الروائي ميشيل ويلبيك لا يتوقف عن إثارة الجدل من حوله، وهو يقف هذه المرة في صدارة مجموعة من الكتّاب والصحافيين، الذين يشنون هجوماً مفتوحاً على الإسلام والهجرة المغاربية، بما يتجاوز حدود النقد والحوار، إلى التحريض وإثارة الكراهية، الأمر الذي دفع مسجد باريس الكبير لتقديم شكوى قضائية ضده هي الثانية خلال أعوام، على خلفية تصريحات “تثير الكراهية تجاه المسلمين”، أدلى بها في مقابلة مع مجلة “فرون بوبيلير” (الجبهة الشعبية) الفرنسية، التي يصدرها الفيلسوف الفرنسي ميشيل أونفراي.
وكان ويلبيك قد قال في حوار مطول، أجراه معه أونفراي في العدد الرابع للمجلة، الذي حمل غلافه عنوان “نهاية الغرب”، إن “رغبة الفرنسيين الأصليين، كما يقولون، ليست في أن يندمج المسلمون، بل أن يتوقفوا عن سرقتهم ومهاجمتهم، وإلا فهناك حل آخر، أن يغادروا”. وتحدث عن المخاطر التي تنتظر الحضارة الفرنسية مستقبَلً،ا مستشهدًا بالدين الإسلامي، حين قال إن “المسلمين يسلحون أنفسهم ويحصلون على البنادق، ويتلقون الدروس في ميادين الرماية”. ومما جاء في تصريحات ويلبيك أيضًا أنه “عندما تكون جميع المناطق الفرنسية تحت السيطرة الإسلامية، أعتقد أن أعمال المقاومة ستقع، وستكون هناك هجمات وإطلاق نار في المساجد، والمقاهي التي يرتادها المسلمون. باختصار هناك مناطق في فرنسا ستنقلب رأسًا على عقب وستحدث مجازر”.
ليس ويلبيك وحده من يتحدث اليوم في فرنسا بهذه اللهجة التحريضية، فهناك من ينافسه، كما هو حال الكاتب والصحافي إريك زيمور، الذي ترشح للانتخابات الرئاسية في العام الماضي، وحاز على نسبة 7%، متجاوزاً بذلك حزب الجمهوريين الذي يمثل اليمين التقليدي. إلا أن ويلبيك يعد الوحيد من عالم الأدب الذي يروج هذه الأطروحات الصادمة، ويبدو أن جذور العداء لديه تصل إلى الولادة والبيئة العائلية، كما أن صوته صار أعلى وبات مسموعا أكثر منذ أن حصل في العام 2010 على أرفع جائزة أدبية فرنسية للرواية “غونكور” من دون كثير عناء. وهناك شبه إجماع بين النقاد على أنها مستحقة ولا لُبس فيها، ولم ينتقدها أحد تقريباً، سوى من ينظرون إلى الأدب من خلال شخص الروائي المثير للجدل أو ما سمي بالابن العاق للأدب الفرنسي.
اكتشفه موريس نادو، أحد أكبر النقاد الفرنسيين، وصاحب الفضل الكبير في اكتشاف الكثير من المواهب الفرنسية والأجنبية، ونشر له نصوصاً وكتباً في صحيفته الأدبية نصف الشهرية “لاكانزين ليترير” وفي دار النشر التي تحمل اسم الناقد “موريس نادو”. ومنذ ذلك الوقت ينظر المراقبون والمتتبعون للشأن الأدبي الفرنسي إلى نصوص ويلبيك بكثير من الاهتمام، ويتخيلون انفجاره بين لحظة وأخرى.
ولا شك أن قوة ويلبيك نابعة من تعدد مواهبه، فهو شاعر وروائي ولديه ميول فنية كبيرة، سينما ومسرح وفن تشكيلي، كما أنها نابعة من قراءته للواقع الأدبي الفرنسي والعالمي وإلمامه بما وصل إليه الأدب العالمي، حالياً. كما أنه يعرف أن الإثارة أحياناً تساهم في رواج الكِتاب، حتى وإن كانت المَحاكم تتدخل، من حين لآخر، لحل معضلة ما.
