تكشف التداعيات المريرة التي أعقبت الزلزال الذي قضّ مضاجع السوريين والأتراك فجر السادس من شباط الجاري، الكثيرَ من الحقائق والأفكار التي ربما تتجاوز الجهود البحثية الممنهجة والفرضيات والنظريات التي تعمل على إنتاجها المؤسسات والمراكز البحثية التي غالباً ما تكون منحازةً للأصول النظرية أو المفاهيم المجرّدة، وكذلك غالباً ما تكون محكومة بأدواتها الإجرائية، دون إعطاء الأولوية لما تفرزه الوقائع والسياق الاجتماعي لحياة الناس، كما أسهمت مناهج البحث المتناسلة من الإيديولوجيات التقليدية بتعزيز الكثير من الأفكار والمفاهيم الجامدة التي حالت دون تحرر الفكر، والنظر بجدية إلى سيرورة نموّ الوعي السوري على مدى اثنتي عشرة سنة، وذلك على الرغم من البؤس الذي لازم السوريين من الجوانب الحياتية كافةً.
لم تكن التداعيات الكارثية للزلزال السوري التركي هي الكاشف الأول لقصور أو خطل الكثير من الإرث المفاهيمي السائد حول النتائج الحتمية لغياب السلطة المركزية للدولة، وذلك استناداً إلى ما يشبه المُسلَّمات أو البدهيات في علم الاجتماع السياسي وعلم القانون، ولا يعني ذلك – على أية حال – التقليل من قيمة أي مُنتَج علمي أو بحثي مهما كانت أصوله النظرية، ولكن ما نعنيه هو إغفال المُعطى الحياتي للبشر المتمثل بالمعاناة والمكابدة، والذي أثبتت الوقائع أنه هو العامل الأساس في تحرير الوعي وتطوره، وبوضوح أكثر يمكن الذهاب إلى أن سلطة الضمير تغدو هي الطاغية على سلطة العقل لدى الناس أثناء الشدائد والملمّات، وسواء أكان الضمير ذا منشأ فطري لدى الإنسان كما يرى ( جان جاك روسو 1712 – 1778) أو هو نتاج العقل العملي كما لدى (كانط 1724 – 1804) أو هو سلطة اجتماعية بحسب (دوركهايم 1858 1917)، فإنه في الحالات جميعها لن يبقى حالة فردية، بل غالباً ما يتحوّل إلى شعور جمعي مُوجّه لفعل الجماعات وسلوكها ومُحدِّداً لأهدافها.
ثمة مِفصلان في حياة السوريين، كان لهما الدور الأبرز في إظهار قوّة وفاعلية الضمير السوري كمصدر للتفكير الخلّاق في مجابهة عوامل الفناء والتوحّش، يتمثل المفصل الأول بالفترة الممتدة من انطلاقة الثورة في آذار 2011 وحتى منتصف العام 2013، وأعني قبل تغوّل القوى والفصائل الإسلامية المتطرفة في العمق السوري، وهي الفترة التي يمكن أن تكون أكثر ازدهاراً ونقاء في سيرورة الثورة، إذ شهدت تلك الفترة انهياراً سريعاً لسلطة الأسد وإرباكاً كبيراً داخل منظومته الأمنية، فضلاً عن تشتت قوات جيشه الذي لم يعد قادراً على السيطرة التامة على الجغرافية السورية، وذلك قبل التدخل الفعلي لحلفائه الإيرانيين والروس، فانحسرت سلطته عن مساحات شاسعة منها، وباتت العديد من المدن والبلدات والقرى خارج نطاق سلطته، وربما كان الشاغل الأكبر آنذاك – سواء لدى مناهضي الأسد أو مواليه – هو الحديث عن حالة الفوضى التي ستعقب زوال السلطة، بل ربما تنبأت الكثير من الشرائح النخبوية بنشوب حروب بينية طاحنة بين الجماعات السورية، فضلاً عن تخيلات توحي بتحوّل المناطق المحررة من سلطة النظام إلى غابات حافلة بالتوحّش، سيأكل القوي فيها الضعيف، وتصبح القدرة على الافتراس هي البديل عن سلطة القانون، إلّا أن شيئاً من ذلك لم يحدث، بل يمكن التأكيد على أن الحالة التنظيمية التي شهدتها تلك المناطق والمدن والتي تتمثل بـ – المجالس المحلية – مجالس المدن والمحافظات – الجمعيات والهيئات المدنية إلخ – قد استطاعت – وبإمكانيات محدودة وربما معدومة في غالب الأحيان – أن تحافظ على القوام الأخلاقي والقيمي للمواطنين، كما تمكنت من الحفاظ على مستوى معين من الخدمات والمقوّمات المعيشية، بالتأكيد لم تكن الحالة في الشطر المحرر تميل إلى المثالية، وكذلك لا يمكن إغفال الكثير من الانتهاكات والتجاوزات سواء أكانت أمنية أو اقتصادية أو سواها، ولكنها بالتأكيد – أيضاً – لم تصل إلى المستوى الذي تشهده المدن والمناطق الخاضعة لسيطرة الميليشيات الطائفية ومافيات الفرقة الرابعة في الظرف الراهن، هل كان الرادع عن الوقوع في الفوضى والتطاحن الاجتماعي هو منظومة القيم وحالات التضامن الأهلي والأعراف والتقاليد التي تبسط سطوتها على سلوك الناس في هكذا حالات؟ حتى لو كان الأمر كذلك، فإن الضمير – كمصدر للتفكير الجمعي في حالات كتلك – يبقى هو مصدر التفكير الناظم لعلاقات الناس والموجه لسلوكهم، والضامن لتماسكهم وتلاحمهم.
