كما العديد من الدول الغربية، والتي كانت تاريخياً «بيضاء» في صورتها الذاتية، تشهد الولايات المتحدة تحولات كبيرة تطال تركيبتها العرقية، وتسير باتجاه ألا يكون العرق «الأبيض» صاحب الأكثرية فيها مع حلول منتصف هذا القرن. غير أن هذا التوقع ينضوي على إشكاليات.
الإشكالية الأولى هي في تعريف «العرق». والمسألة هنا تتعدى تفاصيل العلم المنهجي للأعراق، والذي اتسم بالزخم النظري والعملي قبل قرن من الزمن، قبل أن يقوّض ثم يلغى في أعقاب الحرب العالمية الثانية لدوره المفترض في التسبب ببعض أشنع الفظائع. هذا العلم المنهجي يعود اليوم، وإن من الباب الخلفي للمؤسسة العلمية من خلال النجاح التقني الواسع في تحليل الحمض النووي وما استجمعه من نتائج. ولا يزال هذا العلم الجديد في مطلعه، وآفاقه في الاستعمالات المفيدة، كما المضرّة، واسعة جداً. بعض نتائجه قد وظفّت للتوّ، رغم طراوتها، في قراءات فكرية عرقية على أساس انتقائي مساند لوجهات النظر القائمة ابتداءاً في رسم حدود الأعراق.
تعريف الأعراق، تاريخياً واجتماعياً في الولايات المتحدة، ينطلق من قاعدة أولية، ضمنية غالباً، صريحة أحياناً، بأن شرط الانتماء إلى «العرق الأبيض» هو النقاء. فمن كان أحد والديه «أسود»، هو «أسود» (كما حال الرئيس الأسبق باراك أوباما). بل من كان أحد أجداده الأربعة «أسود»، فهو «أسود»، وهلم جرّاً، إلى أن تنطمس ذاكرة الجد الأعلى «الأسود».
في زمن الاطمئنان العرقي، أي في ثمانينات القرن الماضي وتسعيناته، قد يكون الأمر اقتصر على حد وجود الأصول السوداء الجزئية من عدمها. أما في زمن القلق العرقي، كما هو الحال الآن، فإن معايير الانتماء للعرق الأبيض تزداد تشدداً، ليقتصر هذا الانتماء على ذوي الأصول الأوروپية والمسيحية. أي أن المواطن من أصول عربية، شرط البشرة البيضاء طبعاً، يخرج من توصيف «الأبيض» إن كان مسلماً. أما إذا كان مسيحياً فإن قبوله ضمن هذا التوصيف يصبح مرتجّاً. وكذلك حال المواطن المسلم من أصول ألبانية مثلاً، أي أوروپية صرفة، فإنه قبوله ضمن «العرق الأبيض» غالباً ما يأتي مقروناً بلزوم تخليه عن أبعاده الإسلامية.
يذكر هنا أن الأوروبيين الجنوبيين، من اليونانيين والإيطاليين وغيرهم، بل وسائر الكاثوليك مثل الإيرلنديين، كما اليهود، كانوا خارج تعريف العرق «الأبيض». أي أن تعريف «البياض» ليس ثابتاً، بل هو بدوره توصيف متحول، ابتدأ مع الصورة الذاتية المغلقة للاستيطان الأول في العالم الجديد، الإنكليزي الپروتستانتي، قبل أن يستوعب مقومات «بيضاء» جديدة، أو أن يتحفظ عن استيعاب أخرى (فالهيسپانيك ذوي البشرة البيضاء والأصول الأميركية اللاتينية ليسوا «بيض»)، أو أن يخرج غيرها من التعريف الذاتي (مثل غير الأوروپيين من «البيض»، والمسلمين «البيض» وإن كانوا أوروپيين).
