أخذ نجيب سرور يكتب عن جروح مصر، حتى صار هو جرحاً من هذه الجروح، واسماً يثير عند ذكره المشاعر المتضاربة، والخيالات المتناثرة المتفرقة، التي تتوزع على جوانب شتى من حياته القصيرة، والحقبة التي عاصرها من تاريخ مصر، وما تركه من إبداعات أتت نتيجة لاصطدام نفسه الشاعرة بالواقع القاسي الحاد. ومع كل مرة نعود فيها إلى نجيب سرور تعود الأسئلة، هل نعرف حقاً نجيب سرور؟ هل نقترب منه كما يجب؟ هل نذكره دائماً أم ننساه كثيراً؟ وهل نريد حقاً أن نعرفه جيداً، وأن نذكره وأن نقترب منه؟ أم أن هناك شيئا ما غامضا يغمض العين عن صورته، ويصم الأذن عن شعره، ويُنسي الذاكرة ما حدث له.
لا يطاردنا اسم نجيب سرور، ويركض خلفنا، ويحاصرنا ويأتينا من كل اتجاه شئنا أم أبينا، كأسماء غيره من الشعراء، وفي الوقت نفسه لا يعد اسم نجيب سرور اسماً مجهولاً، ومن لا يعرف بعضاً من شعره، يعرف بعضاً من مسرحياته، أو بعضاً من شتائمه الشعرية، أو على الأقل يعرف أنه الشاعر الذي احتجزه الأمن، في السجون والمعتقلات والمصحات العقلية، أو يعرف أنه ذلك المشاغب، الذي تمرد على قوانين وأعراف القبيلة الثقافية، أو الثائر الذي فضح فساد العصابة الثقافية. لكن سرعان ما أراح نجيب سرور أولئك وهؤلاء، وتوقف عن إزعاج كل منهما، وارتاح هو أيضاً، وتحرر من أسر السجون والمصحات بموته المبكر سنة 1978 في السادسة والأربعين من عمره. تاركاً شعره وأعماله المسرحية والنقدية، لكي يقرأها من يريد، ويفهمها ويفسرها على النحو الذي يريد، تاركاً كذلك اسمه للزمن والتاريخ، وليرفعه من يشاء من النقاد أو يخفضه، فمعشر النقاد على وجه الخصوص، يعرفون جيداً رأي نجيب سرور فيهم، وكيف كان ينظر إليهم.
الشعر والمسرح
يُعرف نجيب سرور بأنه شاعر وناقد ومؤلف مسرحي، ومخرج مسرحي وممثل مسرحي أيضاً، ولا نعلم هل تم تسجيل بعض هذه الأعمال المسرحية، التي ظهر فيها ممثلاً أم لا؟ كما لم نر حتى الآن أي لقاءات تلفزيونية قديمة معه، ولا يتوفر سوى بعض التسجيلات الصوتية، التي يلقي فيها مقاطع من شعره. قد يقول البعض إن نجيب سرور مسرحي في الأساس، لأنه من خريجي معهد الفنون المسرحية، لكن ما يبدو ظاهراً هو إنه كان شاعراً، والشعر عنده كان المركز الذي يبدأ وينطلق منه كل شيء آخر، وهو لم يكن شاعراً لأنه ينظم الشعر وحسب، بل كان شاعراً لأن الشعر طبع حياته وموته، وسمعه وبصره وتفكيره، وقراراته واختياراته. لكنه شاعر يستطيع أن يؤلف للمسرح، وأن يخرج للمسرح، وأن يمثل للمسرح، وقد طبع الشعر كل هذا أيضاً. منذ البداية كانت اختيارات نجيب سرور واضحة، وقرر أن يكون قلمه مع الناس، لا مع العصابات، سواء كانت هذه العصابات عصابات سياسية أو عصابات ثقافية، وهما لا ينفصلان عادة وتربطهما التحالفات القوية. لم يُرد نجيب سرور أن ينتمي إلى طبقة المثقفين، الأباطرة الجالسين على مقاعد مقهى ريش في وسط القاهرة، الذين خلدهم في قصيدته «بروتوكولات حكماء ريش» وكانت هديته الثمينة التي أهداها إليهم، وهي قصيدة لاذعة يقول في بعض أبياتها: «نحن الحكماء المجتمعين بمقهى ريش.. من شعراء وقصاصين ورسامين.. ومن النقاد سحالي الجبانات.. حملة مفتاح الجنة.. وهواة البحث عن الشهرة.. وبأي ثمن.. والخبراء بكل صنوف الأزمات.. مع تسكين الزاي كالميكانيزم.. نحن الحكماء المجتمعين بمقهى ريش.. قررنا ما هو آت.. البروتوكول الأول.. لا تقرأ شيئاً.. كن حمّال حطب.. واحمل طن كتب.. ضعه بجانب قنينة بيرة.. أو فوق المقعد.. واشرب وانتظر الفرسان.. سوف يجيء الواحد منهم تلو الآخر.. يحمل طن كتب».
