زار ماركيز موسكو للمرة الأولى في عام 1957 مندوبا عن صحيفة كولومبية لتغطية وقائع المهرجان العالمي للشباب والطلاب. لم تكن رحلة عشوائية، بل تلبية لنداء الروح. لم يستطع الصحافي والكاتب الشاب، الذي تعاطف بشكل واضح مع الأفكار اليسارية، أن يفوت فرصة زيارة روسيا السوفييتية.
وصف ماركيز انطباعاته عن هذه الرحلة في مقال رائع تحت عنوان «اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفييتية: 22.400.000 كيلومتر مربع دون إعلان واحد لكوكاكولا!». لم يكن ماركيز قد كتب بعد أيا من رواياته الرائعة، لكن في مقال عن مهرجان الشباب، وصف بموهبته المتأصلة بعمق ودقة بلدا شماليا ضخما، يتحول حتى بالنسبة إلى القارئ الروسي إلى أرض غريبة مجهولة مليئة بالمفارقات والحماقة. أظهر ماركيز للروس بلدهم العملاق «بدائيا جدا لدرجة أن العديد من الأشياء لم تكن لها أسماء». كان مهتما بأول دولة اشتراكية، وأراد أن يفهم محتوى تلك القوة المذهلة التي أحدثت تحولات هائلة وعميقة في جميع مجالات الحياة، في بلد تبلغ مساحته سدس الكرة الأرضية. أراد أن يرى عواقب هذا الانقلاب بأم عينيه – بكل تناقضاتها وحجمها. رأى ماركيز بنظرته الثاقبة التناقضات في كل مكان. واكتشف أن موسكو «أكبر قرية في العالم» حيث توجد ساحات ضيقة تصطف على جانبيها منازل متواضعة تمتد على شرفاتها حبال الغسيل وسط قصور كلاسيكية جديدة مهيبة، حيث تعتبر التصميمات الداخلية لهذه القصور نموذجية حتى بالمقارنة مع محطات المترو الجميلة، والناس في حاجة ماسة إلى السكن، ويعيش أغلبهم في شقق ضيقة أو مساكن جماعية مكتظة، حيث يتم الجمع بين صغر، وحتى تفاهة حياة الفرد ونفسيته مع الاتساع المذهل والبهجة الملهمة لفلسفة فريق متماسك.
يعتقد ماركيز أنه قبل المهرجان، تم توجيه المواطنين بشكل صارم وتحذيرهم من إظهار الجوانب السلبية لحياتهم اليومية، أبدى سكان موسكو مقاومة مشبوهة بمجرد أن أظهر الأجانب رغبتهم في زيارة منازلهم. لكن بعض سكان العاصمة لبوا رغبة ضيوف المهرجان، حيث تم الكشف عن صورة حزينة حقا لحياة الشعب السوفييتي للضيوف. ويضيف ماركيز: «بدا للروس إنهم يعيشون حياة جيدة، لكنهم في الواقع كانوا يعيشون حياة سيئة». وحز في نفس ماركيز ما رآه: «كان من المرير أن نرى كيف يعيش الناس الطيبون والصادقون في شقق ضيقة أو شقق مشتركة، ويرتدون ملابس رديئة، ويتغذون بشكل سيئ. لكن هذا كان ثمن التصنيع، والانتصار في الحرب الوطنية العظمى». واعترف الكاتب: «أكثر من مرة، وبقسوة متعمدة، طرحت السؤال نفسه، فقط لأرى ما ستكون الإجابة عليه: «هل صحيح أن ستالين كان مجرما؟ «وكانوا يجيبون بهدوء باقتباسات من تقرير خروتشوف». أثناء إقامة ماركيز في موسكو، حدث له الكثير من الأشياء المضحكة والمدهشة. جرت محادثة غريبة بينه وبين صحافيين سوفييت في الفندق الذي نزل فيه. بالطبع، كانوا مهتمين جدا بمعرفة كيفية عمل الصحافة الأجنبية، لقد فوجئوا جدا بوجود الصحف في الخارج بفضل الإعلانات، ولم يرغب الكثيرون في تصديق ذلك على الإطلاق، لذلك بدا الأمر سخيفا للغاية. وماركيز، بدوره، كان في حيرة من وسائل الإعلام السوفييتية. ذات مرة رأى كشكا مليئا بأكوام من صحيفة «برافدا» في الصفحة الأولى كان هناك مقال يحتوي على ثمانية أعمدة مع عنوان بأحرف كبيرة. كان الكاتب الشاب خائفا: اعتقد أن الحرب قد بدأت، لكن الترجمة تقول: «النص الكامل لتقرير الحزب عن الزراعة».
عندما كان ماركيز محاطا بمجموعة من الشباب الفضوليين بالقرب من متنزه غوركي. برزت فتاة من المجموعة وقالت بلغة إسبانية صحيحة: «سنجيب على أي من أسئلتك بشرط أن تجيب بالصراحة نفسها». وافق الكاتب دون تردد.
