أثار أداء المنتخبات العربية في كأس العالم المُقام في قطر، الذي يعتبره كثيرون «المونديال العربي الأول» ردود الفعل الاعتيادية، التي ترافق كل مناسبة كروية كبيرة. المتابعون فرحوا بما رأوا أنه انتصارات غير مسبوقة لـ»العرب» في اللعبة: السعودية فازت على الأرجنتين، وتونس على فرنسا، فيما وصل المغرب للدور ربع النهائي، منتصراً على ألمانيا وإسبانيا. إلا أن شعور الفرحة، الذي من المفترض أنه شعور أوّلي وبسيط، كان أكثر إشكالية من اعتباره مجرّد ابتهاج مشجعين بإنجازات فرقهم المفضّلة.
كي تشجّع فريقاً عربياً، لست من مواطني دولته، ولا يُعتبر من الفرق ذات الجمهور العالمي (البرازيل، الأرجنتين، ألمانيا، فرنسا، إلخ) فعليك أن تواجه أكثر الأسئلة الثقافية تركيباً، أي ما يتعلّق بالهوية والدين والتاريخ واللغة. بهذا المعنى أعاد مونديال قطر طرح الأسئلة العربية مجدداً، لكن ليس على مستوى الثقافة النخبوية، بل في مجال كرة القدم، الذي كان دائماً ميداناً لكل أشكال العصبية والعصبية المضادة في الثقافة الجماهيرية.
بالمقارنة مع الحالة الأوروبية، تثير المناسبات الكروية الكبرى عادةً، خاصة كأس الأمم الأوروبية، قلق كثير من الليبراليين واليساريين في القارة، إذ أنها قد تُستغل لإحياء النزعات القومية، على مستوى كل بلد أوروبي على حدة، وهو الأمر الذي قامت الفكرة الأوروبية بالأصل على أساس تجاوزه، لن تحتمل القارة العجوز عودة الحساسيات بين إنكليز وفرنسيين وألمان وبلقانيين، أو استخدام كرة القدم لإعادة بناء الهوية القومية في وجه المهاجرين والأقليات. حالة «العرب» معاكسة إلى حد ما، فالفكرة العربية الحديثة لم تنشأ أصلاً لتجاوز نزعات قومية محلية صلبة وعدوانية، بقدر ما حاولت صياغة هوية حداثية جمعيّة لبشر متنوّعين ومشتتين، كانوا من رعايا امبراطوريات وممالك وإمارات تقليدية، انهارت مع نهاية الحرب العالمية الأولى؛ ثم وجدت الفكرة لنفسها مدّاً شعبياً كبيراً مع صعود حركات التحرر الوطني في العالم العربي. ترافق هذا بالطبع مع كثير من القمع ومحاولات إلغاء مجموعات إثنية ولغوية وثقافية أخرى، إلا أن الرابطة العربية عموماً ظلت أداة تجميع وتواصل بين مختلفين، تمّ التنظير لها بوصفها جانباً من المبدأ التقدمي لـ«حق الشعوب في تقرير مصيرها» وليس أداة لإنتاج الخصوصية والتفرقة الهوياتية.
بات كل هذا، إلى حد كبير، من الماضي، فنموذج دولة الاستقلال العربية انهار تماماً، في فترة ما بين حرب الخليج الثانية وثورات الربيع العربي؛ أما التحرر الوطني، وكانت الجزائر مثلاً من حالاته الأهم على المستوى العالمي، فلم يخلّف إلا نتائج مؤلمة، وهويات وطنية مضطربة. رغم هذا ما يزال الشعور العربي موجوداً، «تفضحه» كرة القدم. هل يمكن تفسير هذا الشعور؟ ولماذا يصعب تجاوزه، رغم كل الانتقادات الساخرة له، بوصفه رواسب عصبيات، شبه قَبَليّة وشبه دينية؟
رومانسية العرب
يصعب اعتبار عوامل مثل اللغة والتاريخ المشترك والدين مؤسساً بديهياً لروابط جمعيّة تتمتع بالديمومة، فمن يتكلمون لغة ويعتنقون ديناً واحداً لن يصبحوا بالضرورة «أمة». هنالك جهد أيديولوجي وثقافي وسياسي لبناء الجماعة، لن يكتمل ويكتسب الفعالية إلا إذا عمل على الجانب العاطفي والانفعالي. أي لكي تكون عربياً فلن تكفيك «المادة الخام» من العوامل المشتركة، بل يجب أن تحبّ العرب. وإنتاج فضاءات المحبة هذه كان شاغلاً لكل الحركات القومية منذ القرن التاسع عشر. انبنت الجماعات السياسية «الشعوب» الدول الوطنية على كثير من النزعات الرومانسية، التي اهتمت بالهوية والأساطير المؤسِّسة والخيال العاطفي. حتى الأمم التي نشأت في وقت سابق لصعود النزعة الرومانسية، مثل الولايات المتحدة الأمريكية، لم تكن ستستطيع الاستمرار لو لم تعمل على هذا الجانب، فحوّلت الرابط المصلحي بين مهاجري الأرض الجديدة إلى «حلم أمريكي» وحق في «السعي وراء السعادة» ما مكنها من تعميمه وطنياً وعالمياً.
