مؤّلفة من قصص قصيرة موسومة بـTelling لناتنيال هوثورن.Twice- told tales.. ومع هذا بقي المقابل العربي في نظري، محفوفا بقدر من الغموض، وإن كان ج. برنس شرحه في النصّ الفرنسي الذي اطّلعت عليه، بكثير من الوضوح؛ وهو يقصد جملة العناصر التي تشير صراحة في السرد، إلى ما لم يحدث؛ لكنّه يمكن أن يقع أو يكون قد وقع.
ولا مناص من الإقرار بأنّ أيّ نصّ قصصي، أكان دينيّا أم غير دينيّ، هو جمع وليس فردا، أو هو «محاورات» بين ذوات شتّى؛ وما إلى ذلك ممّا قد يفيدنا في فهم الخطاب المنقول، و»الممتنع السردي» الذي يراوح بين هيئة الأسلوب المباشر وغير المباشر في النصّ.
وأنا لست من أهل الاختصاص، وإنّما قارئ؛ فأفضّل كلّما تعلّق الأمر بهذا النوع من السرد، أن نعود مثل هؤلاء الغربيّين إلى مصطلحاتنا القديمة مثل تلك التي أثبتها حازم القرطاجنّي في «منهاج البلغاء وسراج الأدباء» على أن نقوم بتطعيمها أو تجديدها، من ذلك هذه المصطلحات التي أدارها في كلامه على «الصورة» وإن لم يستخدم هذا المصطلح: «الاختلاق الإمكاني» أي الاحتمالي، و«الاختلاق الامتناعي» أي الذي يمكن تصوّره، لكن دون أن ينهض له سند في الواقع، أو في الأعيان؛ و«الاختلاق الإحالي» أو الاستحالي الذي لا سند له إلا المخيال، حيث لا تتقيّد المخيلة السماعية بالمخيلة البصرية، ولا يتسمّى الشيء بشبيهه أو بسببه أو لاحقه أو مقارنه، وما إلى ذلك من الأشياء المعدودة في تصنيف الكلام المجازي. ولعلّ خير مثال لما أنا فيه، النصّ القرآني، فثمّة صوت سارد يستوقفنا في كلّ قصصه. وقد يكون من المفيد في دراسته أن ننطلق من ذلك التمييز الدقيق الذي يجريه المعاصرون بين القصّة أو الحكاية من جهة، والقصّ والسرد من جهة أخرى. فالملفوظ السردي أو القول السردي ينهض برواية قصّة أو مغامرة تنتظمها حبكة، يقوم بها شخوص يتحرّكون في فضاء وزمان مخصوصيْن. وهم يؤدّون القصّة في ضوء الممكنات السرديّة، وما يتعلّق منها بالتغييرات الزمنية وإدارة فنّ الدخول إلى العالم المحكي، سواء أقيّدته وجهة نظر داخلية أم لم تقيّده. فليس ثمة ملفوظات سردية دون سرد، أو دون تلفظ سرديّ. والسؤال: من هو المتكلم في القصة أو في المحاورات القرآنية، عندما يكون الكلام مسندا إلى ذوات غير الذات الإلهية؟ وأيّ وضع يشغله هذا الصوت؟ فهل الخطاب خطابه أي بنظمه وتأليفه؟ أم هو نوع من «حكاية القول» بعبارة عبد القاهر الجرجاني، أم هو «إخبار عن القول» بعبارة مفسّري القرآن. وأقدّر أنّ هذين المصطلحين يفيان بالمرام، إذا نحن عرفنا كيف نحرّرهما من الخلفيّة الدينيّة أو من أحكام القيمة.
ولا مناص من الإقرار بأنّ أيّ نصّ قصصي، أكان دينيّا أم غير دينيّ، هو جمع وليس فردا، أو هو «محاورات» بين ذوات شتّى؛ وما إلى ذلك ممّا قد يفيدنا في فهم الخطاب المنقول، و»الممتنع السردي» الذي يراوح بين هيئة الأسلوب المباشر وغير المباشر في النصّ. والمباشر قول يتلفّظ به شخص ثالث، فيما غير المباشر دمج خطاب هذا الثالث في نظم الخطاب الرئيس أي خطاب السارد. ويفترض في هذا الخطاب «الممتنع» المنقول أو المروي أو «المخبر عنه» كما أفضل استئناسا بالمصطلح القديم، أنّ له صوتا يخصّه، ونغمة تخصه، وسجية تخصه.
