تبقى اللغة تحديا حقيقيا أمام كل كاتب وشاعر وأديب، وحتى الروائيون الذين تشغلهم الحبكة في المقام الأول تكون اللغة تحديهم الأبرز بل وتتجاوز تحدي الحبكة، إذ على الكاتب أن يحرك شخصياته باللغة وأن يتكلم بألسنتها، وهو ما يعتبر الرهان الصعب بالنسبة إليه.
اللغة هي كلام البشر المنطوق أو المكتوب، وهي النظام الأكثر شيوعا بين البشر، لأنها تتيح للناس التحدث إلى بعضهم البعض، والتعبير نطقًا أو كتابة، عن أفكارهم وآرائهم. وتوجد اللغة أينما وجد المجتمع البشري. وتُمكِّن اللغة المشتركة الناسَ من العمل معًا بوسائل متنوعة، وقد يسّرت اللغة تشييد حضارة متطورة، ولولا وجود اللغة لما كانت العلوم والتجارة والحكومة والفن والأدب والفلسفة والدين.. الخ.
واللغة العربية إحدى أكثر لغات العالم استعمالا، وإحدى اللغات الرسمية في هيئة الأمم المتحدة ومنظَّماتِها، وهي اللغة الأولى لأكثر من 400 مليون عربي، واللغة الرسمية لخمس وعشرين دولةً في منطقة الشرق الأوسط، وتنتشر خارج نطاق تركيزها الجغرافي مع هجرة الكثير من المتحدثين بها إلى دول مختلفة حول العالم.
لغات السرد
لم ينفصل الإبداع الأدبي عن اللغة في أيّ عصر من العصور، والأديب الحق هو الذي يستطيع أن يوظف لغته في إبداعه شعرًا وروايةً وقصًّا ومسرحًا، فلا إبداع دون لغة، وإذا كان الأديب متمكنا في لغته استطاع أن يضيف إلى اللغة إبداعًا لغويًّا موازيًا لإبداعه الأدبي، فاللغة تتجلى في أصفى تجلياتها في عالم الإبداع الأدبي، وخاصة في مجال الشعر.
وقد صدر أكثر من كتاب عربي وأجنبي يتناول كيفية عمل اللغة في الإبداع الروائي، ومن هذه الكتب، كتاب “فكر اللغة الروائي” للكاتب فيليب دوفور وترجمة هدى ملقص. ويدخل هذا الكتاب ضمن نطاق تخصص علوم اللغة، والأدب، والبلاغة، والآداب العربية. وكتاب “اللغة والسرد قراءة في أساليب الإبداع الروائي” لمؤلفه جواد بنيس، وصدر عن دار رؤية.
وشهدت دراسة اللغة في القرن العشرين تحولاً عميقًا مكنها من تحديد موضوع ومنهج دراستها بدقة لا نظير لها في التفكير اللغوي السابق. ويرجع الفضل في هذا التحول إلى المجهود النظري لعالم اللغة السويسري فرديناند دوسوسير الذي استطاع أن يحقق للسانيات استقلالَها كعلم له مرتكزاتُه النظرية وأسسُه المنهجية.
اللغة الروائية أو اللغة في الإبداع الروائي تشكل هاجسا للكاتب وتحديا حقيقيا أثناء عملية الإبداع وخلق النص
وهناك كتاب “لغة الإبداع الروائي في الكتابة الروائية وكتابة القصص القصيرة”، للكاتب السوداني المعز عبدالمتعال، ويتحدث هذا الكتاب عن نوعين من اللغة، اللغة الأولى هي لغة السرد السردي، وهي المعنيّة بوصف الفكرة والحبكة والشخوص والأمكنة والأزمنة، وعمق الأحاسيس والصراع، والانفعالات. وهذه اللغة هي لغة التصوير، وتحويل الخيال إلى كائن ملموس، يشعر به المُتلقّي، كأنّه يرى القصة بعينيه.
وتتعاظم هذى اللغة وتتكثّف خلال النص، بمعنى أنّها تُشكّل لغة التدافع والقفز بين مكوّنات العمل الإبداعي المختلفة. وفي هذه اللغة – لغة السرد السردي – يجنح البعض ويختار مستوى لغة شاهقا، يبدو أحيانًا كأنّه لغة استعراضية، والبعض الآخر يختار مستوى لغة بسيط وسهل، وبعضهم يختار مستوى لغةٍ وسطى تجمع بين مذاق المستويين.
أما اللغة الأخرى في مكوّنات السرد، فهي لغة السرد الحواري، وهنا يختلف المبدعون، فمنهم من يوحّد المستويين أو اللغتين في لغة فصحى، أو عاميّة، ومنهم من يختار لغة حوار عاميّة، مع الحفاظ على حرارة لغة السرد الفصحى.