العرب ليسوا حالة فريدة. مرّت الفكرة العربية بكثير من المحطات العاطفية الأساسية، خاصة في عهد التحرر الوطني. يمكن هنا ضرب أمثلة أساسية، على رأسها القضية الفلسطينية، التي صلّبت الشعور العربي، ومنحته بعداً أخلاقياً شديد الرومانسية (قد يجادل كثيرون في عروبة المغرب مثلاً، لكن هذا لن يمنع لاعبي منتخبه الوطني من رفع العلم الفلسطيني بشغف عند انتصارهم)؛ الثورة الجزائرية، التي أوحت لـ»العرب» أن رابطهم العاطفي أقوى من كل محاولات اجتثاث الهوية؛ فضلاً عن الشخصية الكارزمية/الأبوية لجمال عبد الناصر، التي شعر كثيرون بعد وفاته، بمن فيهم معارضوه وضحاياه، باليتم؛ ثورات جنوب الخليج العربي، في اليمن وعُمان، كانت مجالاً لتمازج الماركسية المتطرفّة مع الشعور العربي، بأكثر صيغه رومانسية.
ربما من الصعب توقّع أن تعود العربية الرومانسية لمكانتها بوصفها رابطة سياسية، قليلون من يفكرون الآن بالتحرر الوطني أو «الوحدة» والجهد منصب على إنقاذ ما يمكن إنقاذه من دول وكيانات وطنية قائمة. وقد يكون هذا استخداماً طريفاً وغير متوقع للفكرة العربية: حافظوا على السلام الاجتماعي، كي لا تنهار دولكم، وتتشردوا مثل «إخوانكم» العرب الآخرين.
وعلى الرغم من وجود طروحات أخرى، تتمتع بالمتانة الفكرية والاعتدال السياسي، مثل الطرح الليبرالي للقومية المصرية، كما نراه لدى مفكرين مثل أحمد لطفي السيد، إلا أن هذه الطروحات لم تستطع إنتاج رموز تواصلية فعّالة، تملأ الجانب العاطفي والانفعالي لدى الناس، الذين «أحبوا» أن يكونوا عرباً.بهذا المعنى يمكن اعتبار الشعور العربي «وسيلة تواصل معممة رمزياً» إذا استعرنا مصطلحات عالم الاجتماع الألماني نيكلاس لومان، تماماً مثل مفهوم الحب الشغوف، الذي ساهم في إنتاج الذاتية المشخصنة في أوروبا مطلع عصر التنوير، عبر الاحتفاء بالخيال والمغامرة والرغبة والنوازع النفسية العميقة. مكّنت «العروبة» ملايين البشر من تعريف ذاتهم الجمعية؛ تبسيط تعقيد تاريخهم وثقافتهم إلى صيغ سهلة الفهم؛ والأهم بناء علاقات مشتركة، تتمتع بالقرب والحميمية.
يمكن، من منظور ما، اعتبار منتجات الرومانسية، مثل الحب الشغوف والقومية، بل حتى الروابط الطبقية العاطفية للفئات الدنيا، نوعاً من الاستيهامات النفسية، أو حتى عُصاباً فردياً وجماعياً، لا يؤدي فقط للمحبة، بل للعصبية والإجرام، لكن يبقى أنها «وسائل تواصلية» شديدة الفعالية، لا يمكن فهم المجتمعات الإنسانية الحديثة دونها، كما يصعب خلق أي علاقة أو رابطة في غيابها.
