يمكن اعتبار الفعل الاحتجاجي الذي قام به لاعبو المنتخب الإيراني في كأس العالم الحالي، مألوفاً إلى حد ما. لاعبو كرة القدم الأمريكية من أصول إفريقية، رفضوا بدورهم، قبل سنوات قليلة، غناء النشيد الوطني لبلادهم، وفضّلوا الركوع على الأرض، في استعادة لأداء ينتمي إلى تراث مواجهة العنصرية في الولايات المتحدة. كما أن كثيراً من الرياضيات والرياضيين في أيامنا عبّروا عن مواقفهم السياسية والاجتماعية بوسائل متنوّعة. رغم هذا يبدو وضع الإيرانيين في مونديال قطر مختلفاً. ظهروا وكأنهم يتوقعون خسارة كبيرة بعد موقفهم هذا. لن تقتصر بالتأكيد على خسارتهم للمباراة مع المنتخب الإنكليزي، بنتيجة كبيرة.
الخسارة التي ينتظرها اللاعبون الإيرانيون قد تكون تعرّضهم للسجن؛ الحرمان من ممارسة اللعبة في بلادهم؛ أو على الأقل محاولة التشهير بهم واغتيالهم معنوياً، من قبل نظام يملك بالتأكيد آلة بروباغندا قوية وفعّالة. لا يمكن مقارنة هذه العواقب بما يمكن أن يتعرّض له رياضيو الدول الديمقراطية، الذين في إمكانهم الاستناد إلى قوى ومؤسسات مترسّخة في بلدانهم، تعطيهم كل الدعم والتغطية السياسية والإعلامية الممكنة، وتجعل احتجاجهم استثماراً رابحاً في قضية معينة. دون أن يعني هذا بالضرورة التشكيك بصدق موقفهم وإخلاصه.
يطرح هذا سؤالاً مهماً عن السبب الذي دفع لاعبي المنتخب الإيراني لقرارهم ذاك، الذي قد يبدو متهوّراً في نظر البعض، فعدم ترديد نشيد الجمهورية الإسلامية قد يعطي دفعة معنوية للمحتجين ضد النظام الإيراني، لكن من المستبعد أن يؤدي إلى نتائج ملموسة ومباشرة على أرض الواقع، فيما تبدو الأثمان التي سيدفعها اللاعبون أكثر تأكيداً وحضوراً. والأمر لا يقتصر عليهم، فكثير من أفراد النخب الإيرانية، من فنانين وأدباء ومثقفين، اتخذوا الموقف الصعب نفسه، بعبارة أخرى: لماذا يختار الإيرانيون الخسارة؟ ربما كان السؤال غريباً ولا أهمية له لو تم طرحه قبل عقود قليلة، عندما كانت «مواجهة السلطة» إحدى لوازم نشاط النخب الثقافية، وتقديرها لذاتها، إلا أن هذه الفكرة باتت عتيقة إلى حد ما في زمننا. إذ يمكن ملاحظة تغيير مهم في مواقف النخب، إما في اتجاه التزامها بأداء تكنوقراطي غير مشتبك بشكل مباشر مع القضايا العامة، وعلى رأسها بالتأكيد الموقف من السلطة؛ أو عبر استشعارها الاتجاه السائد المدعوم مؤسساتياً، والأداء ضمن قنواته، الأمر الذي يبدو في شكله الأوضح لدى نجوم الثقافة الجماهيرية في الدول الغربية، خاصة الولايات المتحدة. بهذا المعنى يبدو فعل النخب الإيرانية مقبلاً من «عالم آخر» إذا صح التعبير. فكيف يمكن تفسير كل هذه الشجاعة؟ وما أهم التغيّرات الاجتماعية والثقافية التي طرأت على النخب حول العالم، وجعلت موقفاً كهذا مثيراً لبعض التعجّب؟
ثوّار الخصوصية