الكاتب الجيد هو الذي يُجيد استخدام اللغة في مستوياتها كافة، يغوص ويطفو بمفرداته دون أن يغرق، يومئ ويُشير دون هتاف، يباغت المُتلقّي، ثُمّ يجذبه نحو فكرته وخياله، يُحلّق معه، ويمضي به نحو عوالم الجمال.
ويوضح المعز عبدالمتعال أنه يستخدم لغة موحّدة في جميع أعماله الروائية، وهي اللغة الفصحى في مستويات السرد كافة، ويشعر أنّ اللغة الفُصحى أكثر صفاءً، وحميميةً ودفئًا، وأكثر قدرًة على الاحتدام.
الفصحى والعامية
سبق لكاتبنا الراحل نجيب محفوظ أن حسم هذه المعضلة في رواياته، وخاصة في الثلاثية (بين القصرين – قصر الشوق – السكرية) هذا العمل الضخم الذي يعد حجر الزاوية في إنتاجه الروائي. فقد استغرق في كتابتها أكثر من أربع سنوات بدقة، بهدوء، بتأن. أتعبته الثلاثية جدا، وكانت تحدوه الرغبة أن ينهي شيئا جيدا، ولكنه كان في صراع مع اللغة، كيف يذلِّلها، كيف يطوِّعها، كيف يكون الحوار مقبولا مع أنه فصيح، وكان عليه الجمع بين اللغة الفنية واللغة الواقعية على لسان الشخصيات.
وعن هذا الصراع قال نجيب محفوظ “التزمت الفصحى لأني وجدتها لغة الكتابة، ولم تتبلور تلك المشكلة إلا في وقت حديث نسبيا، وكثيرون يعتبرونها مشكلة من الدرجة الأولى، وقد تكون كذلك في المسرح أو السينما، أما في الرواية والأقصوصة، فالأمر أبسط من ذلك بكثير. الزمن وحده سيفصل فيها. والواقع أني أشعر أن الاستهانة بلغة توحد بين مجموعة من البشر هو في الوقت ذاته، استهانة بالفن نفسه، وبالعلاقة البشرية المقدسة”.
وعند فوزه بجائزة نوبل عام 1988 أوصى نجيب محفوظ، الكاتب محمد سلماوي الممثل الشخصي له في حفل توزيع جائزة نوبل، بضرورة أن يُلقي خطابه الذي جاء في ثماني صفحات فولسكاب، باللغة العربية، وكانت وجهة نظره في ذلك أن تلك هي المرة الأولى التي تُمنح فيها الجائزة إلى أديب يكتب باللغة العربية، وآن الأوان أن يُسمع جَرْسُ العربية لأول مرة داخل أروقة الأكاديمية السويدية العريقة. وهو ما حدث بالفعل.
ونتساءل عن مدى ملاءمة اللغة المكتوبة بها الرواية لشخصيات هذه الرواية، وهل يصح أن ينطق خادم أو طفل صغير أو فلاح أو عامل بسيط بلغة عربية فصيحة، وهو لا يعرف فك طلاسم اللغة، ولم يتلق التعليم الكافي لأن يكتب هذه اللغة بقواعدها الصحيحة أو بنطقها النطق السليم؟
بعض أعمال نجيب محفوظ تجيب عن هذا السؤال المهم، مثل “ميرامار” وما ورد من حوار على لسان “زهرة” خادمة البنسيون. يسألها عامر وجدي في بداية تعارفهما:
– هل تعيشين في الإسكندرية من زمن طويل؟
– تجيب زهرة (التي لا تعرف القراءة والكتابة): لم أعش في الإسكندرية، ولكن زرتها مرارا مع المرحوم أبي.
– عامر وجدي: وكيف عرفتِ المدام (يقصد مريانا صاحبة البنسيون)؟
– زهرة: كان أبي يَجيئُها بالجبن والزبد والسمن والدجاج، وكنت أجي معه أحيانا.
هذه اللغة الفصحى المبسطة التي التزم بها نجيب محفوظ، يقرأها ويتفاعل معها المثقف الكبير، والتلميذ الصغير.
الإبداع الأدبي لم ينفصل عن اللغة في أي عصر من العصور، والأديب من يستطيع أن يوظف لغته في إبداعه
ونصرب مثلا آخر بما ورد على لسان الطفل الصغير كامل رؤبة لاظ في النصف الأول من رواية “السراب”.
“لم أتعلم شيئا على الإطلاق. ولعل الفن الوحيد الذي أتقنته في مدرسة الروضة الأولية هو قياس الزمن بمراقبة تحول ضوء الشمس عن جدران الفصل، وأنا أعدّ الثواني في انتظار جرس الخروج. ولم أحفظ في بحر عام دراسي إلا بعض السور القرآنية الصغيرة التي كنت أسمع أمي ترددها في صلاتها”.