عندما بدأ نجيب سرور يرفع صوته، ويتحدث عما يراه ويسمعه ويجري من حوله، وما يشمه من رائحة فساد في كل مكان، قيل هو مجنون، وتطوع البعض من أجل تحليل عقده النفسية، وهناك من أرجعها إلى طفولة فقيرة بائسة معدمة، عاشها في إحدى قرى دلتا النيل في محافظة الدقهلية، وهناك من فسر قصيدة «الحذاء» على أنها حادثة وقعت بالفعل في حياة نجيب سرور، وأنه في طفولته رأى أباه يُضرب بالحذاء من عمدة القرية الإقطاعي المتجبر، ما سبب له صدمة بالغة أثرت في مسار حياته بالكامل. وبعيداً عن سذاجة هذا التعامل السطحي مع الشعر، والنظر إلى ما يكتبه الشاعر على أنه حدث بالفعل، كما لو أن الشاعر تحول إلى مخبر صحافي ينقل الأحداث كما هي. وبعيداً عن اتخاذ البعض من قصيدة «الحذاء» وسيلة لوضع نجيب سرور في إطار فكري معين، مع التجاهل التام لما كتبه من قصائد عن أحذية أخرى كثيرة غير حذاء الإقطاع. بعيداً عن كل هذا، نجد صورة لنجيب سرور في صغره، فنراه طفلاً وسيماً في هندام جميل تزينه ربطة عنق أنيقة.
ثم نسمع شقيقه الأكبر ثروت سرور يتحدث في لقاء تلفزيوني، بلغة قوية وثقافة عالية، ويذكر أرضاً كانوا يملكونها وقت طفولة نجيب سرور، ويقول إن والدهما كان شاعراً وأديباً، ولديه موهبة الكتابة المسرحية، وشغف كبير بالمسرح، وأنه ألف مسرحية بالفعل عنوانها «يوسف وزليخة» وسافر من الدقهلية إلى القاهرة، ليعرضها على يوسف بك وهبي، آملاً في أن تقدمها فرقة مسرح رمسيس، ويقول إن يوسف وهبي أبدى فيها رأياً حسناً، لكنه لم يعرضها، ويقول ثروت سرور إن موهبة الوالد امتدت إلى نجيب، وإنه كان قارئاً ممتازاً منذ طفولته، وكان يقرأ الكتب التي تفوق عمره الموجودة في البيت لدى الأب، ويضرب مثالاً بكتاب «العقد الفريد» الذي قرأه نجيب في طفولته. وعن الشتائم المهولة التي لجأ إليها نجيب سرور في أعماله المتأخرة، يقول شقيقه الأكبر: «نجيب في وقت من الأوقات لبشاعة الواقع، حس إن الأدب مش نافع، فلجأ لقلة الأدب، وكتب الأميات». ثم إن نجيب سرور من مواليد سنة 1932، ما يعني إنه كان في العشرين من عمره، عندما تغير نظام الحكم في مصر سنة 1952، وكان قد مر عام كامل على تركه لكلية الحقوق، التي قضى فيها ثلاث سنوات، والتحاقه بمعهد التمثيل أو معهد الفنون المسرحية، الذي تخرج فيه سنة 1956. ولا تخفى المكانة التي كانت تحظى بها كلية الحقوق في مصر قبل عام 1952. وإذا كان كل ذلك ينفي البؤس عن عائلة نجيب سرور، فإنه لا ينفي البؤس عن الكثيرين من الضعفاء المتعوسين في كل العصور، فالبؤس لم يخرج من مصر منذ فرعونيتها القديمة وحتى فرعونيتها الحديثة، وكان موجوداً بدرجات متفاوتة حتى في أزهى عصورها، وهو جرح دائم، موجود وقائم في كل بقعة من بقاع الأرض، طالما وُجد الظلم.