بادئ ذي بدء، قرر الشباب معرفة ما لم يعجبه في الاتحاد السوفييتي؟ أجاب ماركيز، الذي لاحظ عدم وجود كلاب ضالة على الإطلاق في العاصمة، «أعتقد أنه من القسوة أن يأكلوا كل الكلاب هنا». تسببت هذه الإجابة في ارتباك، وبدأ الشباب يتجادلون مع بعضهم بعضا باللغة الروسية، وأخيرا صرخ صوت نسائي من الحشد باللغة الإسبانية: «هذا افتراء نشرته الصحافة الرأسمالية». عندما جاء دور ماركيز سأل: هل يمكن للشخص أن يمتلك خمس شقق في موسكو أجاب الشباب دون تردد وتقريبا في جوقة: «بالطبع. لكن ماذا يفعل بحق الجحيم في خمس شقق في آنٍ وَاحِدٍ؟». وأدرك الكاتب العبقري ما لم يدركه حتى الأجانب الذين عاشوا فترة طويلة في الاتحاد السوفييتي وخدرتهم البروباغاندا السوفييتية المتقنة الصنع. يقول ماركيز: «تكمن سعادة الشعب السوفييتي والحكومة السوفييتية في حقيقة أن الناس ببساطة لا يعرفون مدى سوء حياتهم». وأدى ذلك لاحقا إلى حظر نشر وتداول كتبه في الاتحاد السوفييتي لفترة طويلة.»
لقاء عاصف مع عدد من الكتّاب الروس
في صيف عام 1979، حل غابرييل غارسيا ماركيز ضيفا على مهرجان موسكو السينمائي الدولي. نظمت الكاتبة زويا بوغوسلافسكايا اجتماعا لماركيز في منزل الشاعر أندريه فوزنيسينسكي في بلدة الأدباء (بيريديلكينو) في ضواحي موسكو، حضر الاجتماع عدد من الكتاب السوفييت (ميخائيل روشين، ليونيد زورين، يوري تريفونوف، يوري كارياكين مع زوجته إيرينا زورينا، الكاتبة والباحثة في آداب أمريكا اللاتينية وإسبانيا. وجاء ماركيز بصحبة زوجته ومترجمته الرسمية. وتقول زورينا في مذكراتها إن ليونيد زورين بدأ المحادثة قائلا:
ـ يقولون إنك تعيش الآن في كوبا وصديق لفيدل كاسترو. أخبرنا كيف تسير الأمور هناك، في «جزيرة الحرية».
– أنا لا أعيش في كوبا بشكل دائم، بل في المكسيك أكثر. لكن في كل مرة آتي فيها إلى هافانا، أشعر وكأنني في منزلي. فيديل يغمرني بحنانه. فيدل إرادة حديدية وقوة خيال تسمح له بهزيمة الأعداء. إنه الملهم الرئيسي للثورة الماركسية. يأتي دائما ليفوز.
– إنه يغني أفضل من غوركي عن لينين» علق روشين بصوت عال إلى حد ما. لكن كلماته بقيت، بالطبع، دون ترجمة.
حاول ليونيد زورين تحديد اهتمامه بجزيرة الحرية، فسأل: كيف يعيش الناس هناك؟
ـ أصبح الناس متعلمين، وتم إنشاء نظام تعليمي ممتاز في كوبا. رعاية طبية مجانية على مستوى عال متاحة للجميع. لقد اكتسب الكوبيون كرامتهم وقاوموا بشجاعة الحصار الأمريكي.
كان ماركيز مستعدا للإفاضة في الحديث إلى ما لا نهاية. قاطع يوري كارياكين الكاتب قائلا:
ـ الرفيق ماركيز (وشدد على كلمة رفيق) هل جئت لتزويدنا بمعلومات سياسية؟ شكرا لك. أجبني الآن على سؤال واحد فقط: إذا كانت كوبا تتمتع بمثل هذه الحياة السماوية والتعليم الممتاز جدا، فلماذا يعيش أطفالك ويدرسون ليس في كوبا، لكن في الولايات المتحدة؟
اختنقت المترجمة الرسمية من الغضب. وقالت إنها لن تترجم هذا. أدرك ماركيز أن شيئا غير متوقع قد حدث – وكان من الواضح أنه مهتم بذلك – صرخ في وجهها تقريبا:
– ترجمي
– لن أترجم
ـ لكني أريد أن أعرف ما قاله، كان ماركيز قلقا بشكل واضح.
عندئذ كاد كارياكين أيضا أن يصيح في وجه زوجته إيرينا زورينا:
– ترجمي!
ترددت إيرينا، وفجأة شعر ماركيز بأن هناك طريقة للخروج، وخاطب إيرينا صارخا :
-ترجمي
وبدأت إيرينا بالترجمة، ربما ليس بسلاسة المترجم المحترف، لكن بسرور كبير.
تجاهل ماركيز سؤال كارياكين، لكن زوجته مرسيديس قالت: «أطفالنا لا يدرسون في الولايات المتحدة، بل في أوروبا.
