يأخذ القضاةُ في قاعات المحاكم بعين الاعتبار الحالة العقلية والنفسية لشخص ما ارتكب جريمةً أو جناية ما، إذ تجري إحالته إلى مختصّين لفحص إذا ما كان مسؤولاً عن أفعاله أم لا.
هناك قصص في التاريخ العربي عن دكتاتوريات تسامحت مع المجانين أو مع من ادّعوا الجنون، مثل قصة الحجّاج بن يوسف مع شيخ من بني عجل، وهناك دكتاتوريات تحاسب حتى المجانين لأنَّهم يشكلون تحدِّياً للسُّلطة، وليكونوا عبرة لمن يعتبر.
في الأنظمة العنصرية تجري تبرئة المُجرمين إذا ما ارتكبوا جريمتهم ضد أحد من أبناء المجموعة المختلفة التي تمارَسُ العنصرية ضدها، أو يكون الحُكم مخفّفاً، بحجّة أن الفاعل يعاني من اضطرابات نفسية، فلا يُقدَّمُ إلى محاكمة، أو أن يكون حكمه خفيفاً جداً.
يمارس العنصري المُجرم حياته كلها بصورة طبيعية مثل أي شخص آخر، مع أسرته والمحيطين به، ولكنه يضطرب عندما يلتقي بأولئك الذين يمارس عنصريته ضدهم.
يتوهَّم المريض بالعنصرية أنّه ينتمي إلى المجموعة الأفضل وهذا في الجينات، وأيُّ واحد منها، حتى ولو كان مجرماً ونصّاباً وقواداً، فهو أفضل من أي واحد من المجموعة الأخرى حتى ولو كان هذا عالماً متميّزاً وفاضلاً.
حتى عندما يرى فعل خير من أحد أبناء المجموعة الأخرى، فهو يعتبرها حادثة شخصية نادرة لا تنطبق على المجموعة، ولهذا كثيراً ما نسمع عبارة «لا يبدو عليك بأنّك عربي» عندما تفعل خيراً ليهودي عنصري! أو أن يكون الرَّد فيه إهانة غير مباشرة «بلا شك يوجد عرب طيّبون»، بمعنى آخر، أن العرب أشرار عموماً، ولكن يحدث لسبب ما أن يكون أحدهم طيّباً. وكي يتأكد العنصري من فاعل الخير هذا، فقد يسأله: هل أنت مسلم أم مسيحي وربما درزي؟ فإذا كان الفاعل مسلماً، أبدى دهشة أكبر، وقد يرى في أنّ هذه المساعدة تنطوي على خبث وأمر مُبيّت.
العنصري يرى في الآخر القُبح، وتستفزّه لغته بمجرد سماعها أو رؤيتها على لافتة، ويشمئزُّ من طريقة تناوله لطعامه، ومن طريقة لفظه للكلمات، وحتى إذا رآه يُقبّل ابنه فهو لا يرى فيه حناناً إنسانياً عادياً، ولا يؤمن بأنه يتألم لفراق أحبِّته، بل يعتقد أن ألمه وبكاءه تمثيل، فالآخر غير قادر على الحزن ولا على الفرح، لأن العنصري يجرِّده من مشاعره الإنسانية.
يرى العنصري في أبناء مجموعته أكثر إنسانية وقيمة من الآخرين، عندما يسمع بحادث طرق مثلاً، أو مصرع شخص ما في مكان عمل، أو كارثة حلّت في بلد ما، فإنّ أوّل ما يريد معرفته هو هويّة الضحايا، هل هم من جماعتنا أم من جماعتهم؟
تصوّر أن يقف أحدهم فوق جريح في الشارع بعد حادث طرق، ثم يلتفت ويسأل من حوله: هذا عربي أم يهودي؟
سوف يتألم كثيراً إذا كان المصاب من مجموعته، وسوف يعبّر عن هذا بالأسف الشديد ويستفزُّ الهمم لمساعدته، ولكنه سوف يتنفس الصعداء إذا عرف أنّ الضحية من الجماعة الأخرى. وإذا كان من المجموعات الفاشية، فهو لن يخفي فرحته لمصيبة الآخرين، فالمستوطنون مثلاً يطلقون المفرقعات فرحاً بهدم بيت فلسطيني أو سدّه بالإسمنت المسلح.
تكرَّر في أوروبا في السنوات الأخيرة جرائم ضد مسلمين، وأعلن أن منفِّذها مضطربٌ نفسياً، أما في المناطق الواقعة تحت الاحتلال الإسرائيلي، فلم تعد حاجة لادعاء الخلل النفسي، فأي ذريعة أخرى مقبولة.