وعندما احتدم النقاش بين الطفل كامل وجَده بعد طرده من المدرسة لفشله الدراسي، قال الجَد لابنته (والدة كامل): لا فائدة تُرجى من إعادته إلى المدرسة الأولية، سأُحضر له مدرسًا خصوصيا هذا العام.
يقول الطفل: أنصت إليه وأنا لا أصدق أذني، سألته وأنا أداري فرحي: هل أبقى هذا العام في البيت؟ فحَدَجَني بنظرة غاضبة من عينيه الخضراوين وقال بغيظ: يا فرحةَ أمِّكَ بك!
ولعل العبارة الأخيرة “يا فرحةَ أمِّك بك” التي جاءت على لسان الجَد تعد مثالا حيا ودالا على ما نحن فيه من التداخل بين العامية والفصحى في إبداع نجيب محفوظ، هي عبارة فصيحة لا شك في ذلك، ولكنَّ أصلَها عامي، وستُنطق في العامية “يا فرحة أمك بيك”. ولكن استطاع نجيب محفوظ أن يخلصها من عاميتها ببساطة شديدة ومهارة فائقة، وفي الوقت نفسه كانت تتقمص ظلال العامية المصرية.
وعندما التقى كامل زميلا له في الفصل في أول العام الدراسي سأله الطفل بغير مناسبة: هل أبوك الذي جاء بك؟ يُحني كامل رأسه دلالة الإيجاب. فعاد الطفلُ يسأله: ما مهنتُه.. وما اسمُه؟
هكذا تجري اللغة الفصحى البسيطة على ألسنة الناس البسطاء والأطفال من شخصيات نجيب محفوظ، أثناء حوارهم اليومي.
أما عن تجربتي الروائية في هذا المجال، فقد اتضحت في رواية “رئيس التحرير – أهواء السيرة الذاتية”، فهناك أكثر من مستوى لغوي، خاصة أن المجتمع الذي تعبّر عنه الرواية مجتمع خليجي تكثر فيه العمالة الآسيوية، وخاصة العمالة الهندية، وكانت هناك شخصيتان من الجنسية الهندية في الرواية، فكيف ستتكلمان اللغة العربية بجميع مستوياتها.
هنا كان لا بد من التصرف اللغوي في الإبداع الروائي، فلجأت إلى اللغة الواقعية التي ينطقها الهنود في الخليج، والتي كانت غريبة على أذن بطل الرواية يوسف عبدالعزيز في بداية الأمر:
– “دخل عامل البوفيه الهندي دون أن يدقَّ على الباب، فتذكرت أنه لا يوجد باب لمكتبي من الأصل، وضع أمامي فنجان القهوة الذي لم أطلبه، نظر إليّ وقال: ايش في بابا؟ ليش بابا يبكي؟
ـ ما في سوريش.. ما في!
ـ بابا يبي (يريد) فلوس؟
فهم الهندي ما أعانيه تماما، بينما لم يفهم المصري، ويبدو لأنه قديم في المكان، يعرف معاناة الجدد من أمثالي.
أخرج سوريش مبلغًا من المال وضعه أمامي هو يهز رأسه يمينا ويسارا، قائلا: لحين يجي (يأتي) فلوس بابا. أنا عارف أن بابا جديد هنا، وبعد واحد شهر أو اثنين شهر أنت ترجّع فلوس بابا. ما في مشكلة”.
وفي حوار بطل الرواية المصري يوسف عبدالعزيز مع الخادمة الهندية، جاء ما يلي:
“في الصباح الباكر وجدت جرس الباب يرن، قمت من نومي لأفتح فوجدت شاشي أمامي، ترتدي الساري الهندي الذي يُظهر بطنها العريان وظهرها الأسمر.
سلام بابا./ سلام شاشي/ كيفك بابا؟/ زين شاشي./ بابا ما يروح دوام اليوم؟/ اليوم إجازة.. عيد./ آه بابا. أنا مو مسلمة. أنا بوذية بابا. أنا أحب بوذا كتير. بوذا كبير، أنا أصلِّي لبوذا./ لا يهم. اليوم العيد الوطني وليس عيد المسلمين. المهم أنك تنظيفين زين وتطبخين زين، ما في بوذا هنا”.
أعتقد أن هذه اللغة الواقعية كما ينطقها الكثير من الهنود في تعاملهم مع العرب في منطقة الخليج العربي، كانت هي المخرج من معضلة الحوار بين العرب والهنود هناك. ولم أعرف هل وُفقت في هذا أم لا؟
هكذا تُشكل اللغةُ الروائية، أو اللغةُ في الإبداع الروائي هاجسًا للكاتب وتحديًا حقيقا أثناء عملية الإبداع، فتصبح جزءًا أصيلا من هذا الإبداع، فما الإبداع الكتابي في النهاية سوى نشاطٍ لغوي.
“صحيفة العرب”