واصل كارياكين هجومه:
– حسنا، سأعترف: أنت كاتب حقيقي. قرأت «مئة عام من العزلة». رواية ممتازة. لدينا أيضا ساحرنا الأدبي الخاص والواقعية السحرية – فاضل إسكندر. لكن ما لا أستطيع فهمه، كيف ترددون عفوا، مثل هذا الهراء الدعائي حول النضال الكوبي من أجل الحرية في أنغولا؟ الاقتصاد في كوبا في حالة تدهور تام. معداتنا متعفنة هناك، والقروض الروسية التي لن تسدد أبدا تذهب إلى الجيش، الذي على استعداد لدعم «المراكز الثورية» في أمريكا اللاتينية وافريقيا. ويقول الكوبيون أنفسهم إنهم يرسلون جنودهم إلى أنغولا كما الروس يرسلون شبابهم الى حملات جني البطاطس».
قبل الاجتماع، كانت لدى يوري كارياكين فكرة عن سلسلة المقالات التي نشرها ماركيز في عام 1977، عن «عملية كارلوتا» المكرسة للتدخل العسكري الكوبي في افريقيا. مقالات كتبت بطلب من الأخوين فيدل وراؤول كاسترو. وجاء في إحدى هذه المقالات: «حلمي هو أن تصبح أمريكا اللاتينية كلها اشتراكية، ولا يمكن التغلب على جدار المعارضة إلا بالقوة».
لم يكن بقية المشاركين في الاجتماع قلقين بشأن «المراكز الثورية» بقدر ما كانوا قلقين بشأن اضطهاد المثقفين في كوبا، والرقابة القاسية المتزايدة والأساليب الشرسة للانتقام من المنشقين.، كانت قضية الشاعر الكوبي إيبرتو باديلا معروفة جيدا في الوسط الأدبي الروسي. فهو من مؤسسي اتحاد الكتاب والفنانين الكوبيين. اعتقل في علم 1968. في البداية كان مؤيدا للثورة، لكن بعد ذلك، مثل كثيرين، أصبح معارضا علنيا لنظام كاسترو. كما تم القبض على زوجته الشاعرة كوسا مالي، التي أنجبت ابنهما في السجن. طالب جان بول سارتر، وخوليو كورتاثر، وماريو فارغاس يوسا، (وحتى يفتوشينكو الذي تغنى بالثورة الكوبية) والعديد من الكتاب والسياسيين من شتى البلدان فيدل كاسترو بالإفراج عن باديلا وعائلته. لكن ماركيز اتخذ موقف التأييد لنظام كاسترو. وفي وقت لاحق، أطلق ماريو فارغاس يوسا على ماركيز ـ صديقه المقرب في شبابه – لقب «خادم كاسترو».
من الواضح أن ماركيز لم يكن يريد الإجابة على الأسئلة غير المريحة. فهو ذكي وقوي الملاحظة، أراد بالأحرى أن يفهم من أمامه؟ ولماذا يعارض الحاضرون فيدل كاسترو بشدة.
– ومن أنت؟ استدار ماركيز فجأة وبشكل غير متوقع نحو كاريكين.
– كاتب؟ ما الذي كتبته؟
قال شخص ما في الغرفة – يوري كارياكين يبحث في أدب دوستويفسكي.
ـ دوستويفسكي؟ لطالما اهتممت به. إذا كنت، يوري، تعرف دوستويفسكي حقا، اشرح لي مشهدا واحدا في « الأخوة كارامازوف». عندما نزل سميردياكوف الدرج إلى الطابق السفلي متظاهرا بنوبة صرع. هل كان مصابا حقا بنوبة حقيقية؟
لم يدهش كارياكين للتغيير المفاجئ في موضوع المحادثة، بقدر ما أدهشه السؤال الجاد للغاية للكاتب الكولومبي، فأجاب بصدق وفرح.
ـ اسمع، من الرائع أن تكون مهتما بهذا. سأشرح الآن.
وبدأت محادثة مهنية شيقة بين الكاتب والباحث الفيلسوف. بدا أنهما يتشبثان ببعضهما، ونسيا من حولهما.
عند الوداع أهدى ماركيز نسخا من روايته الأولى الصادرة في عام 1955 «أوراق الشجر الساقطة» إلى الحاضرين.
بعد عودته من موسكو، قال ماركيز في مقابلة صحافية مع مجلة مكسيكية، إنه التقى في موسكو في بلدة الكتّاب كاتبا فوضويا مثيرأ للاهتمام، إسمه يوري.
المرة الثالثة والأخيرة، التي زار فيها ماركيز روسيا كانت في عام 1987. لحضور مهرجان موسكو السينمائي. لقد مرت ثلاثون سنة بالضبط على زيارته الأولى لروسيا عندما كان كاتبا مغمورا، أما الآن فهو كاتب عالمي حائز جائزة نوبل. في عام 1957 كان محاوروه من المارة العشوائيين، والآن يتم استقباله من قبل رئيس الاتحاد السوفييتي ميخائيل غورباتشوف. ترك هذا اللقاء انطباعا قويا لدى ماركيز، وفي وقت لاحق تحدث أكثر من مرة بتعاطف كبير عن زعيم بلد سريع التغير.
كاتب عراقي
“القدس العربي”