لكن السّؤال هو لماذا اختار هذا «المضطرب نفسياً» قتل إنسان ينتمي إلى المجموعة الأخرى، فخطّط وتدرّب وقطع مسافة لأجل ارتكاب جريمته، وأعدَّ خطة مُحكمة للفرار من المكان، ولن يرتكب جريمة كهذه ضد أفراد المجموعة التي ينتمي إليها، بكل بساطة لأنه سويّ وعاقل في تعامله مع مجموعته، ويختل نفسياً فقط عند تعامله مع الآخر.
تقول دراسات إن الانحياز للمجموعة التي ينتمي إليها الإنسان هي أمر مفهوم وطبيعي، ولكن أن يكره الآخرين ويؤذيهم كي يعزّز انتماءه إلى مجموعته فهذه تصبح حالة مرَضية.
العنصرية المؤذية ليست وليدة ساعتها ولا ابنة سنتها الأولى، فهي نتيجة لتراكمات طويلة في التربية البيتية، وفي مناهج التدريس وفي الإعلام الرّسمي التي تقلل من قيمة الآخر وتسلبه إنسانيته، وتجعله اللص والقاتل والمعتدي والمغتصب، في كل الحالات تجعل من مجموعتها ضحايا للآخر وتتّهم الضَّحية بالعنصرية، حتى إنها تجعل من الدولة مسكينة وطيّبة وضحية لهذا الآخر، مثل ادعاء أن العرب الفلسطينيين يسرقون أراضي دولة إسرائيل، بحيث يصبح التخلص من الآخر مشروعاً وعملاً مقبولاً اجتماعياً.
تزداد العنصرية في تغوّلها كلما شعر الطرف الذي يمارسها بقدرة الضحية على الصمود وحتى الرّد، فهو لا يتقبل الضحية إلا خانعة، ولا يتخيّل أو يتقبل أن هذا الآخر القميء الحقير البذيء اللص المحتال قادرٌ على الرّد، ولهذا نسمعهم يقولون إن الرّد على الرَّد هو في المزيد من القوّة والعنف حتى تركيع الآخر.
هذه العنصرية لها ثمن، وهو أن الضَّحية ترى في هذا الذي يمارسها ضده أيضاً فاقداً لإنسانيته، وسوف يتطوَّر هذا الشُّعور كلما ازدادت العنصرية في تغوُّلها، حتى ترى الضحية فيها تلك الصفات التي رُميت بها، فالضحية سينظر من زاويته أيضاً أن هذا العنصري فاقد لإنسانيته، ولن يصدّقه إذا تألّم، وسيعتبره مصدر كل الشرور، وسوف يقول «لعنهم الله» كلّما ذُكر اسمهم، وسيقول أيضاً إذا رأى خيراً من أحدهم: «إن خِليت بليت»، وبالضبط تلك المقولة العنصرية: ليس كل اليهود سيئين فهنالك يهود طيّبون! وسيقول عندما يعامله يهودي بلطف: يا سلام، لا تشعر بأنّه يهودي أبداً. وقد تجد من يغالي أيضاً ويفرح في مصائبهم.
العنصرية ليست مقتصرة على قوميات ضد قوميات أو ديانات أو أعراق مختلفة، فقد تمارسها الطبقة الحاكمة في المجتمع والتي تستمتع بطيبات السُّلطة وإمكاناتها ضد شرائح من أبناء شعبها وقومها، وقد تكون موجّهة ضد منافسين لها على هذه السّلطة من أبناء قومها ودينها وجنسها ومواقعها الاقتصادية، وقد تتطور إلى العنف في بعض الحالات.
في النهاية، العنصرية ليست مرضاً عضوياً يولد مع الإنسان، بل هي قرار من المحيط والمجتمع وقيادته، ويمكن الشفاء منها من خلال التربية والتوجّه الرَّسمي من قيادات دولة أو مجتمع، فمقولة واحدة من قائد له اعتباره تجاه المجموعة الثانية ممكن أن تخفّف كثيراً من غلواء العنصرية، مثل امتداح أخلاقياتها وكرمها، أو حتى امتداح طعامها وحلواها وموسيقاها أو لغتها وشعرائها وأدبائها وفنونها وبعض عاداتها الجميلة، في النهاية كلنا بشر، وما أحوجنا إلى الإنسانية ونبذ العنصرية بكل أشكالها.
“القدس العربي”