يأتي موقف النخب الإيرانية بالتأكيد التزاماً بطموحات ما يعتبرونه «الشعب الإيراني» أي آلاف النساء والرجال، الذي يخوضون معركة صعبة ومُكلفة مع حكم الملالي، معرّضين أنفسهم لأبشع العواقب. وبالتالي فإن تهديد المسيرة المهنية، واحتمال التعرّض للاضطهاد، يبدو ثمناً بخساً أمام التضحيات التي يقدمها شباب إيران، رغم هذا فإن القضية ليست بهذه البساطة: يوجد كثير من الثوار الإيرانيين الشجعان، الذين يقاومون في أصعب الظروف، لكنهم ليسوا «شعب إيران» كله، ويصعب القول حتى إنهم أغلبيته. هم الفئة الأكثر تمدّناً، والأشد طموحاً وانفتاحاً، تعيش وسط محيط كبير من البشر متعددي التوجهات والآراء، ومنهم كثيرون من أنصار النظام الإسلامي بالطبع. التزام النخب هنا لا يتعلّق بـ«الشعب» بقدر ارتباطه بمفهوم معيّن عن الحرية، يُعرّفها بوصفها حق فئات معينة بالاستقلال عن سلطة مطلقة وشمولية؛ وتقرير مصيرها الذاتي، بما يتسق مع رغباتها ومصالحها ورؤاها. لفهم فكرة «الاستقلال» هذه قد يكون من المفيد الرجوع إلى طرح الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس عن البورجوازية الأوروبية، وهو طرح لاقى كثيراً من التشكيك والانتقاد من قبل المؤرخين، لكنه يبقى مفيداً من ناحية فلسفية وسسيولوجية: أنتجت البورجوازية مجال الخصوصية في مواجهة السلطة المطلقة، عبر تأكيدها على استقلالية «عالم الحياة» أي حق المحكومين بتقرير المصير الذاتي؛ استقلالهم في النشاط الاقتصادي والاجتماعي؛ حريتهم بالتفكير والمعتقد والتعبير. لا يجوز للسلطة التدخّل في هذه المجالات، حتى لو استمدت شرعيتها من أصل إلهي أو ديني؛ ومراقبتها لضمائر المحكومين ليست إلا اعتداء. خلقت البورجوازية بذلك «رأياً عاماً»؛ و»جمهوراً» يطالب بتمثيل فعلي لطموحاته، حيثما وصل تأثيرها الفكري والاجتماعي، وخاضت مغامرات ثورية في وجه السلطات التقليدية، عندما تأكّدت أنها لن تقبل باحترام الخصوصية، التي باتت، للمفارقة، «حيزاً عاماً».
بالعودة إلى نقد هابرماس لـ«الثقافة الجماهيرية» يمكن القول إن جانباً كبيراً من النخب المعاصرة، التي لم تنعزل في مجالاتها الاختصاصية الضيقة، يلعب حالياً دور الوسيط لهيمنة سلطوية، تتدخّل بشكل لصيق في مجال الخصوصية.
حاول مؤرخون مختصون في مجالهم أن يسحبوا شرف مقاومة السلطة المطلقة من البورجوازية الأوروبية (الذكورية، البيضاء) وإعطاءه لـ«جمهور» أكثر تنوّعاً، عبر الحديث عن ثورات التنوير «من تحت» خاصة أن البورجوازية حصرت «الحيز العام» بالجمهور المتعلّم وصاحب الملكية الخاصة، إلا أن هذا الجدل الأكاديمي يبقى هامشياً إلى حد ما من ناحية مفاهيمية. الأكثر أهمية أن مجال الخصوصية نتج عن تعارض بين الدولة/السلطة من جهة؛ والمجتمع «الحر» والمتمتّع بالخصوصية من جهة أخرى. على خلاف دولة المدينة الإغريقية مثلاً، التي كان المجال الخاص فيها (العائلة وتدبيرها المنزلي) متسقاً تماماً مع السيادة العامة (ديمقراطية المواطنين الأحرار، الذين يلتقون في الحيز العام).