من الصدف التي ساهمت في شهرة ميشيل ويلبيك، انهيار المعسكر الاشتراكي ومعه اليسار العالمي، وبالتالي انهيار مفهوم الأدب الملتزم، خصوصاً أن الأدب والفكر في فرنسا كانا في قسمهما الأكبر من صنع اليسار أو المحسوبين عليه، وحل محله أدب الذات، أو التخييل الذاتي، أو الأدب الفوضوي والبوهيمي، أو مواضيع الجيل الجديد الفاقد لكل بوصلة في عالَم معولم. كما زاد من شهرة ويلبيك ذكاؤه الحاد وكونه يعرف أي المواضيع التي يمكنها أن تثير نقاشاً وتساهم في بيع كتب. وفي روايته الأولى “المنصة”، أثار الكاتب كثيراً من الجدل حينما ضمّنها عناصر صادمة للإسلام والمسلمين، خصوصاً حينما اعتبر الإسلام “ديناً غبياً”، وأيضاً حين عبّرت شخوص في روايته عن جذلها من إقدام جنود إسرائيليين على اغتيال نساء فلسطينيات حوامل. وحينها، تقدّم مسجدُ باريس وبعض المنظمات الإسلامية بشكوى إلى القضاء الفرنسي، لكنها لم تحقق شيئاً.
وجاءت روايته الثانية الكبرى “احتمال جزيرة”، التي ترجمها إلى العربية الكاتب المغربي محمد المزديوي وصدرت عن دار الجمل، كي تتحدث عن موضوع الاستنساخ البشري، ولا تخلو من إشارات انتقادية تحط من المرأة العربية، ومن إشارة إلى احتقاره للعرب والمسلمين. في الرواية مقاطع ينتقد فيها أخته بسبب علاقاتها مع عرب مسلمين. ويبدو أن الموضوع يشغله بشكل كبير، بسبب علاقاته العاصفة مع والدته، التي تخلت عنه، حين كان صغيراً، وتولّى جدّاه بتربيته. وازداد الأمر قسوة عليه، حين علم أن والدته اعتنقت الإسلام. وكم كان مثيراً تأكيد ويلبيك المتكرر على وفاة والدته، لوسي سيكّالدي، ثم صدور كتاب والدته الذي يفند الادعاءات، وتأكيد والدته على أنها “لا تمتلك هذا الشعور الذي يجعلها تقول: إن ابنها هو أجمل ابن في العالَم، إنه غبي صغير”. ولا تقطع الحبل نهائياً، لكنها تطرح شروطاً لا يمكن لابنها أن يتخطّاها: “مع ميشيل ويلبيك، ابني، يمكن أن نبدأ في التحادث في اليوم الذي سيذهب فيه إلى الساحة العمومية، وبيده كتابه الجزيئيات الأولى، (مجموعة شعرية) ويقول: “أنا كذاب، أنا دجّال، كنت طفيلياً، ولم أفعل شيئاً مفيداً في حياتي، لم أتسبب سوى في الأذى لمن يحيطون بي. وأطلب منهم الصفح”.
حققت روايته الثانية ” احتمال جزيرة” انتشاراً جماهيرياً كبيراً (عشرات الآلاف من المبيعات، وترجمات إلى عشرات اللغات العالمية)، لكنها فشلت في الفوز بالغونكور. وكانت المبيعات سبباً لبعض الرضى من قبل الكاتب، الذي كان يعوّل على الفوز. ولم تكن تصريحات الكاتب، العنصرية أحياناً، بعيدة من فشله في الفوز، لكنه استفاد من الدرس للمقبل من الأيام.
أراد ويلبيك أن يمنح لروايته “احتمال جزيرة” آفاق كبرى وجمهوراً آخر لا يقرأ، فاقتبس منها فيلماً بالاسم نفسه، لكنه فشل فشلاً ذريعاً، وكان الأمر خسارة بكل المقاييس.
