محمد الحمامصي..
ما زال جلال الدين الرومي مثار جدل وقراءات وترجمات متعددة، إذ رغم كثرتها فإنها لم تشف مريديه الذين ظل مجهولا بالنسبة إليهم أو غامضا، خاصة في ما تعلق الأمر بعلاقته بشمس الدين التبريزي والتحولات الجذرية التي طرأت على قصائده محولة إياه إلى علامة بشرية فارقة.
سيظل العشق المتوهج والرائق في جماله الذي حملته أشعار جلال الدين الرومي موضع شغف واحتفاء في الشرق والغرب من جيل إلى جيل، هذه الأشعار ترجمت إلى كل لغات العالم، بل إن ترجمتها تعددت في اللغة الواحدة، والأسرار وراء ذلك كثيرة تصعب الإحاطة بها جميعا، فمنها ما يتعلق بالبيئة التي نشأ فيها والتكوين المعرفي والثقافي الذي تلقاه منذ صغره، ومنها ما يرتبط بحياته، ومنها ما يتعلق بلقائه بشمس الدين التبريزي وغير ذلك الكثير.
ومؤخرا صدرت ترجمة مختلفة في سياق الترجمات التي تمت لأشعاره إلى العربية – وما أكثرها – عن اللغتين الفارسية والفرنسية، ترجمها عن الفارسية كل من جون كلود كاريار وماهين تجدد ونهال تجدد، وترجمتها عن الفرنسية مريم الدزيري.
الشاعر الغامض
“جلال الدين الرومي.. هذا النور غايتي” عنوان الأشعار التي ترجمت وصدرت عن دار خطوط وظلال الأردنية، وقدم لها المترجم والشاعر أيمن حسن وجون كلود كاريار ونهال تجدد. يقول كاريار “الرومي: يتعلق الأمر بشاعر خفي. خفي عن الكل وحتى عن نفسه. يتعلق الأمر برجل مشهور، واعظ يخفي (أين؟ لا أحد يمكنه أن يقول) كنزا. رجل آخر هو شمس التبريزي من خلال لقاء لم ينفك عن الحلم والكلام منذ قرون، والذي اكتشف وجود هذا الكنز عبر وسائل نجهلها ومكنته من الظهور. هذا الشيخ المشهور وبعد أربعين يوما أو ثلاثة أشهر من الحياة المشتركة، بقي خلالها الرجلان متخفيين ومعزولين عن العالم، تحول هو إلى راقص لا ملامح له (عبر السماع) ومن شفاهه تتدفق، مثل سيل لا نهاية له وكأنه لا يتحكم فيها، كلماتٌ لا تُنسى”.
ويضيف “مريد تلقى كلماته التي جعلت من الرومي الذي يلقبه الإيرانيون بمولانا، شيخنا، أحد أكبر شعراء العالم. لا أحد يمكنه اختراق هذا الغموض. لقد اخترنا ببساطة ما اتفق على تسميته بكتاب شمس التبريزي من خلال الأصل الفارسي ‘كليات شمس’، ‘الديوان الكبير’، القصائد اللافتة أكثر، هي التي وسمت انتظارا متلهفا ‘شيء ما ينقص دوما النصر، رغم أنها مرتفعة ومشرقة، وشيء آخر ينقص الكلام الذي يبدو دائما أضعف من الصمت’، إعلان ونشوة وطريق حياة جديدة. وقد حاولت في ترجمتي ألا أنسى أبدا أن هذه الكلمات قُدت لتلقى في الريح من بين الملايين الأخرى من خلال الرجل الذي أعطى لقب ‘الصمت’”.
ويكشف كاريار أن الشكل الشعري الذي أخذ منه معروف، يتلاءم بشكل رديء مع الترجمة، وأحيانا يرفض أن يكون بلغة أخرى. لذلك قام بمحاولات عدة قبل أن يختار ثماني المقاطع الذي يتوازن بسرور ويظهر أنه يرجو الخاتمة، نقطة نهاية تكون انفتاحا. واختار أحيانا إيقاعات أخرى، لكن مع احترام قدر الإمكان هذا الثبات “بقي الإيقاع منتظما مثلما هو عند الرومي، وتوجد الكلمة المهمة دائما في النهاية. هو الكلمة الأخيرة التي لا يقال بعدها شيئا. ويحتوي من المفروض القصيدة كاملة، والذي يجعلها خالدة”.
ويوضح أنه بالاتفاق مع ماهين تجدد المختصة في الرومي، وهي متوفية الآن، ومع ابنتها نهال، قاما بإعداد ترتيب يمكن من نظم – لكن دون إصرار ببنت شفة – نوع من السفر الغامض: نقص، انتظار لا يعرف الصبر، موجع تقريبا، ثم الإعلان عن قدوم، لقاء حاسم وأخير، وجع الفراق، فراق الحياة أيضا، بما أن القصيدة الأخيرة للرومي “على الأرجح أنها كتبت بالألم يوم موته أو عشية ذلك” تكمن في هذا الأثر.
ويضيف “هكذا في كل مرحلة من هذا السفر، أحد أجملها حسب اعتقادي والتي لم يتمكن من قبل شاعر من بلوغها في المجالات اللامرئية، في ما يسميه الرومي نفسه ‘مرج الملائكة’، لقد حاولت أن أعطي عنوانا، مثلما يفعله دليل سياحي في معلم غير معروف، دليل يترك للمسافرين إمكانية التباطؤ في الطريق، وأيضا في بعض الأحيان أن يضل الطريق. هذه العناوين التي ذكرتها ليست للرومي، فيمكن للقارئ إذا وجدها محرجة أن ينساها ويتركها على حدة”.
