مستيسلاف تشيرنوف مصور أوكراني عالمي، يقيم في ألمانيا، ويعمل مع وكالة أسوشيتيد برس. معروف في المقام الأول بتغطيته للحروب والنزاعات في أوكرانيا وسوريا وليبيا وناغورنو كاراباخ، وقطاع غزة ومعركة تحرير الموصل، وما رافقها من تدمير واسع النطاق للمدينة العريقة. وهو من التقط الصور الأولى من موقع تحطم طائرة بوينغ الماليزية، وبداية الاحتلال الروسي لإقليم دونباس (دونيتسك ولوغانسك) عام 2014.
من أهم أعمال تشيرنوف صوره وأفلامه الوثائقية المروعة عن مآسي ماريوبول من داخل المدينة المحاصرة، خاصة الإصابات بين الحوامل والأمهات والأطفال الرضع في دار الولادة في المدينة المنكوبة (وقد حصّل لقاء هذا العمل المحفوف بالمخاطر على العديد من الجوائز الدولية المرموقة منها جائزة دويتشه فيله لحرية التعبير، وجائزة نايت للصحافة الدولية، وجائزة الإعلام الحر). وصفوة القول إن تشيرنوف مصور حربي شجاع وبارع، يخوض غمار الحروب والنزاعات من أجل الحصول على صور وأفلام فنية معبرة، وكان قاب قوسين أو أدنى من الموت عدة مرات، وتعرض للضرب المبرح على يد الجندرمة البيلاروسية خلال تغطيته لاحتجاجات المعارضة. ما يلتقطه تشيرنوف من صور وأفلام وثائقية تنشر في أهم وسائل الإعلام العالمية (بي بي سي، نيويورك تايمز، واشنطن بوست، وغيرها) لكنه ـ كما يقول في مقابلة صحافية – شعر دائما بأن الصحافة ليست كافية للكشف عن مشاعر الناس وقصصهم. كتب تشيرنوف روايته الأولى «وقت الأحلام» باللغة الروسية. ومعظم شخصياتها من الروس، فقد أراد الكاتب أن تكون روايته مقروءة من قبل السكان الناطقين بالروسية خاصة في شرق أوكرانيا. وهو ليس الكاتب الأوكراني الوحيد الذي يكتب بالروسية، فهناك العديد من الأدباء الأوكرانيين الذين يكتبون بهذه اللغة، لأنها لغتهم الأم أو لغة تعليمهم، وفي مقدمتهم أندري كوركوف، وهو أشهر كاتب أوكراني في الأوساط الأدبية الغربية.
الكتّاب الأوكرانيون يستلهمون أعمالهم في العادة من تاريخ أوكرانيا وتراثها الثقافي وواقعها الراهن دون تناول موضوعات ذات صلة بالسكان الروس، الذين يشكلون حوالي 17% من إجمالي سكان البلاد، ويتركزون في إقليم دونباس. «وقت الأحلام « رواية ذات طابع إنساني، وأول عمل أدبي كبير وغير أيديولوجي في الأدب الأوكراني، يصوّر الحرب في دونباس من منظور الانفصاليين الروس في المقام الأول، ويخلو من وجهة نظر المؤلف وأحكامه القيمية .يقول المؤلف: «من خلال مراجعتي ليومياتي عن دونباس، أدركت أنني بحاجة إلى شخصية داخل الصراع وخارجه في آن واحد. كان من الضروري الحديث عن الحرب من وجهة نظر شاهد عيان، وليس من وجهة نظر مقاتل. نظرا لأنني لم أرغب بتاتاً في تأليف كتاب عن سيرتي الذاتية، أو كتاب عن عمل الصحافيين في المناطق الساخنة، ووقع اختياري على طبيب ليكون بطل الرواية».
وقت الأحلام
رفضت دور النشر الأوكرانية نشر «وقت الأحلام» لأنها عبّرت عن وجهة نظر «الطرف الآخر» ما عدا دار نشر «سوميت « التي تحملت المجازفة. النقّاد الأوكرانيون تجاهلوا صدور الرواية، ولم يلتفتوا إليها، واتهم بعضهم المؤلف بأنه ليس وطنيا بما فيه الكفاية، غير أن ترجمتها إلى الأوكرانية والإنكليزية والإقبال الواسع عليها، دفعت النقّاد إلى إعادة النظر في موقفهم، والكتابة عنها على نحو لا يخلو من نقد مبطن.
«وقت الأحلام» رواية طويلة معقدة تقع في حوالي 500 صفحة. وتتميز باتساع الموضوع، والعمق النفسي غير المعتاد لباكورة عمل أي كاتب.. وهي مزيج من السرد الوثائقي والإثارة النفسية المستوحاة من تجربة المؤلف، حول البقاء على قيد الحياة، والعيش في ظل الحرب، والأمراض العقلية، وإدمان الكحول، في عالم أصبح فيه حتى الحب له حواف خشنة. وتتمثل إحدى الخصائص الرئيسية في «وقت الأحلام» في تداخل الحدود بين الخير والشر، والواقع والخيال، والحرب والسلام، رغم أن هذه الأشياء تبدو متناقضة ظاهرياً. كل الحروب تبدو متشابهة من الداخل: الخوف والمعاناة والخسارة والموت. يعتقد الكاتب أن الحرب كابوس جماعي يكاد يكون من المستحيل الاستيقاظ منه.. «نحن جميعا، بمعنى ما، نعيش في زمن الأحلام. هناك أربع قصص فرعية لأربع شخصيات رئيسية في الرواية، تتطور بشكل مستقل عن بعضها بعضا، عبر مساحات شاسعة تمتد من شرق أوكرانيا إلى جنوب أوروبا، ثم إلى جنوب شرق آسيا، وهي مختلفة من حيث الأسلوب، مرتبطة ببعضها بعضا من خلال موضوعات الصراع الوجودي، والخط غير الواضح بين الواقع والأحلام.