وبرنس في تعريفه، يصف عناصر هذا «الممتنع السردي» من حيث هي تتعلّق بما هو افتراضيّ غير كامل، أو غير متحقق، أو هو قابل للتحقق، أو بعبارة أخرى من قبيل «كان ما سوف يكون». وهو يوضح بأمثلة دقيقة، ليس لي أن أتمثّل بها أكثر مما ينبغي؛ لأنّي لست مطّلعا على كلّ المدوّنة التي يعتمدها. من ذلك كلامه على الوضع الافتراضي للوصف الافتتاحي في بعض القصص، بأثر سالف أو سابق على الحدث، في الوقت الذي ينزلق فيه السرد من الشرط إلى الدلالي «كانت حياتهم ستكون ضربا من فنون العيش… هذه الأمور ليست سهلة، بل هي على العكس من ذلك». والقائل ها هنا يلمّح إلى مستقبل، بالنسبة إلى اللحظة الحاضرة التي هو فيها؛ بل هو ماض لم يتحقّق. والسين حرف يدخل على المضارع فيخلصه للاستقبال، فيما سوف أطول زمانا من السين. وما إليها من أمثلة تشير إلى ما لم يحدث، لكنّه كان من الممكن أن يحدث؛ من خلال استحضار أفعال القائل وإيماءاته؛ في ضوء الصيغ التي تؤطّر التسلسل النصّي. ومن ثمّة يجد القارئ نفسه إزاء «سيناريوهات» محتملة مثل قوله «سيكون الأمر متروكا لي فقط» مقترنا بوضع شرطي أو بصيغة الاستفهام كما في قول القائل «ما الذي يمنعني من…؟» وهكذا تظهر الخيارات السردية التي تمّ تقديمها على أنها مجرّد افتراضات تدلّ على عدم تحقّق الاحتمالات السرديّة. والسارد يستدعيها حتى يتمكّن من إبطالها أو استبعادها؛ لكنّها تظل جزءا من فضاء السرد؛ إمّا لتأكيد ترسيم حدود السرد أو لتمويه هذه «الحدود».
على حين أنّ السارد يحيل على ما يمكن أن نسمّيه «بنية غياب بالمطابقة» بينه وبين القائل، ممّا يتيح له أن يحصر السلطة في شخصه من جهة، وأن يجعل الذهن يتركّز في الشخصيّات الرئيسية، من أخرى أي تلك التي يبسط عليها هذا السارد سلطته اللغوية؛ من خلال الأفعال اللغوية الثلاثة التي تنشئ ملفوظا ما. وأوّلها فعل القول (ماذا يقول؟) وما يتعلّق به من أصوات من شأنها أن تحمل دلالة هي محصلة المعنى والمرجعية، أو محتوى افتراضيا كما هو الشأن في هذا «الممتنع السردي».
وثانيها القول الفاعل (ماذا يفعل؟) وما يتعلّق به اتفاقا أو مواضعة ًمن التزام أو مفعوليّة. ومن شأن هذا القول الفاعل، أن يغيّر العلاقات بين المتخاطبين.
وثالثها الفعل التأثيري (لمَ الفعل؟) وهو يخرج عن الحيّز اللساني، إذ يتعلّق الأمر بالتأثيرات التي تنجم عن الملفوظ في وضع التخاطب؛ فقد تكون متباعدة في الزمن (اضطرابات أو تغييرات لاحقة على زمن القول). وفي تراثنا لامس الذهبي (محمد بن أحمد بن عثمان) المسألة من زاوية الوشيجة التي لا تنفصم، بين الملفوظ والتلفظ؛ لكن في سياق دينيّ. يقول: «لكن لما كان الملفوظ لا يستقل إلا بتلفّظنا والمكتوب لا ينفكّ عن كتابه والمتلوّ لا يسمع إلا بتلاوة تال صعب فهم المسالة وعسر إفراز اللفظ الذي هو الملفوظ من اللفظ [الكلام] الذي يعنى به التلفظ [النطق]، فالذهن يعلم الفرق بين هذا وهذا».
شاعر تونسي
“القدس العربي”