لم تعد الأمور تقاس، بعد بداية الربيع العربي، بالكيفية ذاتها التي كانت تقاس فيه من قبله. لم يعد بالإمكان النظر إلى مَن تموضع بجانب الأنظمة، وإجرامها، وتاريخها في القمع والإرهاب الذي مارسته وتمارسه، بالعين نفسها التي يُنظَر فيها إلى مَن تموضع مع الناس، ودفع ثمن تموضعه، سواء بالقتل، أو بالنفي، أو بالتعتيم والقصاص، أو بتشويه السمعة الذي تجيد الأنظمة العربية ممارسته تاريخيًا.
هذا مأزق يفترض بأي مشتغل بالفن أن يتنبّه إليه. عليه أن يدرك، أن فترة الرفاهية لها أحكام لا تساق بالمعايير والآليات ذاتها التي تساق فيها فترة الضرورة. أي أن معادلة الانفصال عن القضايا الاجتماعية والسياسية، عن قضايا الشعوب، في زمن الانتفاضات الشعبية الساعية نحو الحرية والعدالة والحقوق، ليست مسألة حرية رأي أو تعبير، وبالتأكيد ليست كتلك القضايا والمعايير التي يمكن لأي شخصية عامة، أو فنية، أن تشترك فيها، أو أن تنصرف عنها.
المعادلة ليست على هذا القدر من البساطة منذ بدأت الشعوب المواجهة. وهنا بالتحديد يتموضع كثر من غير المعنيين أو غير المتضامنين مع جورج وسوف. فالتباين الدائر في وسائط التواصل الاجتماعي بشأن الموقف من رحيل وديع وسوف، نجل الفنان جورج وسوف، لم يأتِ من فراغ.
ليس هذا التباين الحاصل، والتعارض الحاد في الرأي، المتعلّق بأي قضية على مستوى لبنان أو العالم العربي، بالأمر الجديد والطارئ. بل لطالما كان التباين، وفي الحالتين، يعكس واقع التشظي الذي نعيشه. منذ قررت الأنظمة عمومًا، والنظام في سوريا على وجه الخصوص، قتل كل من يعيش في مناطق غير تلك التي يسيطر عليها، وأحيانًا القتل والاعتقال والتعذيب والاغتصاب ضمن المناطق التي يسيطر عليها.
لقد كان تموضع الوسوف ونجله إلى جانب نظام “البعث”، في مسعاه هذا، مسألة لا تحتمل وجهات النظر عند البعض، بأي شكل من الأشكال. إذ لا يمكن أن تكون مسألة السكوت عن رمي البراميل المتفجرة على الأحياء الآمنة، الأحياء التي تحوي جمهور هذا الفنان أو ذاك، مسألة تفصيلية وتفضيلية، يمكن أن يشعر الفرد بالخجل فيسجّل موقفاً ضدها، أو أن يشعر بالحرص فيسجل موقفاً لها ومعها.
فأن يتموضع الوسوف مع قاتل جزء من جمهوره، هو إقرار ضمني بأنه يكره هذا الجزء، وبأنه يحقد عليه، أو بأقل الأحوال، لا يأبه ولا يكترث لأمره أو لحياته. أن يكسر كل ما يجمعه من صلات مع هذا الجزء من الجمهور، صلات إنسانية قبل أن تكون اجتماعية وفنية، يعني أن ينتهي من النظر والتفكير في الحكم على أي من السياقات التي سيواجهها لاحقًا، سواء كانت ستسجّل تضامنًا معه، أو نفورًا ولامبالاة منه ومن مصابه.
لقد أصبحت الأمور، وأحكامها، على هذا القدر من الوضوح والبساطة، بعد الإصرار المستمر على قتل الناس، أو بالأحرى التصفيق لمن يمارس هذه الهواية. فهذا الموقف يحرّر الآخرين من أشكال التضامن مع أي مصاب في الآتي من الأيام، ولذلك نراهم يسألون: هل نتضامن معه، ونحزن لحزنه، وهو لم يتضامن، بل كان يهلل عندما واجه أبناؤنا نيران وبراميل من يتموضع إلى جانبه علنًا، وبلا خجل؟ أليس هذا نوعاً من التسوية العادلة، في أن يتذوق بعضًا من هذا الطعم المر، الذي يتذوقه، وبشكل مستمر، جمهوره ومجتمعه السوري منذ سنوات؟
لا يكفي كل ما يمكن أن يُكتب ليجيب على هذا النوع من الأسئلة، خصوصًا عندما يتعلق الأمر بالموقف السياسي، ولاحقًا الإنساني، للفنان. سواء الموقف من الناس، أو من الأنظمة وسعيها الدائم والمستمر إلى إبادة كل مَن يخالفها. لربما يبرر البعض هذا النوع من الأحكام، ولربما يرفضها البعض الآخر. لكن الأمرين يتموضعان في سياقين تامين مكتملين ومغلقين، إما أن يكون الفرد في هذا، أو يكون في ذاك، بشكل تصعب معه إمكانية قياس كون الفرد داخله أو في الخارج. فيكون النظر إلى السؤال بصيغته الأخلاقية الأكثر مباشرة على منوال واحد: هل تحزن على موت ابن هنا، وتكون فرحًا، أو بالأحرى غير مبالٍ، أو مهلّلٍ لقتل نجل هناك؟
لربما لا يعجب البعض هذا النوع من الاحاجي، ولا طبيعة هذه الأسئلة. لربما يعتبره البعض لا أخلاقيًا، لمجرد الطرح. لربما يكون فوق أخلاقي أيضًا وأيضًا. لكن المواقف بسياقاتها، فمَن اختار هذا السياق لا يمكنه أن يعاير مَن اختار سياقاً مختلفاً. ما يعني أنه من غير المبرَّر لمَن حزن مع الوسوف، الانزعاج من لامبالاة أو عدم حزن الآخرين، فلكل مسار سياق يوصل إلى نتيجة مختلفة، وإلى موقف أخلاقي وشعوري متباين.
لربما وضعنا الربيع العربي، وهذا كل ما تبقى منه حتى اللحظة، أمام سياقات أصبحت نتائجها محصورة في بعض المجالات، وهنا هي محصورة في احتمال: لهم ملء الحرية في الحزن، في البكاء والنحيب، في التفجّع. هذا حزنهم، هذا حقهم… وللآخرين حرية النأي.
“المدن”