تتشابه مصائر بعض الأبطال من حيث شعورهم بالتوحد والبحث عن معنى الحياة في عالم الواقع الأوكراني الحديث، الذي يتسم بانقسام الهوية البشرية، والصراع الداخلي الذي يدور في نفس كل أوكراني. مع تطور هذه المسارات السردية، من خلال المشاهد المروعة للصدمات الشخصية والجماعية، تتجلى فكرة مستوحاة من مفهوم السكان الأصليين الأستراليين لزمن الأحلام. الحياة مثل حلم مجنون، الأحلام تحل محل الحياة، والنوم هو الإبداع الأكثر حرية .ويقول تشيرنوف: «لقد أصبح الواقع مادة بالنسبة لي، المادة الوثائقية تسمح برسم المشاهد، لكنها لا تنقل الأحاسيس التي تثيرها. وصف الأحلام تحديداً، هو الأسلوب الذي يسمح بالذهاب إلى ما هو أبعد من الوصف الخارجي، ويسمح بإظهار العالم الداخلي للإنسان وصراعاته ومفارقاته. هذه فرصة للنظر في الأعماق.
الشخصيات الرئيسية
بطل الرواية طبيب أوكراني، يشير إليه المؤلف بحرف (كاف). ومن خلال عينيه نرى الميليشيات الانفصالية تقاتل من أجل الجمهورية، كما نرى المدنيين يتساقطون جراء القصف (الأوكراني على الأرجح) ويموتون من الجوع. الطبيب يبدو كرجل عمل، ومهمته هي إنقاذ الناس. فهناك الكثير من الدماء المتدفقة، واللحم الممزق، والألم المبرح، والموت المفاجئ. وكان من المحتمل أن يصاب الطبيب (ك) بالجنون، لكنه يصمد ويتماسك رغم الكابوس الذي يدور حوله. لديه مهمة يمليها عليه ضميره وواجبه المهني. ومن الواضح أنه ليس من مؤيدي الانفصاليين. وهم بالنسبة إليه مجرد جرحى أو مرضى يحتاجون إلى العلاج.
المهندس المعماري فريدريك، الذي يعاني من اضطرابات عقلية، ويخوض في نقاشات مطولة عن الحب والكراهية، والأحلام، والحياة والموت، ومصير العالم وأزمة الحضارة الحديثة. يرسل إلى ماريا رسائل طويلة، مشبعة بأفكار فلسفية متطرفة، معظمها من صنع خياله المريض. الشخصيتان إيفا (حواء) وماريا (مريم) تتميزان بمعالجة نفسية عميقة ودقيقة، وشكل الاسمان التوراتيان للبطلتين لعبة غريبة المعاني: إذا كانت حواء العهد القديم هي المرأة الأولى، فإن المرأة الشابة إيفا هي الأخيرة بمعنى ما. وقد وجدت نفسها وحيدة في أتون الحرب، وهي تعتني بوالدها المريض – في منزل نصف مدمر بفعل القصف الأوكراني – في مدينة سلافيانسك، التي يسيطر عليها الانفصاليون الروس – والقذائف تتساقط على مسافة غير بعيدة عنها.. لا ماء ولا كهرباء، وتستخدم إيفا الحطب للطبخ، والسكان قابعون في منازلهم، وهناك عدد قليل من المتاجر والصيدليات المفتوحة. الخروج من المنزل مغامرة لا تحمد عقباها، وهناك نقاط تفتيش كثيرة في أرجاء المدينة.
البناء الروائي
في «وقت الأحلام» الحرب في شرق أوكرانيا واحدة من الفضاءات الرئيسية التي تتكشف فيها الأحداث. عمل المؤلف في العديد من النقاط الساخنة في العالم، ويبدو أنه قرر وضع كل تجربته الحياتية وانطباعاته في روايته الأولى. هناك فصول تتناول كاتانيا الإيطالية مع احتجاجاتها المناهضة للهجرة، ودير بوذي، وقصة كراهية في شقة في خاركوف، ومستشفى للمرضى الميؤوس من شفائهم، وسفينة عالقة في عاصفة. وهذا ترهل بنائي كان ينبغي تجنبه، فعلى سبيل المثال، كان من الأفضل الاحتفاظ بقصصه عن الاحتجاجات المناهضة للهجرة في إيطاليا، والدير البوذي في جبال الهيمالايا، والسفينة العالقة للكتاب التالي، لأنها ليس لها تأثير يذكر في تطور القصة الرئيسية. ثمة خلط بين الأنواع الأدبية (الرواية النفسية، والرواية البوليسية) ويصعب على القارئ التمييز بين الواقع والحلم. وتؤدي خطوط الحب في الرواية وظيفة تكامل الحبكة – وبمساعدتها يحاول المؤلف الجمع بين المواد الفنية غير المتجانسة. يعترف تشيرنوف أنه قبل ثماني سنوات، بدأ بكتابة «وقت الأحلام» كرواية عن العلاقة بين فريدريك وماريا، لكن بعد أحداث عام 2014 في دونباس، طغت هذه الأحداث على بقية الخطوط السردية. شخصيات الرواية لها أسماء (فردريك، إيفا، ماريا) ما عدا الشخصية الرئيسية الطبيب (ك) الذي يشير إليه المؤلف بهذا الحرف، على غرار بطل رواية «القلعة» لفرانز كافكا. وقال تشيرنوف في مقابلة صحافية إنه من عشاق أدب هذا الكاتب الألماني – التشيكي العظيم .
كاتب عراقي
“القدس العربي”