العربية البيضاء
انتشرت العربية الرومانسية عبر أدوات الحداثة بالتأكيد: التعليم الحديث، الطباعة، الإذاعة والتلفزيون، إلخ. وكُرّست دستورياً في قوانين الدول العربية الناشئة، ما يطرح سؤالاً مهماً عن أسباب استمرارها بعد انهيار نموذج دولة الاستقلال العربية، واضمحلال أجهزتها الأيديولوجية. كيف تبقى «العروبة» مع تعليم متداعٍ، وخطاب سلطوي لم يعد يثير إلا السخرية المريرة؟ توجد مقترحات كثيرة للإجابة، منها أن العربية ما زالت فاعلة في مجالين، استطاعا التمازج مع العولمة والعمل ضمن قنواتها: المجال الأول هو إنتاج ما يمكن تسميته «اللغات البيضاء»؛ والثاني الأهمية التسويقية للعربية في مجال صناعة الثقافة الجماهيرية pop culture.
والمقصود بـ»اللغات البيضاء» ليس فقط لغة التعليم العربية (الكلاسيكية المبسّطة، المسماة «فصحى») التي اعتُبرت لغة رسمية في كل الدول الأعضاء في الجامعة العربية، وكرّستها وسائل الإعلام ومؤسسات الدولة، وعملت المجامع اللغوية على ضبطها وإعادة قوعدتها أمام كل المستجدات الثقافية، لكن أيضاً لغات توصف بـ»العامية» مثل الشامية والمصرية البيضاوين، اللتين استطاعتا تعميم نفسيهما على مجمل الفضاء العربي، لتكونا مفهومتين ومتداولتين وذاتي قيمة تواصلية كبيرة، رغم الاختلاف الثقافي واللغوي الكبير في العالم العربي.
نجاح هذه اللغات ارتبط بتقدّم ثقافة «البوب» العربية المشتركة، خاصة مع طفرة التمويل الخليجي لها، في مجال الإعلام وصناعة الترفيه. وتعميمها مع نشوء القنوات الفضائية، ومن ثم وسائل التواصل الاجتماعي. هنالك مجتمع عربي للتلقي الثقافي لا يمكن إنكاره. يقرأ كتباً صادرة من مدارس وأكاديميات ودور نشر موزّعة في الدول العربية؛ يشاهد مسلسلات وأفلاماً، ويستمع لأغانٍ؛ ينقر ويعلّق ويشارك منشورات وصوراً وفيديوهات قصيرة على وسائل التواصل. هل هذا آخر مواطن «العربية»؟
عربية سياسية؟
ربما من الصعب توقّع أن تعود العربية الرومانسية لمكانتها بوصفها رابطة سياسية، قليلون من يفكرون الآن بالتحرر الوطني أو «الوحدة» والجهد منصب على إنقاذ ما يمكن إنقاذه من دول وكيانات وطنية قائمة. وقد يكون هذا استخداماً طريفاً وغير متوقع للفكرة العربية: حافظوا على السلام الاجتماعي، كي لا تنهار دولكم، وتتشردوا مثل «إخوانكم» العرب الآخرين. رغم هذا فاجأ ما يسمى «الربيع العربي» كثيرين بما أنتجه من رابطة سياسية على أساس عربي: ثورة في تونس ستعني موجات ثورية مستمرة في كل الدول، التي وصفت نفسها يوماً بالعربية. يذكر من شاركوا في ذلك الاضطراب الاجتماعي الكبير إعادة اكتشافهم المفاجئة، وشديدة القوة، للشعور العربي. الربيع العربي بدوره انتهى، ولا يمكن توقّع ما قد يأتي بعده. يبقى أن مونديال قطر قال شيئاً جديداً حول الرابطة والشعور العربي، الذي يبدو أنه لن يزول بسهولة. ما المعنى السياسي لكل هذا وسط التعقيدات الشديدة للحاضر؟ سؤال شديد الصعوبة، لا يمكن لأحد حالياً الإجابة عليه، لكن ربما لا بأس في أن ندع «العرب» يفرحون قليلاً بإنجازات «إخوانهم» الكروية.
كاتب سوري
“القدس العربي”