اعتاد الناسُ القول في الأيام الأخيرة من ديسمبر/ كانون الأول، إن العام يلفظ أنفاسَه الأخيرة، وبوصول عقارب السّاعة إلى الثانية عشرة من منتصف ليلة 31 ديسمبر/ كانون الأول يموت عام مضى ويولد عام جديد، عادة ما يحمّلونه أمنيات التفاؤل وشحذ الهمم، وذلك رغبة من ابن آدم لدفع الذكريات السيئة والمؤلمة جانباً، ليستأنف حياته بمتعة بقدر الممكن، أو على الأقل بكمية أقل من المعاناة والمنغّصات، كل احترام للإنسان في هذا الجانب الإبداعي.
الحقيقة التي يدركها الجميع أن هناك أعواماً مُعمّرة، لا تلفظ أنفاسها مع التقسيم الميكانيكي الذي اخترعه الإنسان للوقت، بل إن هناك دقائق وساعات وأياماً وسنوات تعيش أكثر بكثير من مدة الزمن الآلي الذي تُنسبُ إليه، ومنها لحظات تبقى محفورة في ذاكرة شخص أو شعب ما لعقود أو قرون، أو حتى في ذاكرة البشرية كلها، لأنَّ فيها إسقاطات أحداث لم تنته بعد، هكذا مثلاً عام 1789، عام اقتحام سجن الباستيل واندلاع الثورة الفرنسية بما حملته من بشرى لفرنسا وأوروبا والعالم من مفاهيم للحرّية وكرامة الإنسان، وباتت مصدر إشعاع للمفكرين والأمم ودساتيرها عبر العالم، ولهذا يسرع الناس لتذكّر الثورة الفرنسية ومبادئها، كلما وقعت أحداث ذات طابع عنصري في فرنسا بالذات أو في أوروبا عموماً، العقبى لشعوبنا في الحرية، ولباستيلاتنا في تحويلها إلى متاحف.
لن ينسى أيُّ ألماني ذلك اليوم الذي هَدم فيه الشبان الألمان سور برلين وأعادوا توحيد بلدهم، لا بد أن كل ألماني تعتريه قشعريرة عندما يتذكر سقوط الجدار في تلك اللحظات في التاسع من نوفمبر/ تشرين الثاني من العام 1989، العقبى لسقوط جدران بلادنا، ولجدران سايكس بيكو في وطننا العربي بأن تزول.
في 24 شباط/ فبراير من هذا العام 2022 بدأ الغزو الروسي لأوكرانيا، كانت في البداية عملية عسكرية محدودة، وظهر بوتين كامبراطور لا يقاوَم، وبدت العملية في بدايتها مُسلّية أكثر من كونها مطحنة لعشرات الآلاف من أبناء الشّعبين، خصوصاً كما كانت تظهر في الإعلام الرّوسي، مبهّرة ببيانات رمضان قديروف، الذي كان يظهر مثل شخصيات ألعاب الأطفال، يهدّد ويتوعد العدو بمسحه ومحقه وإبادته، إلى درجة إعلانه أنه سيصلّي صلاة عيد الأضحى في ساحات كييف، في الوقت ذاته كانت تثير الدمع والألم في قلوب أولئك الذين أدركوا أنّ تاريخاً جديداً يكتب بالدم، بين روسيا وأوكرانيا، وأنّ
النهايات ليست كما البدايات،
وأن خاركوف ليست حلب، وكييف ليست إدلب، فالأسلحة تختلف، والمصالح تختلف، وحتى أرواح الناس التي تُزهق تختلف.
من ناحية أخرى، فقد حمَل هذا العام بشرى خير وهدية جميلة للعرب، طبعاً من خلال مونديال 2022، الذي جرت فيه عملية جبّارة ذات بعد تاريخي في إعادة صياغة مفاهيم كثيرة تخصُّ العرب، وهو حدثٌ خرج من حدود الرياضة وكأس العالم، ليكون له أثره الإنساني الحضاري بعيد المدى، على العرب والأوروبيين بشكل خاص،
وذلك من خلال الظّهور المختلف جذرياً عمّا هو سائد إعلامياً في الغرب وأمريكا، فقد جاءت الصورة معاكسة تماماً، ونُسِفت دعايات وصور نمطية قبيحة للعرب والمسلمين، اشتغلت عليها ماكنات إعلامية هائلة، يديرها جهابذة الإعلام الغربي والأمريكي والصهيوني، وبعض السَفلة من العرب.