وجاءت روايته، “الخريطة والأرض” الفائزة بالغونكور، وكأننا أمام كاتب آخر، مختلف تماماً، كاتب أنجز “قطيعة” مع ماضيه، وأصبح شخصاً محترماً. لأنه عرف كيف يهذّب صورته ويجعل نفسه مقبولاً لدى شرائح إضافية من القراء. صحيح أن له قراء أوفياء، وهو ما يفسر كثرة مبيعاته، وأيضاً تلهف الصحف والمجلات على إجراء لقاءات صحافية معه، بل وتلهف بعض المفكرين المعروفين على إصدار كتاب مشترك معه، كما فعل المفكر الصهيوني الفرنسي بيرنار هنري ليفي (عَدُوَّان عموميّان، 2008). لكنه يدرك أن خلق نوع من الإجماع من حوله يساهم في تبرير قرارات لجنة خائفة من انتقادات قد تهب من حيث لا يحتسب أحدٌ. وكم كانت مثيرة قراءة نصوص تشير إلى استعادة ويلبيك للحكمة والتعقل، بعدما كان ماجناً وفضائحياً و”عنصرياً” أو يكاد.
لم يكن موضوع الرواية صادماً بالمعنى الأخلاقي، كما في السابق، حتى وإن كان انتقاده للفن المعاصر، قد أغاظ الكثيرين، خصوصاً الروائي فيليب سوليرز، حين هب مدافعاً عن بيكاسو الذي هشّمه ويلبيك في روايته وحطّ من قيمته وإبداعيته. لكن ويلبيك في هذا الكتاب سطّر حياة إنسان قلق يعيش في القرن الحادي والعشرين ويُواجِه مشاكل جديدة لم تكن في السابق، لا تني تخلقها العولمة الزاحفة. ومن هنا تشديد النقاد على كون رواية ويلبيك هي، بحق، رواية الآن، أي رواية هذا الجيل الضائع الذي تسحقه الحداثة وتخيفه مجاهيل العولمة وغموض ما هو آت.
وفي زمن غياب الأدب الكبير، بالمفهوم الكلاسيكي، الأدب الذي يتحدث عن القضايا الكبرى وعن الالتزام ومُثُل السلام والإخاء والمحبة، أصبح هذا الأدب الجديد الذي يتحدث عن هموم شبيبة قلقة، لا تملك أحلاماً كبيرة، خصوصاً بعد انهيار أحلام الاشتراكية، وبالتالي لا تعرف كيف سيكون الغدُ، هو شعار المرحلة. أصبح ميشيل ويلبيك رمزاً لهؤلاء الأبيقوريين الجدد الذين يريدون اقتناص اللذة واجتناب الألم. لكن ليس الأمر سهلاً، فها هو ميشيل ويلبيك، يقتل ميشيل ويلبيك، أي شخصيته (التي تحمل اسمه في الرواية) من دون تردد. أصبحنا في زمن عبثي، وبات الاستنساخ الجيني، وهو موضوع إحدى رواياته، أمل الكثيرين، من الذين لا يمتلكون غذاء روحياً صلباً.
ساد الظن أن جائزة الغونكور ستأخذ ميشيل ويلبيك، إلى عوالم جديدة، لكنه عاد إلى هجومه المَرَضي ضد الإسلام، ما جعله يوجه الدعوة الثانية ضده من قبل مسجد باريس الكبير، واللافت هذه المرة أن هجومه المَرَضي على الإسلام لم يلق ردود أفعال، في الوقت الذي يتحول إلى غذاء روحي لليمين المتطرف. وجاءت جريمة باريس الأخيرة عشية أعياد الميلاد ورأس السنة، التي قتل فيها متطرف عنصري فرنسي ثلاثة مواطنين أكراد في الدائرة العاشرة من باريس، لتلقي الضوء على خطورة تعميم خطاب الكراهية الذي ينتشر بسرعة حين يصدر عن كتّاب وصحافيين.
“المدن”