الفصحى والعامية
غاب نجيب سرور عن مصر أثناء دراسته للمسرح في روسيا، وهناك التقى بحبيبته الروسية التي تزوجها وأنجب منها ولديه شهدي وفريد، ثم فرّ إلى المجر هرباً من زملائه المبتعثين معه، خوفاً من المخبرين المتلصصين كتبة التقارير. وغاب أيضاً في مصر داخل السجون والمعتقلات والمصحات العقلية، وغاب شعره عنا، أو تم تغييبه، وربما نكون نحن من ننساه أحياناً كثيرة، رغم أهمية هذا الشعر وجماله في أغراضه كافة، فهو يستحق القراءة الجيدة وطول التأمل، ولا يكفي تداول بعض المأثورات المشهورة، مثل: «الناس من هول الحياة.. موتى على قيد الحياة» «ها أنا أضحوكة تسعى في جوف القاهرة» «حقاً حقاً.. إن الحب يطيل العمر.. حين نحس كأن العالم باقة زهر.. حين نشف كما لو كنا من بللور» «احذروا من خمسة ستة.. احذروا من خمسة يونيه» «وفي عيون الناس كده مش عارف إيه.. حاجة ترعب.. زي ما يكون شيء هيحصل». كتب نجيب سرور الشعر بالفصحى والعامية، واقترب كثيراً من كلام الناس وثقافتهم السائدة، ومن الغنائية الشعبية ومواويل الفلاحين وأساطيرهم وقصصهم الخاصة. وكان شاعراً مختلفاً ومزعجاً، وقد امتد إزعاجه إلى خارج مصر، عندما تناول القضية الفلسطينية، وكتب مسرحية «الذباب الأزرق» فغضبت السلطات الأردنية، وطلبت من السلطات المصرية، منع عرض هذه المسرحية كما يقال.
