عقدت النية قبل أيام أن أكتب عن أهمية معاني الحب السامية في حياتنا تزامناً مع احتفاليته العالمية السنوية(الفالانتين) التي تحل بعد ثلاثة أيام، لما تواجهه هذه الاحتفالية كل عام من حملات مضادة وفتاوى تحريم لا تتوقف بشأنها. ولقناعتي الراسخة بأن إحياء قيم الحب الايجابية حاجة مستدامة ترتبط بتجدد الحياة وخلاصنا البشري، والوصفة الصحية الوحيدة التي يمكنها أن تخفف من الكراهيات المنتشرة وإشاعة طاقة إيجابية تبعث بعض الآمال في قلوب الناس.
لكن فاجعة الزلزال العنيف المفاجئ الذي ضرب مناطق واسعة من الأراضي التركية والسورية معاً فجر الاثنين الفائت السادس من فبراير الجاري، زلزلت معها حيواتنا وخططنا، وأزاحت البوصلة نحو يقين آخر يتعلق بالهشاشة الإنسانية، التي توضع على المحك في اختبار وجودي جديد في أقل من أربعة أعوام بعد جائحة كورونا، وما الذي يمكن أن يحصن المناعة النفسية ويقي هذا اليقين ويقويه في مواجهة نوائب متتالية لاترحم.
في محاولة صعبة لاستعادة بعض تفاصيل اللحظات التي رافقت وقوع الزلزال، تحفل الذاكرة بمشاهد الناس في جميع المدن التي شعرت بالهزة الطويلة زمنياً وهرعت إلى الشوارع بملابس النوم وسط أجواء مناخية قاسية تدنت فيها الحرارة ما دون الصفر، فيما الصمت كان يخيم مثل ظل ثقيل، والذهول العام يطبع ملامح الجميع، وكأن بها تجربة من تجارب يوم القيامة الموعود.
أما أولئك الذين لم يسعفهم الحظ بالهروب، فيمكن تخيل ما قاسوه في تلك اللحظات المصيرية الفارقة، ساعة باغتهم زائر الفجر القدري، وأدركهم وهم غافلون عنه، لم يفرق بين صغارهم وكبارهم، لم يمهلهم أو يوقظهم. واختطف أرواحهم وهم نيام. ولعل من تمكن منهم من فتح جفنيه وجرب وهلة أن يستوعب ما يحدث حوله، جمده الذهول وأقعده، ليقضي نحبه مع أحباء تحت أنقاض بيته الذي تحول إلى قبره، وتبين أن البيوت ليست أكثر من وهم بالأمان والاستقرار والفرح وآمال المستقبل.
يوم طويل ستمتد ساعاته لسنوات عسيرة، وسيسجل في الذاكرة الجمعية لسكان المنطقة كيوم مفصلي في حياة كل من شهده ونجا منه، ما زالت صدمته وتأثيراتها البالغة تصيغ هذه الكلمات وتطبعها، وتحاول العثور على إجابات قدرية عن معنى أن تضاف فاجعة بمثل هذا الحجم المروع إلى يوميات أناس هم مفجوعون في الأساس لمئات الأسباب، أي عن الحياة الشقية التي يعانيها السوريون -بشكل خاص- منذ أكثر من عقد من الزمن.
في لغة العواطف، لا أحد يمكنه تفادي قدره في مواجهة كوارث الأرض الطبيعية التي تتقدمها الزلازل من حيث التأثير المدمر، ولكن في لغة المنطق والعلم، لابد من طرح تساؤلات جوهرية حول الاستعدادات المسبقة التي كان بإمكانها أن تخفف من الأضرار في الأرواح والممتلكات، والتساؤل الأبرز هنا حول جاهزية الدول لإنقاذ المتضررين وآليات التعافي التي تلي وقوع الكارثة؟
في الواقع، فإن الإجابة عن هذه التساؤلات في أنموذج الزلزال التركي- السوري تتفرع إلى شقين، يرتبط أولهما بإمكانيات الدولة التركية، إضافة إلى كل المساعدات الدولية التي تلقتها وما تزال، على تحقيق هذا التعافي العام بأسرع وقت ممكن، عبر إعادة إعمار البنى التحتية وتأمين بدائل للسكن ومستلزمات الحياة اليومية وحفظ الكرامة الإنسانية ما أمكن.