يسرد هابرماس أيضاً دور «الثقافة الجماهيرية»Popular culture في جعل الحيز العام مجالاً للهيمنة السلطوية، وليس مساحة حرة لتشكيل الرأي العام: عملت السلطات، مع تقدّم المجتمع الصناعي، على إعادة التدخّل في خصوصيات الأفراد والجماعات، عبر الهيمنة على الرموز الثقافية والأفكار العامة المنتشرة بين الناس. ورأى أن تحدي التنوير والعقلانية الفعليين يكمن باستعادة الحيز العام، وتحريره من هيمنة السلطات، وأنماط «العقلانية» الخاصة بها. في كل الأحوال لا يجوز، تاريخياً واجتماعياً، مقارنة النخب الإيرانية الحالية بالبورجوازية الأوروبية في عصر التنوير، لكنها بالفعل تعرّف نفسها، وتستقي قيمتها الاجتماعية، من مواجهة السلطة الدينية المطلقة، ومحاولة إنتاج مجال لـ«الخصوصية» بعيداً عن تدخلات الملالي، والأجهزة الدينية، ومؤسسات الحكم الشمولي، التي ترى أن من حقها التحكّم بحياة الإيرانيين، نشاطهم ومواردهم، بما يتفق مع منظوراتها، المستهينة بحق مواطنيها في تقرير مصيرهم، وإدارة حياتهم، وفقاً لقناعاتهم ومصالحهم. وبذلك تنتمي تلك النخب بصلابة إلى «جمهورها» و«رأيه العام» ولا تجد لنفسها معنى خارجهما.
نخب الـPop
بالعودة إلى نقد هابرماس لـ«الثقافة الجماهيرية» يمكن القول إن جانباً كبيراً من النخب المعاصرة، التي لم تنعزل في مجالاتها الاختصاصية الضيقة، يلعب حالياً دور الوسيط لهيمنة سلطوية، تتدخّل بشكل لصيق في مجال الخصوصية. يقوم النجوم والمؤثرون المعاصرون بإعادة تدوير الرموز والعلامات اللافتة للانتباه، المتسمة باتساق مثير للتساؤل، عبر وسائل التواصل والبث، التي تخترق خصوصيات البشر في كل مكان. وهذه الحالة تبدو بشكلها الأوضح في الولايات المتحدة الأمريكية، حيث يكرر كثيرون من نجوم الثقافة الجماهيرية بإخلاص طرح الحزب الديمقراطي الأمريكي، والمؤسسات والشركات الداعمة له. وقد يكون من المثير للاستغراب، وبعض التهكّم، أن مليونيرات هوليوود مثلاً باتوا يعتبرون من «اليسار» في أمريكا. ربما يكون هذا المثال الأكثر وضوحاً لـ«الثقافة الجماهيرية» بوصفها مجالاً للهيمنة السلطوية الفوقية.
يبدو أن الآلة الأيديولوجية للسلطة الإيرانية، رغم عقائديتها المستندة لتراث إسلامي/فارسي غني، لم تستطع أن تدمج نخب «أمتها» في «الثقافة الجماهيرية» التي تبغيها. «تخلّفها» قد يكون إيجابياً من منظور ما، إذ ساعد على نشوء وبقاء نخب من الطراز العتيق، تدافع عمّا تراه حقاً، ولا تقبل بركوب «التريند» جرياً وراء المصلحة.
دروس المنتخب الإيراني
تحدّث منظرو مقاومة التبعية في القرن الماضي عن دور «الحلقات الأضعف» في المنظومة الدولية في إحداث تغييرات حقيقية. توقّع ماركس مثلاً أن الثورة ستأتي من بريطانيا، لكنها اندلعت في روسيا والصين. والقرن العشرون كان باختصار تاريخ ذلك النوع من الثورات. ربما كان لمواطني «الحلقات الأضعف» مداخلة مهمة، تغيّر شيئاً ما في الجو الثقافي السائد، وتلعب دوراً تنويرياً يحتاجه عالمنا: الثقافة الجماهيرية الرائجة قد تكون جذّابة، لكنها عندما تكون مجرد «تريندات» لا تحقق شيئاً للبشر إلا تشتيتهم، وزيادة عزلتهم واستلابهم، فالأجدر احتقارها، وكشف مدى تناقضها ونفاقها.
الإيرانيون في قطر قالوا وفعلوا شيئاً مختلفاً عن السائد، ربما كان أهم بكثير من الفوز بمباراة، قد تزيد من قيمتهم المالية في سوق اللاعبين والمشاهير. ما قد يجعل التعاطف مع «الفريق الخاسر» فعلاً سياسياً وأخلاقياً ضرورياً.
كاتب سوري
“القدس العربي”