اختار نجيب سرور كما ذكرنا من قبل، أن يكون قلمه مع الناس، لا مع العصابات السياسية والثقافية، وفي قصيدة «لهذي الجموع» يعلن شاعرنا بشكل صريح وحازم عن هذا الاختيار وهذا القرار بقوله: «لكنني وهبت النشيد لهذي الجموع». كتب الشاعر هذه القصيدة سنة 1954، وهي من الشعر الحر، ونلاحظ أنه كان في الثانية والعشرين من عمره حينما كتبها، ورغم ذلك كان مهموماً بهموم بلدنا وأهلنا وناسنا، مشغولاً بمصر وبالبشر في مصر عن الحب وأمور الحب، وعن الحبيبة الجميلة التي تعاتبه على انشغاله عنها، وتشك في تغير مشاعره تجاهها، فيشرح لها الأسباب ويفسر لها الأسرار. تتكون القصيدة من أربعة مقاطع، وهي طويلة إلى حد ما، وتعتبر من أجمل قصائد نجيب سرور الفصيحة، التي تجمع بين الشعر العاطفي الغزلي، والشعر السياسي الوطني، وقد صاغها شاعرنا في تركيب فريد، أتى على هيئة حوار، تثيره العاشقة التي يصوغ سرور الشعر على لسانها، معبراً عن صوتها الخاص، وما تحس به من مشاعر في تلك اللحظة. قسّم الشاعر القصيدة بطريقة تلائم طبيعتها الفنية، ولا تحولها إلى مشهد في إحدى مسرحياته الشعرية، فالحوار لا يدور متقطعاً بين سؤال وجواب وأخذ ورد، وإنما تقول العاشقة كل ما لديها في الجزء الأول من القصيدة، ويرد عليها الشاعر في بقية الأجزاء. ومع ذلك تبدأ القصيدة بصوت الشاعر من خلال أبيات قليلة، تمهد لسماع صوت العاشقة وما ستقوله من كلمات، وقد جاء مطلع القصيدة على النحو التالي:
أحسناء رفّ الحباب السخين على مقلتيك.. وسال فحار السؤال الحزين على وجنتيك
بكى الورد في وجهك النيّر.. طغى الوجد في نبرك الساحر.. وقلت:
يصف الشاعر في هذه الأبيات حال العاشقة، والموقف أو المشهد الذي يجمعهما، حيث يبوح كل منهما للآخر بما يدور في نفسه، وما يشغله من أفكار وهواجس. ثم تتحدث تلك العاشقة الحسناء، الحزينة الحائرة الباكية، فتقول:
«تغيرتَ يا شاعري.. فأين اصطخاب الجوى الثائر وحرُّ النشيد ودنيا الغزل.. وأين انتحار الزمان المديد بشهد القبل.. وثغري يذوب على شفتيك.. وأنت تحج إلى شفتي.. وحيناً أنام على ساعديك.. وحيناً تنام على ساعدي.. وصدري يضم عليك الجنان.. ونهدي يدر بفيك الحنان.. وأنت على ساعدي الرضيع.. ولحن ودن.. وليل يجن.. وتحنو النجوم على عرشنا.. وتنسج من نورها عشنا.. تلألأ تشدو تغني لنا.. أنا أنت في الحب أنت أنا.. فيا شاعري غيرتك السنون.. وغاض المعين وجف الوتر.. ترى غيرتني؟ تراني فقدت العيون التي ألهمتك النشيد؟ وهل قصف الدهر هدب الجفون؟ وكم ألهبتك تقول القصيد.. وهل ثغري القرمزي الشهي ـ كما كنت تشدو ـ غدا كالجليد؟ أيا كبوة الأمل العاثر.. جمدتَ.. تغيرتَ يا شاعري».
صور الحب
هنا يكتب نجيب سرور على لسان أنثى، تحب وتتدلل على حبيبها، وتعاتبه عتاباً رقيقاً، تذكره بأيام الغرام المشتعل ولحظات القرب والصفاء، وهي لا تخاطبه ولا تناديه إلا بـ»يا شاعري» وتكررها ثلاث مرات أثناء حوارها معه، ولا تقول له يا حبيبي مثلاً، رغم أنه الحبيب، لكنه الحبيب الشاعر، الذي كان يمطرها شعراً وحباً، ويتغزل فيها ويهيم فيها عشقاً، ومن جمالها يستلهم الشعر. فهي تحبه وتحب شعره، وتفتقد الشاعر وقصائده المتدفقة، كما تفتقد الحبيب ومشاعره الحية النابضة. لا تخلو الأبيات الأولى في القصيدة على لسان الشاعر من الغزل، حينما يمدح جمال وجهها وسحر صوتها ويقول «بكى الورد في وجهك النيّر.. طغى الوجد في نبرك الساحر». أما ما كتبه نجيب سرور على لسان العاشقة الحسناء، فإنه يمتلئ بأرق صور الحب وأجمل معانيه، التي تُظهر شاعرية وعذوبة شاعرنا، وتعد قصيدة «لهذي الجموع» مفتاحاً ودليلاً لمعرفة الكثير عن نجيب سرور، ذلك الشاعر صاحب الموهبة الهائلة، والحس الرقيق الذي اصطدم بالواقع وبالأوضاع السياسية والثقافية الفاسدة، فتحول شعره من قول أرق كلمات الحب والغزل، إلى إطلاق أقذع الشتائم وأعنف السباب، وانتهى عمره مبكراً.