هذا العام أعاد للعرب شيئاً من كبريائهم وصورتهم التي شوهّتها الدعايات وأنظمة القمع الفاشية العربية، وأولئك الذين ارتكبوا الفواحش والفظائع تحت عباءة الدين الإسلامي.
سوف يُذكَرُ هذا العام بأنه عام استعادة العربي لثقته في نفسه وقدراته، وبأنَّها بداية تحوّل سيكون لها أثرها على الأمة العربية ومكانتها بين الأمم.
أما على الأصعدة الشَّخصية فلكل إنسان قصّته، قد يكون هذا العام ذكرى لقاء بين عاشقين أوّل مرّة، يذكرونها في الأعوام التالية، أو ذكرى انفصال بين حبيبين بعد سنين من نعيم الطمأنينة والحب، أو فقدان عزيز، وقد لا يكون فيه شيء يُذكر، فمرَّ به أكثر الناس مثل المرور قبالة مرآة معلّقة على جدار في محطة قطارات، ولكن هناك ملايين من الأطفال عبر العالم كله مروا بتجارب شخصية لن ينسوها، وذلك أن الطفل يتأثر بكل يحدث معه، مهما كان صغيراً، وخصوصاً بأحداث غير عادية تبقى محفورة في ذاكرته مهما مرَّ الزَّمن، أحياناً كلمة تشجيع من مُعلّمة.
من بين أطفال العالم الذين مرّوا بتجربة خاصة، هم مئات الأطفال الفلسطينيين الذين اعتقلوا خلال هذا العام، من بينهم ستمائة من أطفال القدس دون الرابعة عشرة، هؤلاء المقدسيون الصغار، عرفوا الاعتقال المنزلي، لأن القانون لا يجيز حبسهم في السّجون التقليدية، كلُّ واحد منهم سيذكر طيلة حياته، بأنّ شرطة الاحتلال اعتقلته واعتدت عليه، وجلبته إلى قاعة المحكمة وهو مكبّل في يديه، عندما كان في الثانية عشرة أو الحادية عشـــرة أو العاشرة من عمره، وأنّ شرطيين أحاطا به، وأحدهما ثبّت قيداً إلكترونياً في ساقه، كي يبقى مراقَباً في سجنه البيتي، فلا يستطيع أن يصل حتى الدكان القريب، وسوف يتذكّر كيف كان يسهر مع قدمه، وهو يحاول العثور على طريقة يفكّ بها قيده الإلكتروني، أو محاولة تخريب الجهاز بقلم حبر أو مفك صغير وغيره.
ستنمو ستمائة زيتونة مقدسية، لن تزعزعها الرياح بعد هذه المعمودية، سيكبُر هؤلاء وقد صاروا رجالاً منذ هذا العام.
سيكون هذا الاعتقال ذكرى شرف وفخر لكلٍ منهم، وأنّه في هذا العام انضم إلى حوالي ستة آلاف من الرّجال والنساء الذين اعتقلوا في الفترة نفسها للأسباب نفسها، وبينهم مئات آخرون من أطفال شعبه الذين اعتلقوا في مناطق أخرى من الوطن، ومنهم من جرحوا أو استشهدوا في العام نفسه، أو هُدمت بيوتهم، سيذكر هؤلاء الأطفال كيف اقتحمت شرطة الاحتلال بيوتهم، أو كيف قبضت عليهم في كمين في شارع أو زقاق، وكيف اعتدت على أهليهم، وكيف خرَّب شرطي لئيم بعض محتويات البيت، وسوف يذكرون كل كلمة بذيئة أطلقها شرطي بذيء تجاههم أو تجاه أحد أبناء أسرهم.
لم يلفظ العام أنفاسه، لا على صعيد دولي ولا عربي ولا شخصي، إنه عام من تلك الأعوام المعمّرة، وما زال في بـــــداياته.
“القدس العربي”