الولايات المتحدة طبعاً، خلافاً للسويد، أو إيرلندا، أو سويسرا مثلاً، لم تكن يوماً بلاد «البيض» حصرياً. فهي قد قامت على الاستيلاء على أراضي السكان الأوائل، «الحمر»، والذين اضمحلت أعدادهم مع العدوان إلى ما يقارب الزوال، وعلى استعباد المستقدمين من قارة أخرى، «السود». ولكنها، في تعريفها لنفسها يوم ابتدأت، كانت بلاد حضارة أقامها «البيض» لأنفسهم، في مواجهة توحّش «الحمر»، وبالاستعانة بسواعد البدائيين «السود»، والذين أناط بهم القدر (أو الطبيعة، أو الإرادة الإلهية) مقام العبودية والرق، عسى أن يتحقق لهم بذلك بعض الارتقاء. على أي حال هذا كان الرأي الشائع، عقلاً وديناً، والتفسير الغالب حينئذ للنصوص المقدسة. ومجمل من رأى بالاستعباد ظلماً واعتداءاً يومها، أراد للسود أن ينعتقوا. ثم أن يرحلوا.
لم تحسم الولايات المتحدة مسألتها العرقية حتى بعد الحرب بين الولايات الجنوبية والشمالية قبل أكثر من القرن ونصف القرن. نظام الاستعباد انتهى رسمياً في أعقاب هذه الحرب، إنما مع استمرار أشكال منه فعلياً لعقود طويلة بعد ذلك، من خلال تواطؤ السلطات المحلية والشرطة والقضاء في بعض النواحي الجنوبية. أما التمييز الرسمي الصريح بين «البيض» و «السود» في بعض الولايات، بما في ذلك تخصيص المرافق العامة على أساس التراتبية العرقية، ومنع التزاوج بين الأعراق فلم ينتهِ إلا في ستينات القرن الماضي، إثر حملة الحقوق المدنية. ما تبقّى، على ما يراه المعترضون، هو أقدار من التمييز البنيوي الضمني، منها ما يسيء معاملة المواطنين «السود» من جانب رجال الشرطة وغيرها من الجهات المسؤولة، ولا سيما القضاء وإدارة السجون، ومنها ما يمنع هؤلاء المواطنين من تكافؤ الفرص بالمقارنة مع أقرانهم «البيض»، في التعليم والوظائف، بل في الطبابة والسكن.
ولكن رغم كل ذلك، وبالتوازي مع التمنّع عن التخلي عن الاعتبارات العرقية في أوساط عديدة («بيضاء» إنما أيضاً «سوداء»)، فإن الولايات المتحدة قد شهدت على مدى تاريخها تصاعدياً تجربة تعايش وتجاور وانصهار قلّ مثيلها، كما اعتمدت خطوات وتشريعات عدة لتصحيح التفاوت والتمييز، بغضّ النظر عن جدواها، وصولاً إلى تشكيل صورة ذاتية للبلاد على أنها، وإن لم تتجاوز التمييز العرقي بالكامل، فإنها في طريقها إلى هذا التجاوز، في إطار سيرها الحثيث الأكيد نحو «اتحاد أفضل».
أي أن النظرة الإيجابية المتفائلة لواقع الولايات المتحدة ومستقبلها المرتقب كانت إلى أمس قريب قائمة على توجهين متكاملين، أحدهما هو الانخفاض التدريجي وإن البطيء أحياناً لمظاهر التمييز والتفرقة بما يفترض الوصول المحتّم إلى الانتهاء منها سواء عاجلاً أو آجلاً، والآخر الارتفاع المستمر لمساحة التفاعل البنّاء والحياة المشتركة، بين الأعراق كما خارج الاعتبارات العرقية، بما يعزّز التوقع بأن القادم هو مجتمع متناغم متكامل في إطار التعددية والاندماج.