مع انتهاء كلمات العاشقة، يدخل الشاعر بصوته الخاص في المقطع الثاني قائلاً: « أحسناء ما غيرتني السنون ولا غيرتك.. أحبك ما زلت.. لكنني صحوت على صرخات الجموع.. وخطو الفناء إلى أمتي وانتحاب القبور.. رأيت الحياة تموت هناك.. على مذبح اليأس في قريتي تريد النشور.. أفاتنتي إن مضى السالكون على أرضنا في الصباح القريب.. يلمون في النور آثارنا.. فماذا تراه يقول الدليل.. إذا سألوه عن الحالمين عن اللاعبين عن الشاربين.. عن الراقصين عن السامرين.. عن النائمين بليل الدموع على زفرات النفوس الموات.. عن الهائمين ببحر الدماء.. على زورق من جناح الخيال وقد غلفوا بالنبيذ العيون.. ومرت عليهم جموع الجياع ومروا عليها.. فلم يلمحوا ذلة البائسين ولم يسمعوا أنة البائسين.. وراحوا يصوغون في حلمهم عقود الدخان.. فماذا تراه يقول الدليل؟»
في البيت الأول من هذا المقطع، يطمئن الشاعر حبيبته ويقول إنه لا يزال يحبها، وأن مشاعره تجاهها لم تتغير، وأنها لم تفقد جمالها وجاذبيتها، وسحرها الملهم. ويمتلئ هذا المقطع الثاني من القصيدة، بصور البؤس والظلام والضياع، ذلك أنه يصف آلام الناس، وأوجاع الأغلبية من البشر «الجموع». ويحدث حبيبته عن هول ما يراه، فهو يرى خطو الفناء إلى أمته ويرى الحياة تموت، فهل يوجد بعد هذا ما هو أكثر قسوة أو أشد خطراً؟ بعد أن حكى الشاعر لحبيبته ووصف لها ما يقع أمامه، ويعاينه ببصره الحاد ويستقبله بحساسيته البالغة، تنتقل القصيدة إلى المقطع الثالث الذي يقول: «أأسمع وقع خطى الأفعوان يدب على جثث الساقطين.. يسوغ بالنعل ذل الجباه وأقعد لا أستفز الجباه؟ وأحلم لا أستثير الجموع لتحيا الحياة.. لتضرب بالنعل عز الطغاة؟ أأسمع حشرجة الأشقياء يئنون من قسوة العاصفة.. وقد لفحتهم رياح السموم.. وأجلس كالطفل أحصي النجوم؟ أأسمع قهقهة الطاغية يسير بمركبه آمناً.. وقد أغرق القوم في لجة.. ولا أخرق المركب الساريا؟ ولا أنفخ الروح في الغارقين؟ أأحلم والليل من حوليه دعاء يؤرق عين السماء.. لكنها لا تجيب الدعاء.. وفي كل كوخ جناز يقام.. وليد يجيء بنهم جديد يريد الطعام.. وأم تبيت بثكل جديد قبيل الفطام.. وهل أهب الكأس ألحانيه ولا أهب القوم لحن القيام؟».
