مع بدء الثورة الصناعية الرابعة أُلغي الكثير من الحدود بين الكيانات البيولوجية والمادية والرقمية، بالتجاور مع ما صحب ذلك من تغوّل غير مسبوق لقيم الإعلام، ولاسيما المجتمعي، الذي أحدث جملة من الممارسات منها: ثقافة الإلغاء. هذا المصطلح يكاد يكون من أشد المصطلحات حضوراً في العلوم النفسية، كما أدبيات الإعلام.
أشد ما تبرز ثقافة الإلغاء في وسائل التواصل الاجتماعي من منطلق أن الفضاء الإلكتروني أصبح يعدّ تضخيماً للفضاءات العامة القائمة – كما يصف برامود كيه نايار في كتابه «مقدمة إلى وسائل الإعلام» – وبناء عليه، فقد باتت هذه الفضاءات مجالاً للتنازع الشرس بين كتل من الثنائيات كالمجتمع المدني، والدولة، كما التيارات المحافظة والليبراليين، علاوة على أنصار البيئة، وحركات المطالبة بالعدالة والنسوية، وغيرها.. ومن هنا برز ما يمكن أن ننعته بالإلغاء الثقافي، فأضحت قيم النبذ تتجاوز الاختلاف الفكري أو الأيديولوجي، الذي كان – سابقاً واضحاً أو مبرراً – إلى ما هو أسوأ، ونعني النموذج التفسيري للعالم، كما الحكم تجاه الوجود والقناعات، بما في ذلك حرية التعبير الذاتي التي لا تندرج ضمن مشروع فكري، أو مرجعية أيديولوجية، ولاسيما في ظل تهاوي السرديات الكبرى.
اضطلعت الذاتية بمحاولة تأكيد ذاتها عبر إلغاء الآخر، أو ربما من منطلق قناعات تعتمد منظوراً يعتمد ادعاء المعرفة والتخصصية، أو ما يمكن تفسيره بأنه نتيجة تشوه مرضي في الذات.. فهذا السلوك كان قائماً منذ القدم، غير أن الأدوات التي تمظهر من خلالها، بالإضافة إلى السعة التي أتاحتها الإمكانيات الجديدة قد جعله أكثر تأثيراً، كما أحدث طيفاً من الأضرار على المستويين: الفردي والجمعي.
قد تبدو ثقافة الإلغاء أو النبذ جزءاً من ممارسات عميقة تحتمل الكثير من الطبقات والتمايزات، التي تتحدد بالنوع والعرق واللون، والطائفة والطبقي والسياسي، وغيرها، لقد باتت قيم تعريف الذات والمرجعية جزءاً من هوية الإنسان، غير أن هذه المرجعيات تبقى جزءاً مصطنعاً، ومرفوضاً تبعاً للعقل والمنطق، غير أنها قد تمسي أكثر خطورة حين تتحول الممارسة إلى عامل من عوامل الإلغاء، وهكذا تبدو جدلية التطور نحو توليد أفكار جديدة معطلة نتيجة نشوء مناخات احتكار الأفكار، ورفض التفسيرات الأخرى.
من العوامل التي ساعدت على سيادة أجواء التنابذ والإلغاء تلك الكيانات التي ما فتئت تعيد ترويج مقولة حراس الأفكار، وكأن العقلية العربية لم تتخلص بعد من فكرة السلطة، أو بمعنى آخر السيادة على ما يقع في المجال العام، بل هذا يكاد يتجاوز ما سبق إلى المجال الخاص، ولعل هذا أشد ما يكون قبحاً لدى بعض المثقفين الذين يدعون بأنهم سدنة المعرفة، والتخصصية، وهذا يعدّ نتاج ثقافة السلطة التي نشأت في أحضانها النخب المصنوعة التي تعتمد معنى التراتبية، التي وقرت في اللاوعي الثقافي نتيجة مسلكيات مؤسسية كرست هذا المفهوم، فثمة من يعتقد بأنه يمتلك سلطة التقييم من منطلق التمكن العضوي، أو الانتساب لواقع مؤسسة ما، أو ربما نتيجة تشوّه الأنا التي نتجت بفعل التضخم الناتج عن الفئوية والعلاقات، ضمن ما يعرف بالذكاء الاجتماعي، غير أن هذه المقولات ما هي إلا نتاج مبدأ بناء الصدى، أو الوهم، وهو نموذج من نماذج الدعاية التي يشبه إلى حد ما الترويج الدعائي للسلطات ذات النظم الشمولية التي تماثل في آليات عملها نسق «طبل الصفيح» كما في رواية الألماني غونتر غراس.
قد تبدو ثقافة الإلغاء أو النبذ جزءاً من ممارسات عميقة تحتمل الكثير من الطبقات والتمايزات، التي تتحدد بالنوع والعرق واللون، والطائفة والطبقي والسياسي، وغيرها، لقد باتت قيم تعريف الذات والمرجعية جزءاً من هوية الإنسان، غير أن هذه المرجعيات تبقى جزءاً مصطنعاً، ومرفوضاً تبعاً للعقل والمنطق.