على أنه في مقابل هذين التوجهين «الإيجابين» ثمة توجهان معارضان، «سلبيان» (السلبية والإيجابية هنا إشارة للمضمون وليست حُكماً تقييمياً). أولهما التوسع التراكمي لجهود المراجعة التاريخية، في أوساط تقدمية «بيضاء» و «سوداء»، والمبنية على مفهوم المسؤولية «الجنائية» لـ «العرق الأبيض» كشخصية معنوية إزاء مظلومية «العرق الأسود»، وما يستتبع ذلك من مطالبات تعويضية، إنما أيضاً اقتصاصية. أي أن المسألة ضمن هذا التوجه لا تقتصر على إزالة المعوّقات المترسّبة أمام التقدم «الأسود» اليوم وحسب، بل تطرح دعوة صريحة لتفكيك «الامتياز الأبيض»، كمنظومة حية ونشطة، من خلال خطوات تصحيحية، تعويضية، وعقابية.
أما التوجه «السلبي» الآخر، فهو في ازدياد القبول في الأوساط «البيضاء» لمقولة أن المحرك الحقيقي لجهود المراجعة والتصحيح والتعويض ليس الرغبة بالعدالة والمساواة، بل جملة من الأهداف المبيتة، تبتدئ بالانتقام العرقي وتصل إلى حد السعي إلى القضاء على الولايات المتحدة ماضياً وحاضراً ومستقبلاً كناتج «أبيض» يستحق الزوال، وما يلي ذلك من استجلاب لنظريات «الاستبدال الكبير»، و «الإبادة البيضاء» و «المسألة اليهودية»، وغيرها من الطروحات التي تدعو إلى التعبئة العرقية للتصدي لها.
ربما أن هذين التوجهين السلبيين كانا ليفرضا نفسيهما على الخطاب الفكري في الولايات المتحدة بعد استفحالهما في تسعينات القرن الماضي، في خضم «حروب الثقافة» التي استعرّت حينها. غير أن هم «الإرهاب» والخطر الخارجي الذي جسّده النشاط الجهادي العالمي أرجأ هذا التبدل في الخطاب الفكري لقرابة العقدين، فيما استمرت العوامل الموضوعية الموجبة له بالتفاقم. أي أن عهدة الرئيس السابق دونالد ترامپ ليست السبب في الهزّة الخطيرة التي طالت الصورة الذاتية للولايات المتحدة، بل هي وحسب، من جراء اعتماد الرجل على الفظاظة قولاً وفعلاً، ومن إساءاته الخطيرة في التعامل مع الأحداث، مسيرة اليمين المتشدد في شارلوتسڤيل ثم المظاهرات التي تلت مقتل جورج فلويد، قد رفعت الغطاء عن واقع متحقق للأزمة العرقية وإن كان ظهوره يواجه التحفظ.
التفاعل مع الموضوع العرقي في الولايات المتحدة أمسى اليوم تجاذباً متواصلاً بين هذه التوجهات الأربعة، الإيجابيين والسلبيين. ولكن، نتيجة التقوقع الذي تحبّذه الحالة المستجدة للانتاج والاستهلاك الفكريين، عبر وسائل التواصل الاجتماعي كالوسيط الأول، بما قلّص إلى حد التلاشي المساحة المشتركة بين التيارات الفكرية المتضادة، فإن التفاعل مع هذا الموضوع ليس بمجمله حواراً أو نقاشاً، بل هو انحدر إلى مستوى إشهار القناعات الراسخة وحسب، بأن سمة الخصم هي الشرّ أو القصور أو الاعتلال، أو ما هو مركّب منها جميعاً، بما يقلّص الحاجة إلى الجدل والمراجعة الذاتية والسعي إلى الإقناع، ويسمح بالاكتفاء بإسقاط الآخر إطلاقاً، وإعلاء الذات إطلاقاً. ليس هذا الواقع حصراً على الولايات المتحدة طبعاً، وحصة المحيط العربي منه شاسعة بدورها.
يصلح النظر إلى الفضاء الإعلاني كنموذج للتفاعل مع الموضوع العرقي. وما يصحّ بشأنه يطال كذلك كافة أوجه التعبير الثقافي، من أفلام ومسلسلات وروايات وغيرها.
