بالصياغة ذاتها التي يُكتب بها خبر عادي، نشر الكاتب والروائي شاكر الأنباري على صفحته فيسبوكية صورة كان أرسلها له الشاعر السوري أكرم قطريب. أما تعليق الأنباري على الصورة فكان الآتي: «الشاعر لقمان ديركي وأنا في الوسط ثم الشاعر عادل محمود. والزمن: صيف سنة الألفين في دمشق. يعيش الشاعر السوري لقمان ديركي في فرنسا، وأنا أعيش في الدنمارك وانتقل الشاعرالسوري عادل محمود إلى السماء. والمكان: في بيت الشاعر السوري حازم العظمة ويعيش اليوم في فرنسا. ومن أرسل هذه الصورة الشاعر السوري أكرم قطريب، وكان حاضرا، وهو يعيش في أمريكا».
أول ما تدفع إليه هذه الكلمات هو أن يسرع من يقرأها إلى إضافة أسماء لشعراء آخرين عرفهم، هناك في دمشق، أو هنا في بيروت حين كانوا يأتون إليها، وقد باتوا الآن في تلك البلدان التي سمّى شاكر بعضها. كانت المسافة القليلة بين المدينتين تتيح ذلك، كما تتيح تكرار تلك الزيارات التي تمثّلَ فصلُها الآخير بالزيارات الوداعية التي قام بها أدباء سوريا وفنانوها ومثقفوها لزملائهم في بيروت. هؤلاء كانوا كثيرين، وجميعهم أعدّوا أنفسهم لإقامة طويلة، دلّت السنوات التي توالت بعد رحيلهم على صحة ما كانوا قد هيّأوا أنفسهم له. كنا، هنا في لبنان، قد سبقناهم إلى ذلك بسبب الحرب التي بدأت في 1975 ولم تعرف كيف تنتهي. العراقيون كانت لهم هجرتهم، العريضة أيضا، بل الكاسحة لأجيال لم تكن قد اعتادت بعد إلى الانتقال من محافظة إلى محافظة في داخل بلدها. فهؤلاء الذين نشأوا على إلفة إقامتهم حيث كانوا يقيمون، لم يزوّدهم الأدب الذي كانوا يقرأونه بأمثلة عن الهجرات، باستثناء رحلة مصطفى سعيد إلى بريطانيا (بطل رواية الطيب صالح «موسم الهجرة إلى الشمال») حيث بدا بطل هذه الرواية فاتحا وبمثابة المغامر الأول. وقد فشل تابعه، كما في الرواية أيضا، في أن يقلّده حاذيا حذوه.
الأرجح أن زمنا طويلا سينقضي لن تتجاوز الكتابة فيه مسألة ذاك الانتقال وما كان سبقه وما سيلحق به، أعني تذكّر زمن ما قبل الهجرة، ومشكلات التأقلم مع أمكنة الإقامة الجديدة. هكذا فعل سابقوهم، أدباء المهاجر الأول الذين استغرقهم الحنين فكتبوا هناك عن حياتهم كيف كانت هنا. فهم، حسب كلمات شاكر الأنباري باتوا وحيدين هناك، لكونهم متوزّعين في بلدان كثيرة. ونتذكّر هنا أنه حتى أولئك الذين حظوا بالانتقال إلى بلد واحد، توّزعوا هم أيضا، وذلك بناء على خطط وضعها مستقبلوهم، على مناطق (داخلية) متباعدة.
لم يعد مكان الهجرة واحدا مثلما كان، ولا قريبا مثلما كان أيضا. ليس كما كانت بيروت في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، حيث كان الجميع هنا، وقد قدموا من العراق وسوريا ومصر وبلاد أخرى. كانت بيروت منفى أليفا لا بدّ، مقارنة بأمكنة الهجرة الجديدة، كذلك كانت مصر حين أمّها، في مطالع ذلك القرن، من سموا هناك بالشوام، ذلك القرب لم يعد متاحا. لم تعد أي من الدول القريبة تتيح الانتقال إليها أو الإقامة فيها، بل لم تعد هذه البلدان قابلة لأن يبقى مواطنوها أنفسهم فيها.
ما سيكون هو أدب مهجري جديد، لكنه هذه المرّة شامل لأكثر ما يُكتب. كما سيكون متوزّعا بما يستبعد إمكان تفاعل بعضه مع بعضه الآخر. الدور التي تقام في بلدان الغرب لنشر ما يكتب بالعربية لا تعدو كونها مؤسّسات صغيرة لا طاقة لها على توزيع كتبها. ما أمكن لنا قراءته هو ما يرسله بالبريد الشاعرُ أو الروائي الذي هناك، إلى الشاعر أو الروائي الذي هنا، والعكس بالعكس. لكن بين أقوى الدلالات التي تحملها كلمات شاكر الأنباري، وكذلك ما تحمله الصورة التي دعته إلى كتابتها، هو الحنين إلى ذلك الزمن، حيث كان الجميع كلّهم هنا. الآن بات على شاكر أن ينتقل من الدنمارك، حيث يقيم، إلى برلين ليلتقي واحدا منهم فقط. مجتمع الأدب، أو صداقة الأدب، هما ما يمثّله من كانوا في تلك الصورة ومن عملوا على التقاطها وإرسالها من ثمّ. هذا المفتقد الذي قطع الجميع أشواطا في الاعتياد عليه. من ذلك مثلا أن يعدني صديق صار في هولندا أنه سيأتي في السنة المقبلة ليقضي أياما هنا، لكنه ما فتئ يرجئ ذلك إلى السنة التي بعدها، كما يقول حين لا يجيء.
كاتب لبناني
“القدس العربي”