لقد تسربت هذه السلوكيات في لاوعي بعض النخب التي ترعرع معظمها في كنف سلطات شربتها هذه الثقافة، بل إن هذه السلطات تكرست من خلالها، فما زال في وعي المجتمعات الكثيفة قيم الأبواق، والعصب، والمنفعة، وهذا لا يمكن أن يستقيم أو أن يتحقق ما لم نسارع إلى إلغاء الآخر، وتبني رؤية واحدة لا تعمد إلى قبول التمايز، ولهذا يذكر كولمار في كتابه أن الجماعات الدينية والشركات التجارية والحكومات، باتت الأكثر استثماراً في تبني المنظومات الرقمية، بغية تكريس الدعايات المتصلة بها؛ ولهذا فإن الفضاء العام لم يعد عاماً أو حراً… إنما هو فضاء تهيمن عليه تلك الكيانات التي تمتلك ذراعاً آخر لحجب خطاب الآخر، أو إزاحته نتيجة الإمكانيات المادية والتقنية، وعلى ما يبدو، فإن سعي الإنسان للبحث عن مناخات أكثر من حرية نتيجة استثمار أي تقدم تقني، أو علمي، أصبح يؤدي إلى نتائج عكسية. غالباً ما يتسم المثقف الساعي إلى تحييد المقولات الأخرى بسمتين: الأولى أن يكون ذاتياً إلى درجة العمى، والثانية أن يكون جزءاً من نظم ثقافية تقليدية رجعية، يمكن أن نطلق عليها شموليات ثقافية، وهي شموليات تنتج عن الإيمان بالسلطة الكلاسيكية، لكن هنالك سلطة أخرى قد تمنحها الجماهير التي قد تتخلى عن عقلها في بعض الأحيان كما يرى غوستاف لوبون، ولذلك فإن الوعي بسلطة الجماهير يتيح أيضاً تكريس هذه القيمة، فثمة في كل كيان شمولية ثقافية تمارس بتبادل المنفعة والمصلحة وإلغاء الآخر، بل مصادرة حقه بالوجود، إننا مسكونون بعصر الإلغاء، بل إن مقولة الإلغاء هي خاصية من خصائص قيم التقدم، حيث إننا نترقب ما يأتي من جديد ليلغي القديم، وكأننا في لعبة الوقوف على طابور بغية تمكين القادم كي يزيح من سبقه، أو ربما من يجاوره، أو ربما يمكن أن يعني شيئاً من التهديد.
يبدو هذا الزمن أقرب إلى ممارسة قوة جذب نحو تأكيد الذات، ويمكن تشبيه ما يحصل بما شهدته المجتمعات الصناعية من استغلال للقوى العالمة مع انطلاق عجلة الصناعة، والتشيّؤ، والاستغلال المفرط للإنسان؛ ولهذا فإن مفاصل التاريخ دائماً ما تبدأ في هذا النمط من التشوّهات، وإذا ما أردنا أن نستجلب هذا إلى المناخ الثقافي، فإن ثمة تكريساً واضحاً في عصرنا لمقولة التغوّل، بهدف تحقيق أكبر قدر من المكاسب والشهرة، كما يمكن إطلاق هذه المقولة على المؤسسات الثقافية، التي تُركت في معظم دول العالم الثالث، أو النامية دون خطط تنموية تتوجه إلى الذات والمجتمع، إذ كانت الانشغالات في تكريس السلطة، والترويج لها، كما ممارسة الإقصاء لكل من تسوّل نفسه بالثورة، فنتج عن ذلك هذا النموذج من الذاتية المفرطة، أو ربما المطلقة. لا يمكن أن نقيس معنى وجود أي كيان ثقافي، تبعاً للنموذج الكمي، أو مقدار الشهرة التي يحققها، ولا لمقدار ما يمتلكه من حظوة المؤسسة التي ينتمي إليها، فليس المثقف أو العقل شيئاً يخضع للحكم أو القيمة أو السبق… في هذا المعنى المجنح نحو السذاجة، فقيمة العقل تتحدد بقدرته على إحداث التغيير في الواقع السلبي.
إننا نشهد بروز قيم ثقافة متغولة، مع غياب شبه تام لثقافة محايدة، لا ترغب في أن تعبر عن ذاتها بمقدار ما ترغب في أن تبقى في مجال المرضي عنها، هكذا بدأنا نلاحظ أن تغييب الآخر بات ثقافة منهجية من أجل صون مناخات الفساد بأشكاله: المعرفي، والقيمي، والثقافي، وهنا يمكن تعليل هذا التراجع الحضاري في الرقعة العربية.
كاتب أردني فلسطيني
“القدس العربي”