قطاع الإعلانات في الولايات المتحدة، كما في غيرها من البلدان، يعتاش على الصورة الذاتية المثالية للمجتمعات، ينقحّ الواقع، ويبرز الإيجابي والجميل والمتوافق عليه للترويج لموضوعه. ربما هذا ما يجعل معظم الإعلانات تظهر الاختلاط العرقي، كعائلات، أو كشبان وشابات في علاقات عاطفية، بين الجنسين ومثلية، وكأنها المثال الأكثر رواجاً في البلاد، وذلك رغم ندرتها النسبية وقائعياً. أو هل هو استسهال من هذا القطاع لاستعمال الاختلاط، بدلاً من تخصيص كل عرق أو فئة بإعلانات خاصة؟
في هذا العالم الإعلاني، المدراء والأطباء وأصحاب القرار هم في معظمهم من «السود» وغيرهم من «الأقليات»، مع غلبة للنساء على الرجال. لا بأس بالطبع، من وجهة نظر تقدمية، ألا يكون هذا متطابقاً مع الواقع الحالي، حيث أن هذا الواقع بدوره ليس طبيعياً بل هو نتيجة إجحاف تاريخي في طريقه إلى التصحيح. فأنْ يُظهر الخيال الإعلاني ما يمكن أن يكون، بل ما يجب أن يكون، هو تحبيذ للأجيال الصاعدة من الفتيات والفتيان من «السود» وغيرهم بألا يستسلموا لأدوار معلّبة فرضها التمييز الممنهج.
ليس الأمر كذلك البتة لدى من يتجاوب مع التوجه السلبي القائل بالأهداف المبيتة المعادية للعرق «الأبيض». بل هو مشروع هندسة اجتماعية ثقافية تفكيكية قائمة تحديداً على تهميش «الرجل الأبيض» وإذلاله، حيث هو العمود الفقري لتاريخ الولايات المتحدة بل للإنجاز الحضاري العالمي، حيث هذا الرجل في الفضاء الإعلاني إما كهل شرير أو إمعة هشّ مرتبك ضعيف، أمام الرجل «الأسود» المستجمع لصفات الكمال.
هكذا يمسي الإعلان، وهو الأداة التجارية في الأساس، أداة تصحيح تاريخي اجتماعي بنظر البعض، أو سلاحاً وجودياً لتهديم بنيان الإنجاز الحضاري من وجهة نظر أخرى. وكما الإعلان، كما غيره من مظاهر الانتاج والاستهلاك الثقافيين.
في ظل ارتفاع الوعي ذي الطابع العرقي، الأسود والأبيض وغيرهما، ومع إعادة إيجاد موطأ قدم جديد للعلم العرقي، تبدو المقاربة النافية لجوهرية الأعراق، والقائلة بأن اللون، أو العرق، يتوقف عند حد البشرة، عقائدية في نشأتها وإطارها. ولكنها فيما يتعدى الأوجه النظرية هي على أي حال اليوم مفتقدة لمن يتلقفها ويعتمدها، خارج إطار المجاملات الخطابية. فالمواجهة الضمنية متحققة اليوم بين الدعوة إلى التعددية، أي الإقرار بالاختلاف العضوي للأعراق مع جمال التعايش، أو المطالبة بالانفصال العرقي على أساس صعوبة التعايش أو استحالته أو غلبة ضرره.
لم يعد في الولايات المتحدة اليوم خطاب فكري بارز أو موقف سياسي يعتبر الوعي العرقي عرَضاً يجب تجاوزه أو تحييده في السلوك العام. ولا يمكن انتظار عودة خطاب من هذا الصنف مع اقتراب خسارة «العرق الأبيض» لأكثريته العددية. أضعف الإيمان بالتالي هو إيجاد الإطار للعودة إلى حوار لا يبتدئ بالتجريم والاستهجان، ولا بتسفيه الخصم واستحماره، ليسمح الحوار الناتج عن ذلك تنفيس الاحتقان.
“الحرة”