تأخر ميخائيل سعد كثيراً في إصدار كتابه الأول، وهو المثقف المخضرم الذي لديه الكثير ليقوله عن تجربة حياتية غنية، حيث عاش داخل الشأن العام السوري اللبناني الفلسطيني في دمشق السبعينيات، وفي بيروت بداية الثمانينيات، وعمل في الصحافة الثقافية ونشر الكتاب، وبنى علاقات واسعة في أوساط السياسة والكتابة والفن، وبالتالي يشكل كتابه “حكايات الوطن والمهجر” سفراً في الزمن السوري الضائع، القريب منه والبعيد. ويسجل الكتاب الصادر حديثاً عن دار “موزاييك” في إسطنبول، قسطاً من سيرة الكاتب وحياته التي توزعت بين وطنين أساسيين سوريا وكندا. وتتكون مادة الكتاب من أربعة فصول هي عبارة عن تأملات ومرويّات الكاتب في الأمكنة التي عاش أو مر فيها، ويحظى بالجزء الأكبر موطن الحكايات الأصلي سوريا البلد، الذي تركه مهاجراً إلى كندا قبل اندلاع الثورة السورية بأعوام.
ويسير الكاتب في عمله على نهج الحكواتي الذي ينسج حكايته من البيئة المحلية والوسط حيث يعيش، وهي تبدو للوهلة الأولى كأنه يتركها على سجيتها، لكن الأمر مدروس بعناية، ولكل حكاية فكرة ومغزى. يفتح باب الحكاية ولا يقطع حبلها، لا يضع لها نهاية، بل يتركها مفتوحة على بلده باختلاف مناطقه واتجاهاته. يترك للسرد الحكائي أن يأخذ مداه بلُغة غير معقدة. يعود إلى القرية والأب الشرطي والأقارب الفلاحين، ليروي بعض تفاصيلهم في قالب حكائي خفيف، يجمع بين الخبر والكشف والطرافة أحياناً.
يقدم الكاتب محمد منصور للكتاب، ويقول إن سعد “لا يكذب ولا يتجمل، لأنه يؤمن مثل أي كاتب أصيل وشجاع أن الجمال الحقيقي يكمن في الصدق، الصدق الخادش للأقنعة، والخادش للزيف، والخادش لكل قيم المثالية المصطنعة في السلوك والرؤية”. ومن هذه المقدمة يمكن تلمّس الخط العام للكتاب الذي يقدم في قسط منه حكايات عائلية تعود إلى قريته “حزور” في ريف حماه، وتتعدد القصص بتنوع شخصياتها الرئيسية من العائلة، مثل العم أبو الياس والخالة سكر والعم جرجي والعم رستم والوالد الشرطي الذي يتنقل في سوريا من دمشق إلى اللاذقية ثم إلى حماه، وفي هذه التنقلات يحصل العدوان الثلاثي على مصر، ويزور عبد الناصر حماه، وفي ذلك كله إسقاطات على واقع الثورة السورية. ومن الأحداث المأسوية وفاة الوالدة باكراً، ووفاة الوالد الستيني متأخرا. وفي فصول أخرى، إضاءات سريعة على شكل فلاشات، لشخصيات عرفها الكاتب أو تقاطع معها، وأحداث عايشها أو شهد عليها أو تابعها من قريب وبعيد وسجل مواقف منها، وأمكنة عاش أو عبَر فيها. وهو في ذلك كله، ينقل من الداخل برؤية ذكية مجردة من الإنشاء. ويذهب منصور إلى عمق الكتاب ليكشف أن فرادة ميخائيل سعد الحقيقية تكمن في القدرة الخلاقة على تحويل الوطن إلى حكايات. ويعتبر سعد أن ذلك قرّبه من مكونات المجتمع السوري، وحرر لغته وأسلوبه، فسجل ما اختزنه لسنوات طويلة.
يعد ميخائيل سعد، راويَ حكايات، ولديه موهبة تمكّنه من التقاط الأحداث، ولذا تعد صفحته في فايسبوك مدوّنة غنية، لا يغلب عليها المحتوى السريع والذاتي والبُعد الخبري، بل هي منصة حكايات، بعضها عبارات عن يوميات يسمّيها نمائم، وبعضها مرويّات يطلق عليا اسم دفاتر، وجميعها يتقاطع مع محتوى الكتاب، وهي تطرح الكثير من القضايا التي تفجرت مع الثورة السورية مثل الطائفية، أو تلك التي سكت عليها السوريون كثيراً قبل الثورة، كالمناطقية والتعصب والدين والحب والزواج..إلخ. وهو بذلك يوظف خبرته وثقافته ووعيه الذاتي في مواجهة المسكوت عنه، بلا مجاملة وبرؤية نقدية حادة مفعمة بالطرافة.