فيما السوريون المنفرطون “جغرافياً” إلى تفرعات أربعة، يتوزعون فيها بين دول اللجوء وأراضي الدولة السورية وداخل تركيا والأراضي التي تقع تحت سيطرة فصائل المعارضة، وفي ظل تجاذبات سياسية إقليمية ودولية يعيشون تداعياتها منذ سنوات، من البدهي أن أية كارثة بمثل هذا الحجم وفي ظل هذا الأمر الواقع ستكون أثمانها مضاعفة عليهم عشرات المرات، وأنهم سيعانون إلى وقت بعيد من تأثير اهتزازاتها الارتدادية المرتبطة بمعيشتهم وتعليمهم وكراماتهم، والتي قد تغدو أكثر شدة من الاهتزازات الجيولوجية الطبيعية.
لكن المفاجأة الطيبة التي حدثت عقب حدوث الزلزال والأيام القليلة التي تلته، هي اختفاء ثقل ظلال هذه الانقسامات السياسية مؤقتاً من سلوكياتهم ويومياتهم وحواراتهم، والتعامل مع الكارثة التي ضربت بشدة مدن اللاذقية وجبلة وحماه وحلب وريفها وتأثرت بها دمشق وريفها وحمص بشكل أخف، وأيضاً مع جميع المدن والبلدات المتضررة في الشمال الغربي لسوريا، برؤية إنسانية موحدة، وبوصفها تعني جميع السوريين بالعموم وأينما وجدوا.
إذ سجلت ردود أفعالهم الإيجابية بالعموم والمستمرة حتى اللحظة، قفزة نوعية في التضامن الإنساني وتفوقاً ملموساً في معنى الأصالة، وباتت صفحات التواصل الاجتماعي فضاؤهم الأمثل، ليس لإعلان التعاطف والتضامن فقط، بل عبر تحويلها إلى خلايا عمل لاتهدأ، ومنابر تسخر بالكامل للإعلان عن التطوع للمساعدة مع فرق الإنقاذ، والتشبيك فيما بينها لجمع المساعدات المادية والعينية وآليات إيصالها والتبليغ عن المفقودين والوفيات وأسماء الناجين، وأيضاً لتقديم كل عون يتعلق بالمشردين في العراء وأماكن الايواء، إضافة إلى الآلاف ممن أعلنوا طواعية عن فتح بيوتهم سواء في تركيا أو داخل المدن السورية لاستقبال المحتاجين والتخفيف من كربهم.
جهود سورية تضافرت على المستويين الرسمي والشعبي وجربت تقديم كل عون ممكن والتضامن مع فجيعة السوري بوصفه سورياً فقط دون التوقف عند الاصطفافات السياسية أو المناطقية أو الدينية، وبرزت في ظل هذه الكارثة أهمية ودور المبادرات الأهلية ومنظمات المجتمع المدني في الداخل السوري وفي تركيا وفي جميع الدول التي لم تهدأ فيها المنظمات غير الحكومية عن سعيها لتأمين المساعدات الاسعافية الضرورية والتسابق مع الزمن لإيصالها وإنقاذ مايمكن إنقاذه.
لأنه الحب الذي يختبر في مثل هذه اللحظات العسيرة، الحب الذي تبنى به الأمم وتزدهر، الحب بقيمه السامية الذي يعلو صوته على كل الكراهيات. حب أعاد لم شملهم وهو اليقين الوحيد الذي يستحق أن يحتفى به، يسجل للسوريين هذه المرة كوسام وبأنهم أبلوا بلاء حسناً بصدده. لكنه لا يكفي أن يسود في ظلال الفجائع فقط، بل هو اختبار مصيري قد يكون الفرصة الأخيرة التي يمكنهم استغلالها لإنقاذ ماتبقى من “سورياهم”. اختبار يمكن أن يبنى ويؤسس عليه لأجل المستقبل، حيث يمكن للوحدة الوجدانية أن تبتدىء بتشكيل ملامح خلاصهم المأمول.
“الحرة”