نظرياً، الطرح الجديد لشركة النفط البريطانية “غلف ساندز”، والقاضي بتدويل إدارة إيرادات النفط السوري، لا يخدم مصالح النظام الذي يعتبر استعادة آبار النفط في “شرق الفرات”، أعزّ أهدافه. لكن من الناحية العملية، قد يكون ذلك أفضل المتاح، بالاستناد إلى خبرة النظام في استغلال المساعدات الدولية، وتحويل مسار معظمها، لصالحه.
أحيت “غلف ساندز”، منذ أيام، جدلاً كانت قد تسببت به قبل ستة أشهر فقط. وللمرة الثانية خلال أقل من عام، تطلق الشركة “مبادرة” جديدة على أمل استعادة استثمارها النفطي القديم في “شرق الفرات”، والذي خسرته قبل أكثر من عشر سنوات، جراء تطور الأحداث الميدانية في سوريا، وانصياعاً للعقوبات البريطانية ضد نظام الأسد.
هذه المرة، حملت مبادرة الشركة اسم “مشروع الأمل”. وجاءت بدفعٍ من التحركات الإقليمية المحمومة حول سوريا، مؤخراً، والتي أعطت أسباباً للتفاؤل لدى مسؤولي الشركة، جعلتهم يتحدثون مجدداً عن حلٍ لأزمة السوريين المعيشية يستند إلى “تدويل” استثمار النفط السوري، بإدارة من الأمم المتحدة.
كانت الشركة قد أثارت جدلاً مشابهاً في تموز/يوليو الفائت، حينما طرحت مشروعاً مطابقاً لمشروعها الحالي، من حيث المضمون، لكنه شُبّه ببرنامج “النفط مقابل الغذاء”، الذي طُبّق أثناء العقوبات الدولية على نظام صدام حسين في العراق، خلال التسعينات. وكما هو معروف، فإن نظام صدام حسين استولى على المليارات من عائدات “النفط مقابل الغذاء”، مستغلاً انقسامات مجلس الأمن وفساد موظفين دوليين ومتواطئاً مع سماسرة عرب وشركات أوروبية وصينية. وهي خبرة يملكها أيضاً، نظام الأسد، وبكفاءة.
ولشركة “غلف ساندز” اهتمام خاص، عمره عقدين، بنفط سوريا. ففي خريف العام 2011، أقرت الشركة، بينما كانت تقاوم ضغوط الدول الغربية للخروج من سوريا، أن 90% من إنتاجها الإجمالي يأتي من حقولها بـ “شرق الفرات”. وحينما أصدرت بيان الخروج من سوريا، عام 2012، قالت إنها تملك سيولة تُقدّر بـ 120 مليون دولار أمريكي. وتكشف بياناتها في ذلك التاريخ، أن نحو ربع تلك السيولة، تأتي من أرباحها جراء استثمارها في سوريا، خلال النصف الأول من العام 2011، فقط.
وبقي اهتمام “غلف ساندز” منصباً على العودة إلى سوريا. إذ فشلت مساعيها للاستثمار النفطي في امتيازات حصلت عليها في المغرب وتونس وكولومبيا، جراء أزمة سيولة مالية عصفت بها عام 2015، قبل أن يقيلها، رجل الأعمال البريطاني – السوري، أيمن أصفري، من عثرتها، عبر شراء 10% من أسهمها، في صفقة تسببت في ارتفاع قيمة أسهمها بنسبة 70% خلال ثلاثة أيام، وذلك في العام 2016. يومها، فُسّر تحرك أصفري هذا، على أنه تعبير عن تكهنات باقتراب الحل السياسي في سوريا، أو على الأقل، رفع العقوبات النفطية عن الاستثمار فيها. وخلال ذلك العام، أصبح أصفري، شريكاً لمجموعة من رجال الأعمال الروس، المستثمرين في “غلف ساندز”، أبرزهم، ميخائيل كروبيف، الذي كان يوُصف بأنه من المقربين من الكرملين، إلى جانب وزير الطاقة الروسي الأسبق، يوري شافرانيك. وفي ذلك التاريخ، أصدرت “غلف ساندز” بياناً، قالت فيه إن مجلس الإدارة ما يزال مؤمناً بأنه سيتم رفع العقوبات الأوروبية عن سوريا في غضون 5 سنوات، وهو سيستمر في مراقبة جميع الأنشطة السياسية التي تركز على الأزمة السورية. لكن بعد خمس سنوات، من ذلك التاريخ، لم تُرفع العقوبات النفطية عن سوريا. وتخلى أصفري عن حصته في الشركة لصالح كروبيف، الذي أصبح يمتلك أكثر من 50% من أسهمها.
وقبل ذلك بعام فقط، كانت “غلف ساندز” طرفاً في صراع “حقوقي” مع شركة “دلتا كريسنت إنرجي” الأمريكية، التي كانت قد حصلت على استثناء من إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق، دونالد ترامب، للاستثمار النفطي في “شرق الفرات”. وحينما اندلعت تلك “المشادة القانونية”، وصفت وسائل إعلام روسية الأمر، بأنه خلاف بريطاني – أمريكي على نفط “شرق الفرات”. لكن، لاحقاً، وتحديداً، نهاية العام 2021، ومطلع العام 2022، نشرت وسائل إعلام سورية معارضة، تحليلات وتسريبات، مفادها أن هناك صفقة بين إدارة جو بايدن والرئيس الروسي فلاديمير بوتين، مفادها، إتاحة المجال لعودة “غلف ساندز” للاستثمار النفطي في “شرق الفرات”، بوصفها تعبّر عن مصالح “أوليغارش” روس مقرّبين من الكرملين، مقابل موافقة موسكو على تمديد آلية تمرير المساعدات الدولية عبر الحدود التركية – السورية، في مجلس الأمن.
تلك التفاهمات، تعرضت للانهيار مع بدء الحرب الروسية في أوكرانيا، في شباط/فبراير الفائت. وهكذا أصدرت الخزانة الأمريكية، في أيار/مايو 2022، إعفاءً يستثني الاستثمارات في شرق وشمال سوريا، من عقوبات “قيصر”. لكنها لم تُدخل التعاملات النفطية ضمن هذا الإعفاء.
وفيما تراهن “غلف ساندز” على تحركات قوى إقليمية لتحقيق اختراق في الاستعصاء السوري، بدفعٍ من موسكو، وتنفي في الوقت نفسه، تبعيتها لمُشغلين مرتبطين بالكرملين، يبقى أمام الشركة تحديان من المستبعد تجاوزهما في وقت قريب. مصالح قوى الأمر الواقع في “شرق الفرات”، المستفيد الأول مما وصفته الشركة في بيانها بـ “سرقة” النفط. والذين سيعاندون أي حل سياسي يفقدهم ملايين الدولارات الداخلة إلى جيوبهم جراء تهريب النفط إلى “كردستان العراق” وإلى سماسرة مرتبطين بنظام الأسد. فيما التحدي الثاني يرتبط بموقف الولايات المتحدة الأمريكية التي لن تكون في وارد تخفيف الضغط الاقتصادي على نظام الأسد، قريباً، ما دامت في صراعٍ جيوستراتيجي مصيري مع روسيا والصين، وحليفتهما، إيران.
“المدن”