عند سماع جملة «أرض المُلتقى وجهنم افريقيا» يميز السامع على الفور أن المتحدث يشير إلى دولة «جيبوتي» تلك الدولة الصغيرة التي تقع على مضيق باب المندب لكنها ذات أهمية تاريخية واستراتيجية عظمى. ولفهم المشهد الأدبي في جيبوتي، يجب أولا فهم طبيعة تلك الدولة التي تتميز بخصوصية شديدة.
فدولة جيبوتي التي لا تزيد مساحتها على 23200 كيلومتر مربع، ويسكنها نحو مليون نسمة، ويجاورها العديد من الدول؛ فهناك إريتريا في الشمال، وإثيوبيا في الغرب والجنوب، والصومال من الجنوب الشرقي. أما من ناحية الشرق، فهي تقع على مضيق باب المندب الذي يمكنها من أن تطل على كل من البحر الأحمر وخليج عدن، ما جعلها جارة لليمن التي تبعد عن سواحلها بنحو 20 كيلومترا فقط، بسبب وقوعها على مضيق باب المندب. ولهذا السبب سُميَت جيبوتي أرض الملتقى؛ لأن العديد من سكان جميع هذه الدول استوطنوا بالفعل في جيبوتي.
وعلى هذا الأساس، لفهم طبيعة الإنتاج الأدبي، من الواجب أخذ كل هذه الإثنيات في الاعتبار. أما عن تسميتها بـ»جهنم افريقيا» فسببه وقوعها على خط الاستواء الذي يجعل طقسها شديد الحرارة وشديد الرطوبة طوال العام. وتعد جيبوتي واحدة من الدول التي عانت من الاستعمار الفرنسي على مدار ما يقرب من قرن من الزمان؛ فقد احتلت فرنسا إثيوبيا من عام 1882 حتى نالت استقلالها عام 1997. وقد أطلقت فرنسا على مستعمرتها اسم «الصومال الفرنسي» واستمر هذا الاسم متداولا حتى عام 1967. وفي ما يبدو أن تلك المفاجآت في هذه الدولة الصغيرة لا تنتهي؛ فإلى جانب كونها دولة عربية لها مقعد في جامعة الدول العربية، فإن التنوع الثقافي فيها أساسه وجود مجموعتين عرقيتين رئيسيتين، وهما: العفر والصومالية (التي في الغالب تكون قبيلة عيسى). وبسبب الاضطربات بين هاتين القبيلتين، وأغلبها تسبب فيها الاحتلال الفرنسي، حسبما يؤكد عليه أهل هاتين العرقيتين نفسيهما، قامت حرب أهلية بينهما في مستهل عام 1991. أما التنوع الأكبر في الحياة الثقافية فمنشأه اتخاذ اللغة الفرنسية لغة رسمية للبلاد، وإن كان غالبية الشعب يتحدثون اللغة الصومالية، وتليها في الترتيب لغة «عفار» والبعض من الفريقين يتحدثون اللغة العربية. ولأن الإسلام هو الدين الأساسي الذي يدين به نحو 97% من السكان، صارت اللغة العربية ذات مكانة خاصة، واحتسبت لذلك لغة رسمية.
المشهد الأدبي في جيبوتي انعكاس لثقافة وحضارة شديدة التنوع، ولهذا إذا تم الاهتمام به جيدا، يمكن أن يصل لآفاق جديدة تضع جيبوتي على الخريطة الثقافية العالمية.
وبالتطرق للإنتاج الأدبي، يجب مراعاة أن هذا المزيج المعقد بين العرقيات واللغات أفرز أربع ثقافات، ولكل ثقافة لون أدبي خاص بها؛ فهناك إنتاج أدبي باللغتين الرسميتين الفرنسية والعربية، لكن مع هذا، هناك أيضا الأدب العفري والأدب الصومالي، وهما يشكلان واقعا لا يمكن الاستغناء عنه حتى في مفردات الحياة اليومية. ومن ثم، صار الأدب المكتوب موجودا باللغتين العربية والفرنسية؛ أما الأدب الشفاهي فهو الموجود في الثقافتين العفرية والصومالية. وعلى الرغم من الاختلافات الإثنية والعقائدية، إلا أن المجتمع الجيبوتي متجانس ثقافيا، والعديد من رواد المشهد الثقافي يروجون لفكرة التعايش الحضاري، ووجوب تقبل الآخر.