ويلفت إلى أن الاقتباسات التي اعتمدها كرفيقات طريق، نظمها هنا وهناك، مثل الأصداء أو المرايا. “إنه اختياري. يمكن لآخرين أن يختاروا نصوصا أخرى، وموسيقى أخرى. بدت لي بعض اللقاءات مذهلة. وهكذا ‘المثنوي’، مصنف القصائد الأكثر شهرة للرومي، حيث سماه العديد من القراء القرآن الصوفي، إذ يبدأ بجملة شهيرة ‘اسمع أنات الناي المنفصل عن قصبته’ أو بالأحرى مجموعة القصب، بستان الخيزران، مقصبة. فهنا وجدت رامبو ‘سحقا للخشب الذي يدور بالكمان’. وبعبارة أخرى، ليصبح نايا وينشد (أو كمانا)، يجب أن يبتر من محيطه ويقبل الألم، إحساس مشترك بين العديد من الكتاب، في سماوات مختلفة، على امتداد القرون. الشعر تمرين شاق، وجد خطير، وأحيانا مميت، وفي لحظات يستحيل التعليق عليه أو قراءته”.
الفراشة الثالثة
استعرضت نهال تجدد في مقدمتها جوانب من حياة الرومي وقالت عن لقاء الرومي والتبريزي “طرح شمس سؤالا لخص كل تفاهة عند الرومي: هل بيازيد (804 – 874) هو الأكبر أم الرسول؟ محمد هو الأكبر قال الرومي. عطش بيازيد كان مرضي بقطرة، مناسب لإناء فهمه وافتتاح منزله. أما العطش عند محمد فكان كبيرا. كان عطشا على عطش. كان في العطش”.
وتضيف “يقضي التقليد أنه بعد تفسيرات الرومي، يغمى على شمس. إنه من الصعب أن نتكلم بكلمات بسيطة، بحماس يجب الاعتراف أنه يتعلق أولا بلقاء فجئي، غير متوقع ومذهل. اجتماع مستبعد بين رجلين يبحثان عن بعض، درويش مجهول، بعمر الستين، شمس التبريزي، نحيف، بارد وضخم، وشيخ فكر، الرومي أصغر منه بعشرين سنة، لقاء أثر فيه فخاطب محرضه بهذه الكلمات ‘أنا هذه الفجأة التي رأتك’. فاختليا في خيمة. وعندما ظهرا بعد أربعين يوما (بعضهم يقول ثلاثة أشهر) لم يعد الرومي نفس الرجل”.
ورأت تجدد أن تحوّلين جريا للرومي بعد هذا اللقاء “الأول ترك الدرس والوعظ والمسجد للرقص. يتعلق التحول بالسماع ورقصة الدراويش الدوارين. كف اليد اليمنى مرفوعة نحو السماء، وكف اليد اليسرى منخفض نحو الأرض، مظهر بهذه الحركة موقع الإنسان كرابط بين السماء والأرض. شمس نفسه قال إنه بلغ الله بالرقص”.
وتتابع “حاول شمس أن يولد الشعر عند الرومي، فعندما كان هذا الأخير يعيد إليه وريقات، يقرأها شمس ويمزقها ‘هذه ليست إلا خرقا قديمة’. فهو لم يضحّ بحياته من أجل قصائد لا قيمة لها والتي تشبه كل ما هو موجود سابقا. يحدث له أحيانا أن يوقظ الرومي في الليل ويأمره أن يؤلف. شيئا فشيئا بدأ الرومي يفرغ من نفسه، من التدريس، من إرث والده، هو نفسه واعظ، وتحرر من عبء العائلة، ومن روابطه بتلاميذه، وألف شعرا لم يسبق له مثيل. إنها اللحظة التي قال فيها إنه ‘نضج’. لم يعجب هذا التحول محيط الرومي، المسمى من قبل شمس ‘القبيلة المتنافرة’. أساؤوا معاملة شمس، أهانوه، تآمروا ضده إلى أن قرر أن يغادر، لأنه يبحث عن إحراق الرومي. وهذا لن يكون ممكنا إلا في مفارقته، فغادره دون إخباره”.
التحول الثاني الذي تشير إليه تجدد “حدث نتيجة الفراق الذي وسم ولادة الرومي كشاعر، إنها الفترة التي احترق فيها، ومن هذا التوهج ولدت قصائد مدوخة. أصبح الرومي أخيرا شاعرا. ورمز الفراشات الثلاث للعطار تذكر أكثر من أي شيء بهذا التدريب. اجتمعت الفراشات ذات يوم لمعرفة كنه النار. ذهبت الفراشة الأولى إلى حد الشمعة، رأت نور الشمعة وعادت إلى رفيقاتها لتخبرهن أن الشمعة تضيء وتدفئ. لكن حكيم الفراشات بقي غير راض. ذهبت الفراشة الثانية واقتربت أكثر من الشمعة، وشارفت اللهب بأجنحتها، ثم عادت لتقول إن الشمعة تحرق، لكن بقي حكيم الفراشات غير راض. اقتربت الفراشة الثالثة من الشمعة وارتمت في اللهب بأجنحتها. فقال حكيم الفراشات إن هذه الأخيرة قد أدركت ما يجب أن يعرف. لكنه هو وحده من يمكن أن يفهم ذلك، وهذا كل شيء. لسعادتنا، الرومي هو هذه الفراشة الثالثة، ارتمى في اللهب لكنه ترك لنا أربعين ألف بيت من الشعر الصوفي. ولكن شمس ليس حكيم الفراشات بل هو النار”.
“صحيفة العرب”