الأسئلة الانسانية
صاغ الشاعر هذا المقطع على هيئة أسئلة يطرحها بلا جواب، فلا هو يجيب ولا الحبيبة تجيب، ورغم أنه يخاطب حبيبته بهذه الأسئلة، إلا أنها تبدو كأسئلة داخلية أيضاً، تدور في نفسه، وطرحها من قبل على عقله وقلبه، أو هي دائمة الاشتعال في رأسه، فهي أسئلة تبحث في الموقف الأخلاقي، والاختيارات الإنسانية التي يقررها كل صاحب كلمة، بعد أن يواجه نفسه بهذه الأسئلة. يعد هذا المقطع من أجمل مقاطع القصيدة، وأكثرها اختلافاً من ناحية الفكرة والتكوين، ويساهم إيقاع الأسئلة المتلاحقة في إثارة عقل القارئ وتأملاته، من أجل البحث عن إجابة، وبعد ذلك تنتقل القصيدة إلى إيقاع آخر في المقطع الرابع الذي يقول: أفاتنتي.. في احمرار الورود على وجنتيك رأيت الدماء.. دماء المساكين في قريتي يعيشون كالدود في مقبرة.. هم الدود والميت يا فاتنتي.. أساحرتي.. في اختناق السواد على مقلتيك رأيت الشقاء.. يلف بأذرعه الهاصرة جسوم الملايين من أمتي.. أملهمتي.. في انسياب الحياة على شفتيك رأيت الجفاف.. رأيت سراب الحياة الشحيح.. ولهفة الظامئين وحلم الرمام.. وهذي النجوم عيون العبيد تطل علينا.. وقد جحظت بالعذاب المقل.. أفاتنتي.. ورأيت الرؤوس آلاف الرؤوس معلقة في فروع الشجر.. وقد شنقتها حبال الشتاء كشنق الثمر.. وسوقاً كبيرة يباع بها عرق الكادحين بسعر التراب ولحم البشر.. أفاتنتي.. ورأيت الظهور يقوسها كالهلال الصقيع فتبحث في الأرض عن نفسها.. وأيدي هزيلة تجوس أصابعها في الثرى.. تستدر الحصى درة اللقمة.. تسير بمصباحها المختنق لتبحث عن لقمة ضائعة.. ويأتي المساء فتأوي إلى جحرها جائعة.. وفي كفها حسرة ضارعة والتهاب الأصابع.. تطوي على جوعها يأسها.. كما تنطوي في الثرى قوقعة.. ويسدل ستر الظلام الغليظ على مشهد من صراع الحياة.. ليبدأ في الصبح فصل جديد.. فتمضي الجموع بمصباحها لتبحث عن لقمة ضائعة.. فهل أهب الكأس ألحانيه؟ وقد زرعوا أرضنا بالخراب! أحسناء ما غيرتني السنون.. أحبك ما زلت.. لكنني وهبت النشيد لهذي الجموع». في هذا المقطع وهو آخر مقاطع القصيدة وأطولها، يشرح الشاعر لحبيبته المزيد من تفاصيل البؤس ومعاناة الجموع، ويشتمل المقطع في تركيبه على أساليب وتقنيات المقاطع السابقة، كالغزل والأسئلة والعبارات الحادة، المستخدمة في وصف الألم والشقاء، ويبدو هذا المقطع أشد قتامة في تعبيراته، خصوصاً أن الشاعر اعتمد على إظهار التضاد والتناقض، بين الحب والألم وبين الغزل والمعاناة، فيحتوي البيت الواحد على صورتين متضاربتين، صورة حالمة رائعة الجمال، ينتقل منها بقسوة مفاجئة إلى صورة مريعة. يقسو نجيب سرور على كل شيء، على الكلمة والحبيبة والقارئ، ويقسو على نفسه أيضاً، لكن تلك القسوة كانت هي غاية ما يمكن أن يفعله، وأن يقدمه إلى البؤساء والمساكين، من ضحايا الاستبداد والظلم والقهر، والعبث بالبلاد والعباد.
كاتبة مصرية
“القدس العربي”