ويعد الإنتاج الأدبي المكتوب حديثا نسبيا، فالأساس هو الأدب العرقي الشفاهي، الذي يعتمد أساسا على الأقوال والأشعار ذات الأنواع المختلفة، ولهذا أصبحت للشعر مكانة لا يمكن أن ينازعه عليها أحد. ومن أعلام الشعراء في جيبوتي، علو براولي الدائم التأكيد أن جيبوتي هي الحاضرة الفنية والأدبية للجميع. وعلو براولي واحد من الشعراء البارزين الذي ينتمي للعرقية العفرية، وحاول طوال مسيرته الفنية والأدبية التي امتدت من سبعينيات القرن الماضي أن يثري الساحة الفنية بالتراث الفني والشعبي. وشهرة علو براولي ترتكز على ريادته للغناء المسرحي الاستعراضي بخفة ظله ونكتته الحاضرة، إلى جانب كونه من أهل الفصاحة والبيان. وكان له دور كبير للنهوض باللغة العفرية.
أما الكتاب الذين يدونون إنتاجهم الأدبي باللغتين العربية والفرنسية، فالكتابة ليست بالمهنة الرئيسية لهم، خاصة مع عدم وجود رعاية للأدباء وغياب وجود جوائز ولو حتى معنوية للكتاب، ولذلك، فإن في المشهد الأدبي المعاصر، للأدب باللغة العربية تكتبه أقليات بالمجهود الشخصي، وقد أصبحت المنصات الأدبية على الشبكة العنكبوتية متنفسا لهم للتعبير عن منتجهم الأدبي. ومن الجدير بالذكر أن الروائي محمود شامي يعمل مهندسا مدنيا، لكنه يعشق الأدب منذ أن كان في المرحلة الإعدادية بسبب قراءته للروايات، وعشقه لمشاهدة الأعمال الدرامية والأفلام، ومن ثم كتب الرواية. ويحكي محمود شامي أن موهبة السرد عنده وعند أقرانه نماها الدأب على سرد أحداث المسلسلات والأفلام للأقران والأصدقاء، في زمن لم يكن من الممكن رؤية الأعمال عند الإعادة؛ لعدم اختراع القنوات الفضائية حينها، الانتاج الأدبي للكاتب محمود شامي قليل نسبيا؛ حيث كتب روايتين مطبوعتين وله مجموعة قصصية لم يتم طبعها بعد. ومن الجدير بالذكر، هناك الكثير مثل الروائي محمود شامي ممن يكتبون باللغة العربية. ويعزو الروائي تشتتهم لعدم وجود برنامج ثقافي ترعاه الدولة، يساند الأدباء.
أما الإنتاج الأدبي باللغة الفرنسية، فعلى الرغم من كونه حديثا نسبيا، لكنه في ازدهار مستمر بسبب وجود مؤسسات دولية ترعاه وتقيم مسابقات لتشجيع تلك المواهب الأدبية، ناهيك عن توافر فرصة ترجمة الأعمال الأدبية للغات المختلفة. ويعد وليم سيد رائد حركة الكتابة الأدبية باللغة الفرنسية، فقد بدأ الكتابة منذ مستهل ستينيات القرن الماضي وتخصص في كتابة الشعر الذي يعبر فيه عن مشاعره بلغة رومانسية حالمة تتماهى مع الطبيعة، ولهذا رحب بإنتاجه الأدبي أهله من الأفارقة، سواء في جيبوتي أو الدول المجاورة، وكذلك طَرِب لإنتاجه الغرب. وتصدر وليم سيد ساحة الإنتاج الأدبي باللغة الفرنسية من عام 1959 حتى 1978.
وقد تسلم الساحة الأدبية بعده المبدع عبد الرحمن وابيري، الذي ولد عام 1965 في جيبوتي وعمل مدرسا للغة الإنكليزية، ويعيش حاليا في فرنسا. ويؤكد القائمون على الساحة الأدبية الدولية أن عبد الرحمن وبيري، موهبة أدبية فذَة يكتب بحذق ومهارة فائقة وتستطيع أعماله حصد الجوائز الأدبية العالمية والألقاب من العديد من العواصم العالمية الغربية، وترجمت أعماله لعدة لغات مختلفة، وتم تصنيفه واحدا من أهم خمسين كاتبا واعدا من قبل إحدى الدوريات الفرنسية.
المشهد الأدبي في جيبوتي انعكاس لثقافة وحضارة شديدة التنوع، ولهذا إذا تم الاهتمام به جيدا، يمكن أن يصل لآفاق جديدة تضع جيبوتي على الخريطة الثقافية العالمية.
كاتبة مصرية
“القدس العربي”