يوسع الكتاب المساحة حيث يقف ميخائيل سعد، الذي يُعدّ ظاهرة سورية، يعرفها ويتابعها الآلاف في فايسبوك. هو صحافي ومكتبجي سابق ومهاجر ورحالة، يقسم وقته في الوقت الحالي ما بين كندا وتركيا. وقد دأب منذ أعوام على كتابة يوميات في فايسبوك، ونشر صور، يسجل فيها الأحداث والأخبار، العام والخاص معاً. ولذا تحفل الصفحة بتفاصيل تجتذب أصنافاً مختلفة من المتابعين، من بلدان ومناطق ومستويات مختلفة، لكن كندا وتركيا تظلان محطتين أساسيتين، وسوريا الوطن الأم هي المرجعية، ويتشكل مجتمع الصفحة من الأصدقاء والعائلة الصغيرة. وهو لا يكاد يهمل تفصيلاً من التفاصيل التي يلتقطها بالعين والأذن أو الكاميرا التي يحملها معه دائماً، من دون أن يسجله خبرياً قبل كل شيء، ويعلق عليه في المقام الثاني.
وتشكل الصفحة في فايسبوك فضاء لمتابعة أخباره، وهي في الغالب تتجاوز الذاتي إلى الشأن العام السوري بتقاطعاته، وبذلك تغدو أسفاره وتنقلاته ولقاءاته، أفراحه وأحزانه، اللقاءات والزيارات، حكايات ذات نكهة خاصة، لا سيما أنه ينسجها بحب، ولا ينشد منها الدعاية لنفسه، أو لأحد، أو تحقيق مردود مادي، أو معنوي، ومع مرور الوقت تحولت إلى نافذة يطل منها كثيرون في الاتجاهين، وقد قادته إلى نجومية لم يخطط لها، وصار للصفحة متابعون بوصفها منبراً متميزاً. هناك مَن يقرأ فيها أخبار الآخرين، والبعض الآخر يطمح لأن تظهر صورته أو أخباره من خلالها. وكونه لم يخطط للأمر حين بدأ تسجيل التفاصيل اليومية، فقد أعطى الصفحة نكهة خاصة، وميّزها عن الصفحات التي تنشد الدعاية لأصحابها أو الترويج لهم ولغيرهم بهدف تحقيق مكاسب من وراء ذلك. ورغم أن الصفحة تحظى بآلاف المتابعين الدائمين، فإن سعد لم يغير في المضمون والشكل، وهذا أكسبه شعبية أكبر. وتجدر الإشارة إلى تقاطعات أساسية بين مادتي الكتاب والصفحة.
عاش الكاتب في العقد الأخير، أعواماً عديدة، مرتحلاً بين مونتريال الكندية وإسطنبول التركية. وتعد مونتريال وطنه الثاني بعدما اضطر لمغادرة سوريا، هرباً من الاعتقال المديد بعدما مكث في السجن لفترات متقطعة، بعضها لأسباب سياسية مباشرة، والبعض الآخر على خلفية وشايات كيدية من تجار كتب نافَسهم حينما افتتح مكتبة ناجحة في مدينته. وتحتل إسطنبول المكانة الثانية بعد مونتريال، وما شده للذهاب إليها هو اللجوء السوري، خصوصاً من الصحافيين والكتّاب والأصدقاء الذين غادروا سوريا، واستقروا في هذه المدينة التي تشكل محطة لقاء بين الشرق والغرب وبين العالم العربي وتركيا. ومنذ أعوام صار الكاتب يقسّم وقته بين المدينتين، يمضي القسم الأكبر من الوقت مع عائلته الصغيرة وأصدقائه الذين يسميهم “الختايرة” في مونتريال، ويخصص الوقت المتبقي لإسطنبول التي انطلق منها لاستكشاف بقية المدن التركية، لا سيما تلك القريبة من سوريا، واستقر به المقام منذ أعوام في مدينة ماردين الحدودية، ليبدأ دراسة التاريخ في جامعتها، مع أنه تجاوز السبعين.
يصلح هذا التعدد الذاتي، والسفر بين الأمكنة مادة لكتاب جديد، يسجل هذه التجارب الفريدة والثرية على مدى عأعوام، خصوصاً وأنّه لم يسبقه أحد على تدوين التفاصيل السورية ما بين كندا وتركيا.
“المدن”