قبل أيام، مرّر نقيب الصاغة في دمشق، غسان جزماتي، نبوءةً صادمة، توقّع فيها أن يرتفع سعر غرام الـ 21 ذهب، في سوريا، إلى 600 ألف ليرة، خلال العام 2023. وفي حديثه مع جريدة “الثورة” الرسمية، أسند جزماتي نبوءته إلى عاملين: توقعات بارتفاع سعر الأونصة العالمي إلى ما فوق الـ 2000 دولار، وتقلّب سعر صرف القطع الأجنبي داخلياً.
وحينما أدلى جزماتي بتصريحاته تلك، كان سعر الأونصة العالمي بنحو 1930 دولاراً، وكان السعر الرسمي لغرام الـ 21 ذهب، بـ 355 ألف ليرة. وقال جزماتي إن هذا السعر هو أعلى سعر للذهب في سوريا، منذ معرفة الإنسان للمعدن الأصفر فيها، وحتى اليوم، حسب وصفه.
تصريحات جزماتي أثارت استهجان معلّقين على وسائل التواصل. إذ، على أي أساس، حدّد نقيب الصاغة، السعر “المهول” الذي سيصله غرام الـ 21 ذهب؟ ومن المعلوم أن الرجل يدير جمعية مسؤولة عن تحديد سعر الذهب الرسمي، بصورة يومية، بناء على المتغيرات العالمية، وسعر الصرف المحلي. وهو ما فُسّر على أنه إشارة إلى ارتفاع كبيرٍ في سعر الدولار مقابل الليرة السورية، في الفترة القادمة.
وسريعاً، نشرت جمعية الصاغة تعميماً عبر صفحتها في “فيسبوك”، تنفي أن تكون نبوءة جزماتي بالصعود الصاروخي لسعر الذهب المحلي، مرتبطة بسعر الصرف. ووفق التعميم، فإن النبوءة تستند إلى توقعات “عالمية” بأن يصل سعر الأونصة إلى 2200 دولار، خلال العام 2023. وتابع التعميم: “أما محلياً فهناك استقرار تام في سعر الصرف وإن شاء الله هناك تحسن كبير في سعر صرف الليرة السورية”.
ويمكن أن نقول إن التعميم أعلاه، جاء ليثبت –باطناً- ما أراد نفيه –ظاهراً-. إذ من ناحية أولى، فإن تصريحات جزماتي ما تزال متوافرة في الموقع الالكتروني لجريدة “الثورة”. وهو يقول فيها بصريح العبارة، إن “السعر العالمي سيكون مرتفعاً وتأثيره كبير على السعر المحلي في ظل تقلّب سعر صرف القطع الأجنبي داخلياً”. ومن ناحية ثانية، فإن احتساب نسبة الزيادة على سعر الذهب، بناء على سعر الأونصة المُتوقع، وفق التعميم ذاته، يكشف لنا أن “نقابة الصاغة” تتوقع ارتفاع الدولار إلى أكثر من 10 آلاف ليرة سورية.
ولنوضّح أكثر. سنعتمد فرضية تعميم النقابة، بأن أونصة الذهب أصبحت بـ 2200 دولار، مع ثبات سعر الصرف المحلي، وفق التعميم ذاته. وسنعتمد سعر الصرف الرسمي الأعلى (نظراً لتعدد أسعار الصرف الرسمية في سوريا)، وهو سعر صرف “دولار الحوالات”، بـ 6650 ليرة. فإن سعر غرام الـ 21 ذهب سيكون وفق تلك المعادلة، بنحو 412 ألف ليرة سورية. فمن أين جاء جزماتي، رئيس نقابة الصاغة، برقم 600 ألف ليرة؟
ولنزيد الشعر بيتاً. فإن تعميم النقابة أشار إلى توقعٍ بارتفاع الأونصة من 1930 دولاراً –ساعة صدور التعميم- إلى 2200 دولار، أي بنسبة زيادة 14%. لكن توقعات جزماتي نقلت غرام الـ 21 ذهب من 355 ألف ليرة –ساعة صدور تصريحاته- إلى سعر مرتقب قدره 600 ألف ليرة، أي بنسبة زيادة 69%. فمن أين جاءت الـ 55% الزائدة؟!
وهكذا، وبناءً على نص التعميم، نستنتج أحد أمرين. إما أن نقيب الصاغة لا يعرف كيف يحتسب أسعار الذهب المحلية بالاستناد إلى السعر العالمي. وهو أمر غير منطقي، نظراً لأن الرجل يقود النقابة منذ العام 2014. أو أن نقيب الصاغة يتوقع زيادة سعر صرف الدولار مقابل الليرة السورية، بنحو 55%، خلال العام الجاري. وبإسقاط هذه الزيادة على أعلى سعر صرف رسمي – دولار الحوالات- المحدد بـ 6650 ليرة، وفق نشرة يوم الخميس الفائت، فهذا يعني أن نقيب الصاغة يتوقع أن يصل الدولار إلى أكثر من 10 آلاف ليرة، في الفترة القادمة.
فالرجل الذي قاد نقابة الصاغة في أحلك سنوات تذبذب سعر الصرف في سوريا، طوال الـ 9 سنوات الفائتة، يملك من الخبرات والمعلومات “الخاصة”، ما تتيح له، أكثر من أي أحد آخر خارج دائرة اتخاذ القرار بدمشق، أن يحدد اتجاه سعر الصرف في الفترة القادمة. وقد نجح ببراعة نسبية، في خلق توازن صعب للغاية، بين ضغوطات النظام بفرض سعر رسمي غير واقعي للذهب محلياً، وبين مصالح من يمثّل من العاملين في مهنة الصاغة.
في ضوء ما سبق، يمكن فهم إشارة الرجل حينما أدلى بنبوءته، على أنها دعوة للسوريين للتحوط بالذهب في الفترة القادمة. فهو يبقى الملاذ الأكثر أمناً. ولا تعبّر هذه الدعوة عن مصالح “الصاغة” بهدف زيادة الطلب على المعدن الأصفر، فقط، بل تعبّر عن أكثر من ذلك. تعبّر عن قناعة العاملين في هذه المهنة، بالحاجة للتحوّط في حفظ القيمة، أكثر، في الفترة القادمة. وهو ما يدعمه اتجاههم لتقاضي أجورهم مقوّمة بالغرام أو بأجزاء من الغرام، بدلاً من تقاضي أجورهم، مقوّمة بالليرة السورية. وهو إجراء أعلن جزماتي عن محاربته. وفي الإعلان تبطين وإقرار، بحالة مناظرة للـ “الدولرة” التي تحكم الصفقات الكبيرة والتسعير في أوساط التجار. وهو ما يعكس مقدار انعدام ثقة الناشطين الاقتصاديين في البلاد، بالليرة السورية، كانعكاس للقيمة. وتوقعاتهم بالمزيد من انحدار سعر صرفها في القادم من الأيام.
“المدن”