ويتجلى المفصل الثاني في العواقب الكارثية التي أعقبها زلزال السادس من شباط، وخاصة في مدن وبلدات الشمال السوري، والتي تعاني في الأصل من حالة كارثية، إذ أفضت حرب الأسد على السوريين بحشر ما يزيد عن أربعة ملايين مواطن سوري من كافة المحافظات السورية في الشريط الحدودي المتمثل بـ ( إدلب – اعزاز – جرابلس – الباب – عفرين – ريف حلب الغربي)، فضلاً عن أن تلك المناطق والبلدات كانت في مكابدة مستمرة من جرّاء السلوك المشين لسلطات الأمر الواقع في ظل غياب أي شكل من أشكال المأسسة التنظيمية القادرة على إدارة شؤون الناس بأمن وسلام. ولعله من المنطقي في هكذا حالة أن يكون هذا الحيّز الجغرافي من الشمالي السوري هو الأكثر رخاوة وهشاشةً في التصدّي لأية نازلة أو كارثة طارئة، لعدم امتلاكه حوامل المقاومة، وهذا ما حصل بالفعل، إذ إن نسبة ضحايا الزلزال في تلك المناطق كانت مرتفعة جداً، وكذلك نسبة الخراب في البنية التحتية، ولا يجادل أحد في أن انعدام الإمكانيات المادية ووسائل الإنقاذ والمحركات والوقود والكوادر البشرية المختصة وووإلخ، كانت العامل الأساس الذي أفضى إلى هذه التداعيات الموجعة، ولكن من جهة أخرى يمكن النظر إلى قوة العوامل الذاتية في إدارة الأزمة التي تجلّت في حالة غير مسبوقة من التضامن والتكاتف والعمل المشترك، فضلاً عن حالات نادرة من الإيثار والنزوع نحو الاندماج الوجداني كعامل من عوامل المقاومة من أجل البقاء، أضف إلى ذلك اندفاعة السوريين من شرق البلاد وجنوبه، يحفزهم الوجع المتضامن مع أوجاع أهلهم في الشمال، مُحمَّلين بما حفلت بيوتهم من مال ومتاع، وقبل هذا وذاك، بقلوب ومشاعر تودّ أن تتقاسم الوجع مع أقرانها من سكان الشمال، هل كان ذلك لمجرّد الإحساس بالانتماء المشترك للجغرافيا السورية، أم هي استجابة طبيعية لحيوية الضمير كمصدر ثرّ للفكر الإنساني؟ ولعل القول: إن ذلك كان بفعل عوامل النخوة والشهامة والعادات والأعراف النبيلة المتأصلة في ثقافة المجتمع، لا ينفي أبداً انتماء هذه العوامل جميعها إلى حيّز الضمير.
لقد قيل الكثير، وكُتِبَ الكثير عن التصدّعات الهائلة في المجتمع السوري، كما روّج العديد من المثقفين والدارسين نظريات ومفاهيم عن شروخات عصيّة على الالتئام في المجتمع السوري الذي بات على وشك الانفجار الطائفي والقومي والديني، إلى درجة يخيّل للمرء فيها أن نظام الأسد كان الضامن للسوريين من هذا الانفجار المزعوم أو المفترض، إلّا أن معاناة السوريين – على الرغم من فداحتها وقسوتها – قد أظهرت أن الصاعق الوحيد الذي يهدد حياة السوريين بالانفجار هو نظام الإبادة الأسدي أولاً، كما أظهرت أيضاً أن تلك التصدّعات والشروخات لم تكن يوماً في الوجدان الجمعي السوري، بل في أفكار أصحاب العقول الخشبية واليقينيات التي أنتجها اليباس ثانياً، ولعل الأهم من ذلك كله أن معاناة السوريين قد أظهرت أن الضمير السوري هو الأقدر على مقاومة الفناء.
نتيجة
ما يتوهمه البعض أن نظام الأسد دولة مؤسساتية قائمة على القانون غير صحيح فهي آلة قمع، والقمع لا يؤدي إلى أمان مجتمعي
“تلفزيون سوريا”